قد تزيد مصيبته وتربو على سيئاته؛ فيكون ما زاد منها داخلاً في القسم الأول؛ رفعة للدرجات والمنزلة، وكلّ ذلك بميزان عدل دقيق من الحكيم العليم الرؤوف الرحيم،
تنزل المصيبة والكارثة الواحدة العامة فتتعدَّد متعلقاتها بالناس؛ فهي عقوبةٌ لهذا،
وكفّارةُ ذنوبٍ لذاك، ورِفْعةُ درجةٍ لثالث، وعِبْرَةٌ وعِظَةٌ وتخويفٌ لرابع.. حسب
أحوالهم هم، مع أنَّ المصيبة واحدة!
ومن بين التطبيقات على هذه القاعدة: كوارث الأرض، فقد مَنَّ الله علينا بخَلْق
الأرض لنا: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10]، ومكَّننا فيها
ورتَّب لنا فها المعايش: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا
لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]، وأقرَّها
لنا: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64]، فلا
تَميد: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]،
ولا تضطرب ولا تزول: {إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن
تَزُولا} [فاطر: 41].
وقد يحدث لهذه الأرض، بأمر الله تعالى، ما يحدث؛ كالزلازل المدمرة، والبراكين
الثائرة. أو فوقها من أعاصير عاتية، أو فيضانات مجتاحة.
والمصائب العامة والخاصة تتنوع متعلقاتها، مع أن المصائب العامة واحدة، وقد تعظم
على شخص دون آخر:
1- فالمصائب للمؤمن الصالح رِفْعَة لدرجاته ومنزلته، كما قال رَسُول اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم :
«مَا
مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى؛ شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إلا كفَّر الله بها
سيئاته، كما تحطُّ الشجرة ورقها»[1].
وعن مُصْعَب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أَشدُّ بلاءً؟ قال:
«الأنبياء،
ثم الصالحون، ثم الأمْثَلُ فالأمثلُ من الناس، يُبتلَى الرجلُ على حسب دِينه؛ فإنْ
كان في دينه صلابة زِيدَ في بلِائه، وإن كان في دِينه رِقّةٌ خُفِّف عنه، وما يزال
البلاءُ بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة»[2].
ولله في الزلازل شهداء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أَنَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم قَالَ:
«الشُّهَدَاءُ
خمسة:
المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[3].
2- وهي للمؤمن العاصي كفارة لسيئاته وتطهير لذنوبه حتى يَرِد القيامةَ طاهرًا
مُطهَّرًا مستحقًّا لمنزلته التي أعدَّها الله له برحمته -سبحانه-، كما في آخر
الحديث السابق.
وقد تزيد مصيبته وتربو على سيئاته؛ فيكون ما زاد منها داخلاً في القسم الأول؛ رفعة
للدرجات والمنزلة، وكلّ ذلك بميزان عدل دقيق من الحكيم العليم الرؤوف الرحيم،
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: ٨].
3- وهي للكافر جزاء وعقوبة، فلما ذكر الله تعالى المكذّبين، قال سبحانه:
{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40].
وكانت الزلازل، ولا تزال، عذابًا يرسله الله على مَن يشاء مِن خَلقه، فكانت عذابًا
لثمود لما كذَّبوا نبيهم صالحًا -عليه السلام-: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 87]، ولمدين قوم شعيب، لما
كذّبوه -عليه السلام-: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ
جَاثِمِينَ} [الأعراف: 19، العنكبوت: 73].
4- وهي لأصحاب القلوب اليَقِظَة عِبْرةً وعظةً: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ
سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ
لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
السُّفَهَاء مِنَّا} [الأعراف: 155].
والمؤمن لا يبور، فكيفما تقلَّبت به الدنيا فهو على خير، فعن صهيب -رضي الله عنه-،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«عجبًا
لأمر
المؤمن!
إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إنْ أصابته سراء شكَر، فكان خيرًا
له. وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له»[4].
فليكفَّ أولئك الذين يَحشرون المصائب في سلَّة واحدة، ويَحْصرونها في باب واحد.
ومع هذا كله فالمسلم يتألّم لمُصَاب مَن يُبْتَلى، ولا يَشْمت بأخيه المسلم، ولا
يَتشفَّى منه لخلافٍ أو تقصير، فموقعه في واحدة من بين هذه المنازل، وقد يكون خيرًا
عند الله من هذا الشامت؛ فإما صالحٌ مرفوع الدرجة، وإما عاصٍ مُكفَّرة عنه سيئاته.
فما كانت الشماتة يومًا من أخلاق أهل الإيمان.
وينبغي للمسلم أن يُحرِّز نفسه من المصائب، فعن عبد الله بن عمر يقول: لم يكن رسول
الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلاء الدعواتِ، حين يُصبح وحين يُمسي:
«اللهم
إني أسأَلك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أَسأَلك العفو والعافية في ديني
ودنياي وأَهلي ومالي، اللهم استر عَوْرَاتي، وآمِنْ رَوْعاتي، اللهم احفظني من بين
يديَّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأَعوذ بعظمتك أن
أُغْتَال
من تحتي»،
قال: يعني الخَسْفَ[5].
فعلى المسلم استشعار قدرة الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: 65]،
كالخسف والزلزال.
اللهم الطف بنا وبإخواننا المنكوبين؛ عَظِّم أجورهم.. ارحمْ أمواتهم.. اشفِ
المصابين منهم.. يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري (5324)، ومسلم (2571).
[2] أخرجه الإمام أحمد (1481)، وصححه أحمد شاكر.
[3] أخرجه البخاري (624)، ومسلم (1914).
[4] أخرجه مسلم (2999).
[5] أخرجه الإمام أحمد (4785) وصححه أحمد شاكر.