إحدى أهم القضايا التي تُركّز عليها منظمات الدبلوماسية الروحية الأمريكية في الرهان على إحداث حالة إرباك تمسّ بعقائد المجتمع المسلم هي عملية ممارسة الشعائر والعبادات
العنوان الأكبر الذي تتستر خلفه برامج الدبلوماسية الروحية هو -كما تقول سوزان
هايوارد-
«تعزيز
الفهم العام للدِّين في خدمة عالَم عادل يسوده السلام».
ويتم ترجمة هذا العنوان الكبير إلى جزئيات صغيرة من خلال برامج يتم تنفيذها عبر
محترفين ضِمْن أُطُر السياسة الخارجية والبرامج الحكومية خصوصًا في القطاع
الإنساني، سواء من خلال برنامج الولايات المتحدة للسلام، أو المعهد الأمريكي
للسلام.
يعرف مفهوم
«محو
الأمية الدينية»
وفق النهج الأمريكي الرسمي على أنه:
«استهدافٌ
واضح وصريح للتأثيرات الكبيرة التي يتركها الدِّين والهوية الثقافية على العلاقات
الدولية في جميع أنحاء العالم».
ووفقًا لهذا المفهوم فإن التشخيص الأمريكي لهذا الإطار على أنه مرض خطير يجب
استئصاله والتخلص منه، وتبرير هذه الخطوة يتعلق دائمًا بالفهم الخاطئ للمعتقدات
الدينية، مما يؤثر في عرقلة مساعي النظام العالمي لنشر السلام والديمقراطية
والتنمية.
تقول سوزان هايوارد -المدير المشارك لمبادرة محو الأمية الدينية في مدرسة اللاهوت
بجامعة هارفارد، وكبيرة المستشارين في معهد السلام الأمريكي-:
«إن
الدبلوماسية الأمريكية الناعمة تستخدم صانعي السياسات الأجانب الذين يستخدمهم
النظام الدولي وطلاب البعثات الدولية لتأسيس خطاب قائم على استهداف [الفهم الخاطئ
للدين]، وتطبيق نظرية الأمية الدينية».
لذلك فإن التعريف الذي تتبنَّاه مدرسة اللاهوت بجامعة هارفارد للقضاء عن الأمية
الدينية هو نفسه الذي تتبنَّاه الأكاديمية الأمريكية للدِّين. ويركّز هذا التعريف
على
«تحليل
التقاطعات الأساسية بين الدين والحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية من خلال
مسارات متعددة»،
ويتم بناء التحليل وفقًا لثلاثة مسارات بحسب هايوارد؛ الأول يتعلق بالنهج الطائفي
أو الموضوعي، والذي يقارن ممارسات الشعائر الإسلامية في نيجيريا والولايات المتحدة.
والمسار التحليلي الثاني مرتبط بمنهج الدراسات الدينية أو المسار الوظيفي، وهي
طريقة تتبع الأنماط السلوكية للأديان في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
أما المسار الثالث فهو نَهْج المشاركة الدينية، وغالبًا ما يتم تنفيذه من خلال
أدوات الدبلوماسية الناعمة التي تعتمدها الخارجية الأمريكية؛ سواء من خلال تبنّي
قضايا تتعلق بالحرية الدينية، مع الأخذ بالاعتبار الجانب القانوني الذي يحمي هذه
التحركات مثل ملف حقوق الإنسان.
النظرية الأمريكية التي يتم الاعتماد عليها في تشويه المسار العقائدي للأديان،
وخصوصًا الإسلام، بناءً على طبيعة الاستهداف تعتمد على محور رئيسي ومهم؛ يتعلق
بتفسير الدين على أنه مجرد تقاليد يتم توارثها مع مرور الأجيال، وبالتالي فهي قابلة
للتغيير، وتُصبح مع مرور الوقت ذات بِنْية هشَّة وقابلة للتناقض، لا سيما في
تأثيرها الاجتماعي، وهذا الأمر ينجح في إحداث تأثير كبير من حيث المساس بالعقائد
الثابتة لدى المجتمعات المتدينة.
إحدى أهم القضايا التي تُركّز عليها منظمات الدبلوماسية الروحية الأمريكية في
الرهان على إحداث حالة إرباك تمسّ بعقائد المجتمع المسلم هي عملية ممارسة الشعائر
والعبادات، والفرق بين تعاطي المسلم الأمريكي مع دِينه مقابل نظيره المسلم الذي
يعيش في نيجيريا؛ فالتأثير على الطرفين يحدث بواسطة أدوات تعلُّم العقائد الدينية،
ويشمل ذلك: العلماء والدعاة، والمطبوعات، ووسائل الإعلام المرئي، وغيرها من وسائل
صناعة التأثير، بحسب مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي الذي يُعدّ أحد أبرز خلايا
التفكير لدى الدبلوماسية الروحية الأمريكية.
إحدى أهم القضايا التي أشار إليها الباحث الكاثوليكي سكوت أبلبي على أنها إثبات
لنظرية التشكيك في ثبات العقائد هي ما يتعلق بملفات حقوق الإنسان وقضايا الهجرة؛
فالولايات المتحدة لا تمتلك موقفًا واضحًا تجاه الحقوق الإنجابية؛ فهي تسمح بالشذوذ
الجنسي، وفي نفس الوقت تمنع تعدُّد الزوجات للمسلمين، وكذلك الكنيسة الكاثوليكية
أجازت مؤخرًا الشذوذ، لكنها ترفض الزواج من غير المسيحيين، وفي نفس الوقت تَعتبر
عقد الزواج غير منحل.
بيتر ماندافيل هو باحث في مشروع العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي التابع
لمعهد بروكنجز، وعمل عضوًا في مكتب اللاهوت والشؤون العالمية التابع لوزيرة
الخارجية هيلاري كلينتون في عهد الرئيس باراك أوباما، يتبنَّى أحد أهم مسارات محو
الأمية الدينية في الدبلوماسية الأمريكية الناعمة، وهذا المسار يتعلق بالتقليل من
أهمية دور الدين في المجتمع؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر يقول بأن أزمة المسلمين في
ولاية آراكان بميانمار، لا علاقة للدين بالأمر، بل إن الأسباب الدينية كانت تلعب
دورًا في جعل المجتمعات الكبرى تتقبل العنف والتطهير العرقي ضد المسلمين هناك.
ويضيف: إن المبالغة في التأكيد على الدور الديني وتبنّي نظرية وجود توجُّه بوذي
لإبادة المجتمع المسلم في ميانمار، فإن ذلك سيسمح بوجود أدوات وموارد للحرية
الدينية يمكن أن تكون أدوات ضغط يتم استخدامها للتأثير على الوضع السياسي هناك؛
فهناك نزاعات أخرى كانت قائمة في تلك المنطقة أبرزها المصالح الاقتصادية للعسكر
التي كان يهددها وجود الروهينغا في تلك المنطقة، لا سيما خطوط أنابيب النفط التي
كان مخطَّطًا تشييدُها، بالإضافة إلى الصراع بين الجيش والرابطة الوطنية
للديمقراطية.
وكذلك يُنْظَر إلى مسار الدراسات الدينية على أنه أحد أدوات محو الأمية الدينية،
ويمكن الاستشهاد بالصراع البروتستانتي الكاثوليكي من خلال ما يُعرَف بــ«عصر
التنوير الأوروبي»
وانعكاسه على الأنظمة والقوانين السياسية والاجتماعية الأوروبية الحالية، وكذلك
يمكن إيجاد الكثير من النماذج في عالمنا الإسلامي، وتأثير الاستعمار في تعزيز دور
الأقليات وَفْق أُطُر قانونية تم ابتداعها عقب رحيل الاستعمار أو بإيعازٍ وضغطٍ مِن
قِبَل أدواته، وعلى سبيل المثال لا الحصر: وجود هيمنة الطائفة النصيرية على النظام
السياسي في سوريا، وتمكين الشيعة والمسيحيين في مؤسسات الدولة اللبنانية، والأقلية
الصربية في شمال كوسوفو المدعومة بقرارات من الأمم المتحدة، وطرق صياغة أنظمة
الأحوال المدنية في الكثير من دول العالم الإسلامي، فقبل عدة أشهر قدمت الوكالة
الفرنسية للتنمية دعمًا ماليًّا للأردن بقيمة 150 مليون يورو مشروطًا بإنفاقه على
الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي، وكانت أهم البرامج التي ركّزت عليها الوكالة
هي ما يتعلق بــ«تعزيز
المساواة بين الجنسين».
لقد انتهجت الكتلة الغربية نهجًا واضحًا، وروَّجت له بصفته أحد أهم أسباب نجاحها،
وهو الفصل بين سلطة الدين وسلطة الدولة، واعتبار الدين أحد مُعطّلات الاستقرار
السياسي، ومارست الكثير من الضغوط في مسارات سياسية وثقافية وفكرية للترويج لهذا
الأمر في العالم الإسلامي، وتم التلاعب بالقوانين التشريعية بما يخدم هذا المسار
بصور جزئية تخرج في نهاية الأمر نتائج تراكمية مثل
«الزواج
المدني»،
وإلغاء دور الشارع الديني، لذلك كان هذا الأمر يؤكد البناء الشامل لهدم الحضارات
الدينية، وخصوصًا الإسلام، وهو العلمانية السياسية.
يمكن اعتبار نظرية محو الأمية الدينية أحد أهم أدوات العلمانية الحديثة، بغضّ النظر
عن تعريفاتها المختلفة، ففي سياق الدبلوماسية الروحية يتم الترويج لشخصية العلماني
على أنه عقلاني منظّم ومتمدّن في طباعه، بينما يُنظَر للمتدين على أنه مضادّ لكل
ذلك. ما يجري هو عملية منظمة تعتمد على المسوح التاريخية والدينية والاجتماعية،
وتعمل على إنضاج ممارسات وقِيَم يمكن أن تدفع المجتمعات إلى قمة هرم العلمانية في
سياقات مرتبطة بنبذ الصراعات وتقديس حقوق الإنسان؛ بغضّ النظر عن العناوين الفرعية
التي تندرج تحتها مثل
«حقوق
الشواذ جنسيًّا»
و«المساواة
الاجتماعية»،
وإبراز الأقليات الدينية داخل المجتمعات الإسلامية، وحماية هذه الفئات عبر
التشريعات والقوانين الوضعية والأنظمة واللوائح التي تضعها منظمات الأمم المتحدة
وتفرضها على السلوك الإنساني بلغة العقوبات..
وكل ما سبق يمكن أن يُوصَف بأنه السلوك التأسيسي للعلمانية في المجتمعات الإسلامية.
لذلك فإن مدرسة اللاهوت في جامعة هارفارد تَعتبر الدِّين هو العدوّ الأول للحداثة،
ويُستثمَر هذا العنوان العريض مِن قِبَل الدبلوماسية الأمريكية عبر قوانين الحرية
الدينية التي تدعمها في النظام الدولي.
يُفسِّر ويليام كافانو الباحث في الدراسات الكاثوليكية في كتابه
«أسطورة
العنف الديني»
أسباب الترويج لنظرية النظام العلماني حول فصل الدين عن السياسة، بالقول:
«لقد
استولت الدولة الحديثة على الدين لتصبح هي الدين».
ويستشهد بدور الكنيسة في الحروب الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر
بالقول:
«لقد
كانت الكنيسة متورطةً في العنف بشكل كبير؛ لأنها أصبحت بصورة أو بأخرى جزءًا من
الدولة والسلطة والنفوذ»،
لذلك سعت المنظومة الغربية بكاملها إلى إنهاء الدور العالمي للدين، وإبراز الهوية
القومية لها؛ لإبراز وتشكيل الهوية العلمانية والقومية للشعوب والترويج لشعارات
مثل:
«الموت
في سبيل الوطن»
كبديل عن
«الموت
في سبيل الله».
أحد أهم وأخبث أدوات معهد السلام الأمريكي حول تطبيق نظرية محو الأمية؛ هي الانخراط
في أوساط الجماعات الدينية، وتحفيزها على المشاركة في البرامج التي يتم تنفيذها،
لكن المعهد بأدواته المختلفة يستهدف بهذا المسار فقط الجماعات البوذية المعادية
للمسلمين في ميانمار مثل حركة
«Ma
Ba Tha»؛
فهذا الخيار محصور في الأديان الوثنية التي يمكن السيطرة عليها والتحكم في
قراراتها، بينما يتجنّب السلوك الأمريكي الإسلام؛ فأحد أوْجُه الحرب الأوكرانية
محاولة روسيا تبريرها شعبويًّا على أساس ديني، وإبراز دور البطريرك كيريل والكنيسة
الأرثوذكسية فيها، وتبريرها بانفصال الكنيسة الأوكرانية، ومحاولات الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين الإشارة إلى البعد القِيمي من خلال إصدار قوانين تمنع الشذوذ الجنسي
في بلاده، واتهام الغرب بالوقوف خلف هذه الآفة، بينما تركّز الرؤية الغربية على
الصراع على الطاقة والأمن القومي الأوروبي.