• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ثلاث من الصبر!

أعظمَ مُكدِّرات الصبر ومداخل الشيطان على أهل البلاء؛ ألا وهو التحدُّث بالأوجاع والمصائب، وتزكية النفس؛ حيث يتسلّل الشيطان من هذا المنفذ للمبتلى؛ فيُملي عليه أحاديثه من سوء الظن بالله -تعالى-، وتهويل المصيبة في عينيه، فينثلم صبره، بل تتكدّر حياته، ويُكْثِ


أسند الإمام الطبري في تفسيره إلى سفيان الثوري -رحمه الله- في قول الله تعالى-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] عن بعض أصحابه قال: (يُقَالُ: ثلاثٌ من الصبر؛ ألَّا تُحَدِّثَ بِوَجَعِك، ولا بِمُصيبتك، ولا تُزَكِّي نفسَك)[1]، وقد ذكر هذا الأثر من المفسرين: عبدالرزاق، والرازي، وأبو حيـــان، وابن كثير، وغيرهم[2].

 وهذا الأثر يَرسم للمؤمنين نَهْج امتثال هذه الآية في حياتهم؛ فهو من قبيل التدبُّر العَملي؛ إذ يُراد منه: حثّ الناس على الائتمار بما في الآية، وتجسيدها خُلقًا وسُلوكًا.

ولفِقْه الأثر لا بُدّ من التفريق المتأمِّل بين نوعي الشكوى؛ فإما أن تكون إلى الله -تعالى-، وهي لا تُنافي الصبر. وإما أن تكون شكوى الله -عياذًا بالله- إلى خلقه، وهذه هي المقصودة بالذَّمّ في هذا الأثر[3].

ولا يتضح هذا إلا بالتفريق بين الشكوى للمخلوق وإخباره بالحال؛ فإخبار المخلوق بالحال لا يقدح في الصبر[4]؛ فما كان من شكوى المريض على طريق طلب الشفاء من الله، أو على غير طريق التسخُّط للقدَر والتَّضجُّر؛ فإنه جائز، فالألم لا يقدر أحد على رَفعه، والنفوس مجبولة على وجدان ذلك، فلا يُستطاع تغييرها. وإنما كُلِّف العبد أن لا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه؛ كالمبالغة في التَّأوُّه، والجزع الزائد[5].

 وإذا تقرر هذا؛ فالأثر خير عَوْن للمُتدبِّرين على تَمَثُّل الصبر الجميل؛ فببيان معناه يَسْهل الامتثال، ويَهُون الصبر، وتزدان أخلاق المتدبرين فَيُرَى القرآن في خُلقهم صبرًا وجلدًا على البلاء، وانفكاكًا من حديث التسخُّط والتوجُّع إلى الرضا عن الله وقدَره.

 وبَيَّنَ الأثرُ أعظمَ مُكدِّرات الصبر ومداخل الشيطان على أهل البلاء؛ ألا وهو التحدُّث بالأوجاع والمصائب، وتزكية النفس؛ حيث يتسلّل الشيطان من هذا المنفذ للمبتلى؛ فيُملي عليه أحاديثه من سوء الظن بالله -تعالى-، وتهويل المصيبة في عينيه، فينثلم صبره، بل تتكدّر حياته، ويُكْثِر الالتفات إلى ما عند الناس.

وهذا -بميزان العقل السليم- أعظم من مصيبته؛ التي لو التزم فيها بالصبر الجميل، لكانت له مرقاة إلى الكمال، ولانقلبت في حقه من مِحْنة إلى مِنْحة.

وهذا الفَرْق هو الفرق بين المؤمن وغيره في الحياة مع الله والسير إلى الدار الآخرة، ولقد صدق من قال: «عنوان السعادة في ثلاث: مَن إذا ابتُلِيَ صبَر، وإذا أذنَب استغفَر، وإذا أُعطِيَ شَكَر».

 


 


[1] تفسير الطبري (13/41).

[2] تفسير عبد الرزاق (2/208)، تفسير الرازي (18/431)، تفسير أبي حيان (6/251)، تفسير ابن كثير (4/375)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (4/514) إلى ابن المنذر.

[3] يُنظر: عدة الصابرين، ابن القيم (ص18).

[4] يُنظر: المرجع نفسه (ص271).

[5] يُنظر: فتح الباري، ابن حجر (10/124).


أعلى