ولنا فيما يجري في سوريا مثال رابع لصراعٍ يُدار بإبداع أمام تحالف يَعرف ما يريد، ولكنه يتخبَّط في محاولة تحقيق الأمنيات، وما دامت الأحداث في أوّلها، فإليكم مجملها؛ فبعد تطبيل كبير لمسار التطبيع مع النظام الجديد، مع التأكيد على الاحتفاظ بالجولان المحتل
مِن الحِكَم المُتداوَلة التي تُوضّح أهمية حِرمان الخصم من نقطة تفوُّقه؛ قولهم:
«لا
تأتِ الفَرسَ من الخلف، ولا تأتِ الثورَ من الأمام».
ولذا يجب دراسة ركائز تفوُّق الخصوم وتحييدها. ونعني بتحييدها إمّا تدميرها أو
إلغاء تأثيرها؛ بحيث نَجُرّ الخَصْم إلى ساحة حرب لم يتعوّدها، ولم يَبْنِ هياكله
الضخمة على أساسها؛ فطالبان كانت هدفًا سهلًا عندما كانت ظاهرة، ولكنّ إلغاء وجودها
العلني، واستمرار وجودها العملي؛ أوقع الخصم في مأزق إستراتيجي؛ فالطيران أصبحت
مهمته التدخُّل لإنقاذ قواته على الأرض التي انتهى بها الحال إلى التحصُّن بقواعدها
في حال توتُّر دائم، وردود أفعال إجرامية تزيد من ولاء الناس لطالبان التي زادت
قوتها لدرجة أنها فتحت قنوات اتصال سرّية مع قادة البلاد من شيوخ القبائل وقياداة
الجيش، وحتى الرئيس؛ لإحكام الحصار على الغزاة الذين اضطروا لإجراء مفاوضات طويلة
مع طالبان للخروج الآمِن.
وعليه، فالقوة العسكرية لم تَعُد مُجدية في صراعٍ يُدار بطريقةٍ إبداعيةٍ.
وقريب من هذا المثال: إدارة الصراع في السودان، فمن عملية سريعة للدعم السريع
المتفوّق على الجيش الذي تم إضعافه بدرجة كبيرة، إلى حرب شاملة يَخُوضها الدعم
السريع وحلفاؤه أمام خصم لم يكن بالحسبان؛ فعمليات القتل والتهجير التي أصبحت سمة
ملازمة لعمليات الدعم السريع؛ كانت دافعًا للتحوُّل التدريجي للصراع إلى صراع وجودي
بين الدعم السريع وحلفائه وداعميه، مع شعبٍ مُسلّح ومُؤدلج، وَاجِهَتُه الجيش الذي
تحوَّل من جيشٍ نظاميّ مستهدَف بالإلغاء عن طريق ما يُسمَّى بـ«إعادة
الهيكلة»،
وعدده لا يتجاوز خمسة وثلاثين ألف جندي، إلى جيش شعبي عدده قريب من خمسمئة ألف.
ونحن هنا ندعو لمن كانوا وراء هذا المشروع الجبار الذي قلب هرم السلطة التي أصبحت
تُدار من تحت، فلم يَعُد الضغط الخارجي مُجديًا مع مَن هم فوق.
وثالث الأمثلة الناجحة لصراع الأمة المبتلاة المستضعَفة أمام الغزو الصليبي اليهودي
في فلسطين؛ فخلال سنتين كان الصراع الدموي قائمًا ومستمرًّا بين جيش متفوّق مدعوم
علنًا وبقوة من قوى الصليب كلها، انتهى به الحال إلى استهداف خيام النازحين والجوعى
الذين يصطفون في انتظار المساعدات، وهي صورة تُعبِّر عن الإفلاس المهني والأخلاقي
يقابلها ثبات وتيرة الأعمال القتالية البطولية المبدعة والمُصوّرة لتوثيق نزيف
العدو المستمر الذي حُوصِر في مدرعاته في لهاثٍ دائمٍ بحثًا عن العدوّ الذي يُحَسّ
ولا يُرَى.
وإذا كانت وسيلة تعبير الجنود عن رَفْضهم للحرب بهذا الأسلوب هو الانتحار، فسيأتي
اليوم الذي يكون التعبير عن الرفض بالتمرد والعصيان، فالقوة المطلقة العمياء تَمنح
صاحبها شيئًا من الجبروت والاستخفاف بالخصوم، ولكنها لا تَجلب النصر.
ولنا فيما يجري في سوريا مثال رابع لصراعٍ يُدار بإبداع أمام تحالف يَعرف ما يريد،
ولكنه يتخبَّط في محاولة تحقيق الأمنيات، وما دامت الأحداث في أوّلها، فإليكم
مجملها؛ فبعد تطبيل كبير لمسار التطبيع مع النظام الجديد، مع التأكيد على الاحتفاظ
بالجولان المحتل، بل وفرض الحماية على السويداء الذي يُراد لها أن تكون تابعةً لهم،
وخالصة لأتباعها من الدروز، ومع سقوط اليهود في وَهْم القوة تم إجلاء الجيش والأمن
السوري من السويداء بالقوة، وضرب مراكز القرار الحيوية في دمشق؛ من قصر الشعب،
ورئاسة الأركان، ووزارة الدفاع، بل وزاد لديهم وَهْم القوة لدرجة تكرار ما تعوّدوا
عليه في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وغزة؛ فقاموا بحملة قتل وقطع رؤوس الأطفال، وبقر
بطون الحوامل من سكان السويداء من البدو، وتصويرها ونَشرها؛ لبثّ الرعب.
والذي حصل هو العكس؛ ففزعة العشائر هي بداية صراع جديد تَخُوضه الأُمَّة في الشام؛
فراية الصراع الجديدة تَرفعها الشعوب السُّنية، وهي حرب غير متناظرة جديدة لن
تستطيع
«إسرائيل»
وأمريكا وحلفاؤهما وأتباعهما تحقيق أيّ انتصار إستراتيجي فيها.
إنّ العاقبة للمتقين، والله -سبحانه- هو الذي يُهيِّئ الأسباب، ويُقدِّر المقادير
والآجال، وعلى الأُمَّة أن تتسلح بالصبر والتوكل على الله تعالى، وتأخذ بأسباب
النَّصر، وتعلم أنّ كل شيء عند الله بمقدار؛ قال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾
[هود: ٤٩].