• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
 الانتظار المخيف

الانتظار المخيف


نظر حمزة حوله علَّه يستطيع أن يميِّز شيئاً ما في غرفتهم الغارقة في الظلام الدامس الذي يغرق فيه حي بابا عمرو!! فجأة شقَّ وهج ناري ساطع حلكة الظلام واقتلعه من أفكاره، ثم تلاه صوت انفجار هزَّ المكان.. صرخ مازن بالقرب منه هلعاً - من قوة الانفجار.. فأسرع حمزة وكمَّم فمه هامساً: لا تصرخ فيسمعك جنود الأسد ثم يأتوا ويقتلونا.. تهدج صوت مازن - ذي الثلاث سنين - ينتحب بشهقات مخنوقة ملؤها الفزع.

وضعت الأم الشابة صغيرتها الرضيعة في مهدها بالقرب منها وقربت صغيريها إليها.. وهمست: لا تخافا إن الله معنا ولن يتركنا وسينجينا من بطشهم وظلمهم.. ازداد دوي الانفجارات تحت وطأة المدافع التي تضرب بعشوائية وبصورة متلاحقة هنا وهناك.. يعززه هدير الرصاص مغتصباً من السكون سمته ومبدداً الشعور بالأمان.. لقد توالت الليالي المخيفة منذ أكثر من عام، لكن هذه الليلة تبدو الأطول والأسوأ.

اندفع صوت الجدة المقعَدَة الطاعنة في السن: عاصم..عاصم.. أين عاصم؟ ألم يعد عاصم؟

أشفقت الأم الشابة على والدة زوجها القلقة التي لم تكف عن تكرار السؤال نفسه منذ حلول الظلام.. أخذت الأم الشابة تُدافع أفكارها المتلاطمة المضطربة: لا يا أماه لم يعد بعد!! اسألي الله له السلامة ولا تجزعي، فلا بد أن يكون بالقرب من هنا.. في مكان ما، لكن هذا القصف العنيف حال بينه وبين القدوم إلينا!!

ردت الجدة بلوم على زوجة ابنها: أنت التي تدفعينه للمخاطرة بحياته عوضاً عن المكوث بين أبنائه يطمئنون بوجوده ويستأنس هو معهم، ثم أردفت بإصرار الأم الحرة وحرقة العاجز: والله لو كنت أستطيع المشي على قدمي هاتين لخرجت أبحث عنه وأحضرته يجلس بيننا أو أموت دونه.

تشتت أفكار الزوجة وتفطر قلبها حزناً، ثم قالت: أنت تعرفين ابنك أكثر مني، لا شيء يثنيه عن أداء واجبه مهما كانت الظروف.

همس حمزة متسائلاً: يا جدة.. من يداوي المصابين والجرحى الذين يتألمون وينزفون حتى الموت إن جلس أبي بيننا؟.. من يساعدهم إن لم يساعدهم أبي وقد أخبرنا أنه لا يوجد دواء كافٍ لهم في المستشفى الميداني.. فكيف إن لم يوجد هناك طبيب أيضاً؟!

نظرت الأم إلى صغيرها الذي التصق بها وقد تشرَّب أفكار أبيه، فازداد قلبها خفقاناً.. ضمّت ابنيها إلى صدرها وقد انفلت زمام دموعها فتساقطت على وجه حمزة.. مسحت جبينه المبلل بيدها وقبّلته.. بادرها حمزة بالسؤال: أمي.. لماذا تبكين؟ أبي بطل وسيعود إلينا بعد أن يداوي الجرحى ويطمئن على المصابين.. لعقت الأم شفتيها ثم بلعت ريقها المملح من دموعها وقالت: نعم يا بني إن أباك بطل وأنت كأبيك - بطل مثله.. تمتمت: إن غاب أبوك عنا فأنت هنا رجل البيت!!

تأوّهت الجدة من جديد وقالت: يا رب احمِ لي ابني.. يا رب خذ عمري وأعطه حتى يرجع لأبنائه.. يا رب.. غابت دعوات الأم العاجزة مع دوي المدافع الذي أمسى قريباً منهم.. تخبطت الأم الشابة في أفكارها واعتراها الخوف فضمت ابنيها.. التصقت بركن الغرفة أكثر، فالقصف بات على مقربة منهم.. سمعت بعض الصرخات تبدو وكأنها من بيت أبي لؤي أو منزل الحاج مصطفى في بداية الشارع المؤدي لمنزلهم!! تراءت صورة الحاج وبناته الست وشعورهم بالفزع يمزق وجدانها.. شعرت بالرعب، لا سيما أنه لا يوجد سوى الحاج مصطفى لحماية بناته إن هجم عليهن أوباش الأسد!!.. اعتصر فؤادها كمداً وغماً ودعت: يا رب سلمنا واحفظ أعراضنا وصن كرامتنا يا أرحم الراحمين.

صوت القصف كان مخيفاً!! فما أن تسقط قذيفة حتى يعلو الصراخ، ثم يختفي، وكأن القاطنين في الدار قضوا نحبهم!! أدنت طفليها منها أكثر ومدت يديها تنتشل رضيعتها التي انفجرت بالصراخ.. لكنها فجأة غابت عن الوجود وطواها الصمت.

فتحت الأم الشابة عينيها فإذا بالشمس قد توسطت كبد السماء وسطعت في عينيها.. أغمضتهما من الوهج المفاجئ، ثم فتحتهما من جديد وهي تشعر بإعياء شديد لعلها تدرك أين هي الآن!! فإذا بمنزلهم بلا سقف وقد تلاشت معالم غرفتهم إثر الدمار الذي لحق بها.. أغمضت عينيها وتدحرجت دمعات ساخنة.. امتدت يد قد ألفتها تمسح الدمع المتساقط.. فتحت عينيها فإذا بزوجها ينظر إليها بحنو وإشفاق ويزيح التراب المتراكم عن جسدها النحيل.. غمرت السعادة قلبها وابتسمت رغم الألم الذي كان يعتريها.. استشعرت الأمان رغم الدمار حولها.. حاولت النهوض لكن الألم كان أعظم من قواها الخائرة وجسدها المتهالك.

همس الزوج بحنان ممزوج بالألم: الحمد لله أنت بخير، لكن حاولي تحريك قدميك.. أخذ يساعدها على مد وثني قدميها الواحدة تلو الأخرى ليحدد مدى الإصابة التي لحقت بها وهي تتأوه من الألم.. نظر إليها وقال يطمئنها: الحمد لله أنت بخير، مجرد رضوض.

قاطعته وسألت باضطراب: أين أطفالي؟ هل هم بخير؟ أجاب بهدوء: الحمد لله.. نعم.. إنهم بخير.. واستطرد يقول: هل تستطيعين النهوض؟ شعرت أن مكروهاً ما قد حلَّ بأطفالها.. تراجعت بوهن للخلف وسألت بقلق: عاصم.. أين هم؟ هل حدث لهم أي مكروه؟ أجبني.. نظر إليها بإشفاق وقال: الحمد لله.. حمزة ومازن بخير وقد أصيبا ببعض الرضوض، لكنهما بخير.. حاولت أن تستشف الحقيقة من وجهه المنهك المجهد.. سألت بسرعة: ودعاء؟! تجاهل سؤالها وقام بتحريك قدميها.. أرخت قدميها وأبت تحريكهما حتى يجاوبها.. رددت من جديد: هل دعاء بخير؟ أجابها وقد أعياه التعب والإرهاق: الحمد لله هي بخير، ولا بد أن تكون بخير، فقد اصطفاها الرحمن عنده وترك لنا حمزة ومازن.. الحمد لله على كل حال.

تمتمت الزوجة وقد بدأ الدمع ينهمر منها مجدداً: الحمد لله.. جالت بنظرها من جديد في الغرفة المدمرة.. السرير الذي أمامها كان مليئاً بالقطع الأسمنتية المتناثرة!! فتسألت: أين والدتك؟ هل هي بخير؟

أجاب بإيمان وثبات: أسأل الله تعالى أن تكون بخير، ويوسع مدخلها، ويكرم نزلها، ويتقبلها عنده من الشهداء الأبرار.. أخذ يمد قدميها ويثنيهما من جديد.. شعرت بالتأنيب والألم لإلحاحها بالسؤال عن أطفالها ونسيانها الاطمئنان على والدته.. نظرت إليه بإكبار.. مدَّ يديه نحوها ثم أمسك بها ينتشلها من بين الركام.. وهي تتحامل على نفسها - من شدة الألم - للوقوف.. ثم همست له: كم أنت عظيم يا عاصم!!

:: مجلة البيان العدد 302 شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.

 

أعلى