علامة فارقة في تاريخ الأمم والشعوب، ومرآة عاكسة لحاضرها... فمن أراد أن يعرف حال شعب من الشعوب، وأُمة من الأمم في ميزان التقدُّم والتخلُّف؛ فلْينظر إلى أعيادها ولسان حالها الذي يترجمه الأدباءُ والشعراء في إبداعاتهم!
بعد أن كان مغموراً بالفرح والحبور، صار مُوشَّحاً بالأحزان!
علامة فارقة في تاريخ الأمم والشعوب، ومرآة عاكسة لحاضرها... فمن أراد أن يعرف حال
شعب من الشعوب، وأُمة من الأمم في ميزان التقدُّم والتخلُّف؛ فلْينظر إلى أعيادها
ولسان حالها الذي يترجمه الأدباءُ والشعراء في إبداعاتهم!
فالأعياد قد تأتي في أبهى أيام الأمم وأسعدها تارة، وقد تأتي على بعض الأمم وهيَ
مكسورة جريحة... وأكثر ما يترجم تلك المشاعر والأحاسيس هي النفوس الشاعرة،
المتغلغلة بوجدانها في الطبيعة والكون من حولها، المالكة ناصية البيان عمَّا يختلج
فيها.
نعم، فالأعياد ما زالت مجالاً خصباً تهيم فيه أرواح الشعراء، فتصدح بالأغاني
والأناشيد، وتترنَّم بالأراجيز والأهازيج أحياناً، ولكن في أحايين أخرى تمتزج
أرواحها بالألم والدموع والحسرات... فلْنستمع إلى ما جـادت به قرائح الشعراء في تلك
المناسبات:
في الماضي أعربَ الشـعراء عن حال أُمتهم وما كانت عليـه من الفرح والترف والبهجة
والسرور، لا سـيَّما (عيد الفطر) الذي يغشـاه تعبير صادق عن مظاهر السعادة التي
تغمر الصائمين، والذي يتجلَّى في ليلة اكتمال الشهر الكريم، وهو ما عناه الشَّاعر
في قوله:
والعيدُ أقبل مـزهوّاً بطلعته
كأنه فارسٌ في حلَّةٍ رَفَـلا
والمسلمون أشاعوا فيه فرحتَهم
كما أشاعوا التحايا فيه والقُبَلا
فَلْيهنأ الصائمُ المنهي تعـبُّده
بمقدم العيد، إنَّ الصوم قد كملا!
وهذا شاعر آخَر، يُصوِّر (ليلة العيد) عبر لوحة فنيَّة بديعة، استهلَّها بقوله:
بشائرُ العيد تترا غنيَّة الصور
وطابع البِشر يكسو أوجه البَشر
وموكب العيد يدنو صاخباً طرِباً
في عين وامقةٍ أو قلبِ منتَظِر
يا ليلةَ العيد كم في العيد من عِبَرٍ
لِـمَن أراد رشاد العقل والبشر!
ولِمَ لا؟ فالشعراء أكثر الناس إحساساً بما يدور حولهم، لدرجة أنهم يتفاعلون مع
الحوادث والمناسبات قبل وقوعها، فــ (ابن الرومي) قد تحرَّى العيد قبل قدومه، فقال:
ولَـمَّا انقضى شهـرُ الصيـام بفضله
تجلَّى هـلالُ العيـدِ من جانبِ الغربِ
كحاجـبِ شيخٍ شابَ من طُولِ عُمْرِه
يشيرُ لنا بالرمـز للأكْـلِ والشُّـرْبِ!
وهذا قريب من قول (ابن المعتز):
أهـلاً بفِطْـرٍ قـد أضاءَ هـلالُـه
فـالآنَ فاغْدُ على الصِّحاب وبَكِّـرِ
وانظـرْ إليـه كزورقٍ من فِضَّــةٍ
قـد أثقلتْـهُ حمـولــــةٌ من عَنْبَـــرِ!
ومن أشهر قصائد التهنئة بالعيد، قصيدة (رائية البحتري) التي تُعـدُّ من غُرر الشعر
العربي، والتي هنَّأَ بها الخليفةَ (المتوكل) بصومه وعيده، ويصف فيها خروجه للصلاة:
بالبِرِّ صُمتَ وأنت أفضلُ صائم
وبسنَّة الله الرضيَّة تفطر
فانعم بعيد الفطر عيداً إنه
يومٌ أغرُّ من الزمان مشهر
كما هنَّأ (المتنبِّي) سيفَ الدولة الحمداني عند انسلاخ شهر رمضان، قائلاً:
الصَّوْمُ والفِطْرُ والأعيادُ والعُصُر
منيرةٌ بكَ حتى الشمسُ والقمرُ
وفي قصيدة أخرى للمتنبِّي، استهلَّها قائلاً:
لكلِّ امرئٍ من دهره ما تعوَّدا
وعادةُ سيفِ الدولةِ الطَّعْنُ في العِدا
هنيئاً لك العيد الذي أنت عيده
وعيد لكل من ضحَّى وعيَّدا
ولا زالت الأعياد لبسك بعده
تسلِّم مخروقاً وتعطي مجدَّدا
فذا اليوم في الأيام مثلك في الورى
كما كنتَ فيهم أوحداً كان أوحدا
هو الجدُّ حتى تفضُل العينُ أختها
وحتى يكون اليومُ لليوم سيِّدا
هذا، وقد نظر بعض الشعراء إلى العيد من زاوية اجتماعية؛ فيها مداواة للفقراء، وعطف
على المساكين، وجبر لليتامى، كما هو الحال عند (معروف الرصافي):
صباحٌ به يكسو الغنيُّ وليدَه
ثياباً لها يبكي اليتيم الـمُضيَّعُ
صباحٌ به تغدو الحلائل بالحُلى
وتَرْفَضُّ من عين الأرامل أدمعُ
ألاَ ليتَ يومَ العيد لا كان، إنَّه
يُجدِّد للمحزون حزناً فيجزع!
وقد استثمر الشاعر الأزهري (محمد الأسمر) فرصة قدوم العيد لتذكرة الناس بالمسارعة
في الخيرات، والحضِّ على الصدقات؛ تخفيفاً من معاناة الفقراء والـمُعوزين في ذلك
اليوم المبارك؛ فيقول:
هذا هو العيد فلْتصفُ النفوسُ به
وبذْلُك الخيرَ فيه خيرُ ما صُنعا
أيَّامــه موسـمٌ للبِــر تزرعـه
وعند ربِّي يُخبِّي المرءُ ما زَرعا
فتعهَّدوا الناسَ فيه: مَن أضرَّ به
ريْبُ الزمان ومَن كانوا لكم تَبَعا
وبدِّدوا عن ذوي القُربى شجونهم
دعــا الإلهُ لهذا والرسولُ معا
واسُوا البرايا وكونوا في دياجرِهم
بــدراً رآه ظلامُ الليل فانقشعا
لكن لم يكن كل الشعراء يُعبِّرون عن الأعياد بمظاهر البهجة والسرور، فربما جاءت بعض
الأعياد مُحاطة بالهموم والأحزان؛ أحزان خاصة بالشاعر نفسه، أوْ أحزان عامة يعيشها
مجتمع الشاعر كله، مثلما حدث مع الشاعر العباسي (الصنوبري) إذْ يُذكِّره مجيء العيد
بفقد ابنته:
يا عيدَنا أوَّلَ عيدٍ أتى
فقدتُ ليلى فيه من خِدْرِها
بُوركَ للأمَّةِ في عيدها
فليس أمري فيه من أمرها
عادوا من العيدِ إلى دورِهمْ
وعدتْ من عيدي إلى قبرها
ولعلَّ أشهر ما قيل في تلك المناسبة، شكوى (المعتمد ابن عبَّاد) بعد زوال ملكه،
وحبسه في (أغمات) وقد رأى بناته جائعات حافيات في يوم العيد، فصرخ قائلاً:
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا
وكان عيدُك باللَّذات معمورا
وكنتَ تحسَب أنَّ العيد مسعدةٌ
فساءك العيدُ في أغماتَ مأسورا
ترى بناتِك في الأطمارِ جائعةً
في لبسهنَّ رأيتَ الفقرَ مسطورا
معاشُهنَّ بعيد العــزِّ مُمتهنٌ
يغـزلنَ للناس لا يملكنَ قطميرا
وكنتَ تحسَب أنَّ الفطر مُبتَهَـجٌ
فعاد فطرُك للأكبــاد تفطيرا
هذا، وفي الحقب الأخيرة: عَبَّرَ الشِّعر عن الهمِّ الجماعي (هموم الوطن
والأُمَّة).
فالشَّاعر المعاصر لَمْ يرَ حوله إلَّا النَّكسات المتعاقبة التي تُوِّجَتْ بسقوط
الخلافة الإسلامية، ثمَّ سقوط (فلسطين) غنيمة باردة بأيدي خصومها الحضاريين!
لَمْ يشاهد الشَّاعر خلال القرن العشرين سوى غارات متتالية على بلاده وأُمته،
واعتداءات سافرة على الإسلام وشريعته، وهو يواجه التشريد من الأوطان، والإقصاء
التعسُّفي مِن داره أوْ عمله، ويُحَمَّل مسئولية ما فعله السفهاءُ من قومه!
فأينما تقع عيناه لمْ يرَ سوى جماجم إخوانه هنا وهناك، ولمْ يبْصر سوى دمائهم
تنهمر، ولم يسمع إلاَّ عن المجازر الجماعية التي يتعرض لها إخوانه في العقيدة،
دونما ذنبٍ اقترفوه إلَّا أنهم قالوا:
«ربُّــنا
الله»!
أجل، لقد رأى مآسي فلسطين وما جرى لها، ومآتم البلقان، وسمع أنين الشيشان، وصراخ
كشمير، وعذابات العراق، وصرخات الذين يُساقون إلى المشانق، لأنهم جهروا بكلمة الحق،
أوْ جأروا من الظلم الواقع بهم!
ترى، عندما يرى (الشَّاعر) ويسمع تلك التناقضات الصارخة التي تحيط به وبمجتمعه ..
ماذا يُنتظَر منه؟ وكيف لا تثور عاطفته ولا ينبعث شعوره ولا يتميَّز من الغيظ؛
فتتحول أشعاره إلى زجاجاتٍ حارقة، وعبواتٍ ناسفة!
فهذا هو الشَّاعر الفذُّ (عمر أبو ريشة) الذي لا تهمُّه آلامه الخاصة، بلْ تعنيه
هموم أُمته، فيجزع لفجيعتها وهوانها على الأعادي، ويبثُّ للعيد آهاته، قائلاً:
طالعتَنا وجراح البغي راعفةٌ
وما لها مِن أُساة الحِمى تضميدُ
فَللْفجيعَةِ في الأفواه غمغمةٌ
وللرجولةِ في الأسماع تنديدُ
فتلك راياتنا خجلى مُنكَّسة
فأين من دونها تلك الصناديدُ؟
ويمضي (أبو ريشة) في شكواه، قائلاً:
يا عيـدُ ما افْتَرَّ ثَغرُ المجدِ يا عيد؛
فكيـف تلقاكَ بالبِشْـرِ الزغـاريـدُ؟
يا عيدُ كم في روابي القدسِ من كَبِدٍ
لها على الرَّفْـرَفِ العُلْـوِيِّ تَعْييــدُ؟
سينجلـي لَيْلُنا عـن فَجْـرِ مُعْتَرَكٍ
ونحـنُ في فمـه المشْبوبِ تَغْريـدُ
بلْ استمع إلى أنَّات الشَّاعرة الفلسطينية (فدوى طوقان) وهي ترفع الستار عن حقيقةٍ
مُرَّة، وتكشف عن واقع أليم... إنه الواقع المرير الذي تعانيه مع أخواتها الأسيرات
تارة، ومع المشرَّدات تارةً أخرى، فالعيد لم يقرب هؤلاء من قريب أوْ بعيد، إنما
العيد لقوم آخَرين، عديمي المشاعر... إنه عيد الميِّتين:
أختاه! هذا العيد عيد المترفين الهانئِين
عيد الأُلَى بقصورهم وبروجهم متنعِّمين
عيد الألى لا العار حرَّكهم، ولا ذلُّ المصير
فكأنَّهــم جُثث هنـاك بلا حياةٍ أوْ شـعور
أختاه! لا تبكي، فهذا العيد عيد الميِّتين!
وهذا الشَّاعر العراقي (السيد مصطفى جمال الدين) يبث شكواه، في قصيدة شجيَّة:
هـذا هـو العيـدُ، أيـنَ الأهـلُ والفـرحُ
ضاقـتْ بهِ النَّفْسُ، أمْ أوْدَتْ به القُرَحُ؟
وأيـنَ أحبابُنـا ضـاعـتْ مـلامحُـهـم
مَـنْ في البلاد بقي منهم، ومَن نزحوا؟
وفي قصيدة أخرى، يقول:
يا عيدُ عرِّجْ فقد طالَ الظَّما وجَفَتْ
تِلكَ السنونُ التي كم أيْنَعَتْ عِنَبـا
يا عيدُ عُدنْـا أعِدْنا للذي فرِحَتْ
به الصغيراتُ من أحلامنا فَخَبَـا
مَنْ غيَّبَ الضحكةَ البيضاءَ من غَدِنا
مَنْ فَـرَّ بالفرحِ السهرانِ مَنْ هَربَا؟
لمْ يبقَ من عيدنا إلَّا الذي تَرَكَتْ
لنا يـداهُ ومـا أعطى وما وَهَبـا
هل تَذَكَّرتَ أطفالاً مباهِجُهُـم
يا عيدُ في صُبْحِكَ الآتي إذا اقتربا
هَلَّا تَذَكَّرتَ ليلَ الأَمـسِ تملؤُهُ
بِشْراً إذا جِئْتَ أينَ البِشْرُ؟ قد ذَهَبا
وفي هذا الصدد لا يمكن أن نغفل قصائد شاعر الإسلام (عمر بهاء الدين الأميري) لا
سيَّما التي يقول فيها:
يقولـونَ لـي: عيـدٌ سعيـدٌ، وإنَّهُ
لَيـومُ حسابٍ لـو نحـسُّ ونشعـرُ
أعيـدٌ سعيـدٌ! يا لها من سعـادةٍ
وأوطانُنـا فيهـا الشقاءُ يزمـجـرُ
ويقول (الأميري) في مناسبة أخرى:
يمـرُّ علينا العيـدُ مُـرّاً مضرَّجـاً
بأكبادنا والقدسُ في الأسْـرِ تصـرخُ
عسى أنْ يعـودَ العيـدُ باللهِ عـزَّةً
ونَصْـراً، ويُمْحى العارُ عنَّا ويُنْسَـخُ!
وها هو (عبد الرحمن العشماوي) يتقطَّع ألماً على حال أمته الجريحة، فيقول في قصيدته
«عندما
يحزن العيد»:
أقبلتَ يا عيدُ والأحزانُ نائمـة
على فراشي وطرفُ الشوقِ سهرانُ
من أين نفرح يا عيدَ الجراحِ وفي
قلوبنا مِن صنوف الهمِّ ألـــوانُ؟
من أين نفرح والأحداثُ عاصفةٌ
وللدُّمى مُـقَـلٌ ترنـو وآذانُ؟
ثمَّ يواصل (العشماوي) رحلته على ضفاف الألم، كاشفاً عن جراح القدس الغائرة،
ومسجدها المبارك، فيقول:
مِن أين والمسجدُ الأقصى محطمةٌ
آمالُـه وفؤادُ القـدس ولهـانُ؟
مِن أين نفرح يا عيدَ الجراحِ وفي
دروبِنا جُدُر قامـت وكثبـانُ؟
وفي الختــــام: إذا أردنا أن نقف على فحوى العيد ومعانيه الإيمانية البعيدة التي
يجهلها كثير من الناس، فلْنستمع إلى (أبي إسحاق الألبيري) وهو يُصوِّر لنا حقيقة
العيد ومعناه، بعيداً عن الشكليَّات التافهة والمظهريَّات الزائفة، فيقول:
ما عيدكَ الفخمُ إلَّا يومَ يُغفر لك
لا أن تجرَّ بـه مسـتكبراً حُلَلَـك
كم مِن جديدِ ثيابٍ دينُه خَلِق
تكاد تلعنه الأقطارُ حيثُ سَلَك
ومِن مرقَّع الأطمار ذي وَرَع
بكتْ عليه السما والأرضُ حين هلك!
لعلَّ هذه الإطلالة السريعة، قد كشفتْ عن بعض جانبٍ من إبداعات الشعراء في مواسم
الأعياد ومناسباتها، وإنْ كان المقام لا يتسع لاستعراض الكثير، فحسبنا هذه القطرات
من بحر إبداعات الشعراء المتلاطم... وكل عيد وأمتنا الكريمة في أمنٍ وعزةٍ ورخاء،
مهما انتابها من أحزان، ومهما أصابها من آلام... فإنها أُمةٌ تمرض ولا تموت، وتكبو
ولكن لا تطول كبوتها.
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}
[آل عمران:
193]!