ليت الأرض فُتِحَتْ وابتلعتها، لكان خيرًا لها من شراسة هذه الرصاصة الطائشة، التي أصابت هذا الحبّ التليد في أيامه الأولى، وأصابت عشهما الزوجي فترة التأسيس والبناء!
طَوَت توبة جميع صفحات الماضي، ومنها نزوة مغلّفة بقناع الحُبّ، اقترفتها عن طريق
الخطأ، وانزلقت منزلقًا فيه نصيب من الحرام، لكن دون توغُّل فيه، كان ذلك في سنّ
متهورة مع شاب متهور يُدعى سراب.
فلما استفاق ضميرها ندمت وتابت، وعادت إلى فِطرتها السليمة الطيبة الذكية المستسلمة
لربها قلبًا وقالبًا وطبعًا، كيف لا ولها ربٌّ يقبل التوبة صباحًا ومساءً، ليلاً
ونهارًا؟
وبعد فترة معتبرة، وهي على هذه الحال السوية التقية، انبثق نور هادئ من تلك الظلمة
الحالكة، كأنه مكافأة لها من السماء على النقاء الذي بات يسكن نفسها، والصفاء الذي
احتضن قلبها..
إنه شاب وسيم ذو خُلق قويم، ورزق كريم، تقدَّم لخطبة توبة؛ فقبلته زوجًا على كتاب
الله وسُنة رسوله، وتم عقد الزواج كي يخرج الحبيبان إلى سعة الأرض، تحت مظلة
السماء؛ حيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والسكينة تحوم حولهما تُظللهما بجناحها
كجناحي فراشة الطاووس، والمودة تعيش بين أحضانهما، مثل نحلة تسقي حبهما، من عسل
مختلف ألوانه، فيه شفاء لكل شقاء، ورحمة غطّتهما، مثلما تغطي الأم وليدها خوفًا
عليه من شراسة البرد القارس..
باختصار حُبّ حقيقيّ شرعيّ حلال، انتعش بالفعل بين توبة الفتاة الجميلة الطيبة،
ومُصعب الشاب الوسيم الكريم، ذي السمت الحسن والسلوك المستقيم.
يتحدّثان في هدوء وانسجام، في قلب حديقة عمومية غنّاء، وفي قمة النشوة بحبهما
المبارك ربانيًّا؛ إذ ببائع حلوى متجوّل يقف بالقرب منهما، طامعًا في أن يشتري هذا
الزوج السعيد منه بعض حلوياته الشهية المثيرة، مستفزًّا شيمة الكرم لزوجٍ شهمٍ،
وفعلاً نجح في مسعاه الماكر؛ حيث خاطبه مصعب بأدبٍ:
- من فضلك! أريد قطعتين...
- حاضر سيدي...
وما أن رفع رأسه كي يعطي الزوجين قطعتي الحلوى، حتى نطق لسانه، بجهالة ووقاحة ودون
شعور منه، كأنها فلتة لسان زائغة:
- توبة.. توبة، كيف حالك يا توبة؟!
فاحمرَّ وَجْه مُصعب غضبًا، ثم خاطبها قائلاً: ماذا؟!.. هل تعرفين هذا؟ يشير إلى
سراب بائع الحلوى.
أدرك سراب الجُرْم الذي فعَل، فهرول مسرعًا مغادرًا المكان بخطًى تحاكي سرعة
السحالي على رمال الصيف الساخنة..
أما توبة فجلست جلسة القرفصاء تبكي وسؤال مصعب يتكرر على أعتاب أذنيها..
ليت الأرض فُتِحَتْ وابتلعتها، لكان خيرًا لها من شراسة هذه الرصاصة الطائشة، التي
أصابت هذا الحبّ التليد في أيامه الأولى، وأصابت عشهما الزوجي فترة التأسيس
والبناء!
أجابته بصدق وعفوية كعادتها، بعد صمتٍ طويلٍ ممزوج ببكاء وأنين:
- تلك خطيئتي الأولى والأخيرة في سنّ التهور أيام مرحلة الدراسة الإعدادية... لكن
كان خطئًا محدودًا وبَعده تُبتُ فتاب الله عليَّ، وقبل ذلك الخطأ وبعده كنت توبة
التي عرفتها وتزوجتها...
قاطعها بسخرية وتهكم:
- هذه أُولى الخطايا وليس آخرها... أنا لستُ مغفلاً ولا أَبْله... اعتبري أن كل شيء
انتهى بيننا، أنت طالق!
موعدنا قاضي الأسرة...
اغْتِيلَ هذا الحبّ التقي النقي، برصاصة سراب الغبي العيي، في لحظةٍ كان كل شيء
زكيًّا بهيًّا!...
أما كان على هذا المغفل، أن يستر ما مضى، ويستره الله في الدنيا والآخرة، ويعتبرها
مثل أُخته... ويبيع الحلوى، وينصرف إلى حال سبيله، وقد سلك مسلك أهل النُّهَى، وسار
على نهج أهل التقى... لكنَّه تصرَّف بغباء وزيغ الهوى، فكانت نارًا تلظَّى على عُشّ
أُصيب في المعنى والمبنى!
بعد هذه الفاجعة التي أصابتها، وبعد خلوة مع نفسها دامت أيامًا وأيامًا، طلبت توبة
من أبيها رفيق، أن يهاجروا إلى مكان آخر، بعيدًا عن هذه المدينة الصغيرة، التي
تُذكّرها دومًا بما مضى، ثم استشهدت لأبيها بالرجل الذي أذنب في قرية، فسأل أحد
العلماء الحكماء عن إمكانية التوبة، فأجابه بأن باب التوبة مفتوح دومًا، لكن نَصَحه
أن يهاجر من القرية التي أذنب فيها...
تبسَّم الأب الحنون في وجه بُنَيّته، مُعجبًا بقوة فقهها وتفقُّهها في دينها،
هامسًا في أُذنها:
- لك ذلك يا أميرة!
فكان لها ذلك فعلاً، وبدأت صفحة جديدة من جديد، بإيمان قويّ حديد، وقلب سوي زهيد،
وفكر غنيّ سديد، تاركة القَدر الحكيم يكتب لها ما تبقَّى من صفحات حياتها، ويرسم
لها خيرًا مما كانت تنتظره، يُعوّضها عن كل ما صرَفه عنها، ولعلّ خيرها في غير ما
كانت ترغب فيه، وقد قدَّر الله وما شاء فعل.