• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
انتخابات لبنان: هل خسرت إيران العاصمة الرابعة؟

خسر حزب الله الأكثرية النيابية، وخسر عدداً من أبرز السياسيين المؤيدين له وللنظام السوري، مثل فيصل كرامي في طرابلس، وطلال أرسلان في الجبل، وإيلي الفرزلي في البقاع، وأسعد حردان في الجنوب


قبل أكثر من سبع سنوات قال حيدر مصلحي وزير الاستخبارات الإيراني السابق في حكومة محمود أحمدي نجاد: «إن إيران تسيطر فعلاً على أربع عواصم عربية». فهل يمكن القول بعد انتخابات العراق عام 2021م، وانتخابات لبنان عام 2022م: إن طهران خسرت اثنتين من العواصم الأربع؟ قد لا تكون مصادفة أن الانتفاضتين الشعبيتين العراقية واللبنانية اللتين أنتجتا مشهداً مختلفاً نسبياً وتوازناً ملتبساً مع أتباع إيران عقب الانتخابات النيابية، حدثتا في شهر تشرين الأول عام 2019م. ويحبِّذ العراقيون واللبنانيون تسمية حَراكهم المنتفض بثورة تشرين، والمشاركين فيها بالثوار. والتسمية مجازية طبعاً. فلم تنسف التظاهرات الحاشدة في كلا البلدين البنية السياسية القائمة. بل أضعفت القوى المتحكِّمة بالقرار السياسي والأمني نسبياً. لقد أعطت الانتخابات العراقية، الصدريين (أتباع مقتدى الصدر) عدداً مرتفعاً من المقاعد 73 مقعداً، من أصل 329 مقعداً، مع حصول المحسوبين على الحَراك الشعبي حزب (امتداد) على 9 نواب فقط (بسبب مقاطعة بقية مكونات الثورة)، وانخفاض حصة كتلة (الفتح) التي تضم قوى الحشد الشعبي الموالي لإيران من 48 إلى 17 مقعداً. لكن العراق في أزمة مستعصية، ولم يتمكن السياسيون الفائزون من تشكيل الحكومة، عنوان الأزمة تحديد التكتل النيابي الأكبر الذي يحق لرئيسه تشكيل الحكومة.

في لبنان، النتائج أكثر تعقيداً، وأكثر تقدماً تجاه محاصرة الحزب وحلفائه سياسياً. من حيث الشكل خسر حزب الله وحلفاؤه الأكثرية النيابية، أي نالوا 62 نائباً من أصل 128 مقعداً، في حين كان لديهم 71 نائباً بعد انتخابات عام 2018م. لكن الأكثرية النيابية الراهنة ليست موحدة الانتماء، بل هي منقسمة بين كتل متوازية تقريباً. حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع وسع نفوذه من 14 نائباً إلى 18 نائباً ما عدا الحلفاء. ظهرت كتلة التيار المدني التغييري (13 أو 14 نائباً)، وكبرت كتلة المستقلين (14 نائباً). الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة تيمور وليد جنبلاط حافظ على عدد مقاعده (9 نواب). ثم إن أولويات الأكثرية الناشئة ليست واحدة، ولا هي على السوية نفسها من معارضة الحزب ولا بالدرجة نفسها. كما أنه لا يمكن اعتبار نواب التيار التغييري المنبثق عن ثورة تشرين ضمن مضمومة واحدة أو حتى جبهة سياسية ذات عناوين عريضة.

باختصار، خسر حزب الله الأكثرية النيابية، وخسر عدداً من أبرز السياسيين المؤيدين له وللنظام السوري، مثل فيصل كرامي في طرابلس، وطلال أرسلان في الجبل، وإيلي الفرزلي في البقاع، وأسعد حردان في الجنوب. لكنه ما زال يمتلك أوراقاً عدة منها استحواذه وحركة أمل على كل المقاعد الشيعية في البرلمان (27 نائباً)، فلا يمكن أن يكون رئيس البرلمان إلا من عندهم، والمرشح هو نبيه بري (84 عاماً). وما يزال الحزب قادراً على اختراق خصومه واستمالتهم؛ فما قد يبدو للعيان أكثرية من جانب وأقلية من جانب آخر، قد يكون خادعاً. فبعض نواب التغيير كانوا من قبل في أوساط الأحزاب التقليدية، ولديهم مصالح مشتركة مع أفراد من الطرف الآخر؛ بل ربما تتبدل المواقف بين ليلة وضحاها وينتقل نواب منتخبون من معسكر إلى آخر، ويكفي انتقال اثنين فقط حتى تتعادل الكفة بين الحزب وخصومه.

بالمقابل، لم يربح المعارضون للحزب وحليفه جبران باسيل أكثرية صلبة، فقد يتقاطعون وقد يختلفون. بعضهم لن ينتخب بري رئيساً للبرلمان للمرة السابعة على التوالي، منذ عام 1992م. وآخرون مثل القوات اللبنانية وحلفائها أعلنوا رفضهم له. بعضهم سيكون شديداً في رفض سلاح حزب الله وهيمنته على الحياة السياسية في لبنان، وآخرون سيؤجلون طرح هذه المسألة الحيوية، بانتظار ظروف إقليمية أفضل، ولوجود قضايا أخطر حالياً، على سبيل المثال: الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وانهيار الليرة، ووصول القطاع المصرفي إلى حافة الإفلاس، ووقوع المصرف المركزي تحت عجز نقدي يبلغ عشرات المليارات، وعجز الحكومات المتعاقبة عن التفاوض مع صندوق النقد الدولي بشكل جدي وتنفيذ الإصلاحات المؤلمة وغير الشعبية.

على الرغم من كل هذه الاحترازات السابق ذكرها، ثمة إشارات مهمة في هذه الانتخابات تدل على حدوث تغيير حقيقي في المزاج الشعبي، حتى في الوسط الشيعي. فالقانون الانتخابي اللبناني ما يزال يجري وَفْق القيد الطائفي؛ فلكل طائفة حصصها المتعارف عليها. ومع تطبيق النظام النسبي مع منح الناخب صوتاً تفضيلياً واحداً سيعطيه ترجيحاً لمرشح من طائفته، فمن غير الممكن هيمنة أي طائفة كبرى على بقية الطوائف. وهو ما بات يشكو منه حزب الله وحركة أمل، وهما يطالبان منذ أشهر بتعديل هذا القانون، الذي وُصف حين إقراره قبل خمس سنوات بـ «قانون جبران باسيل»، بمعنى أنه صُمِّم لإيصال زعيم التيار الوطني الحر إلى البرلمان بكتلة نصرانية وازنة، تسمح له بالادعاء بأنه المرشح الطبيعي لرئاسة الجمهورية. هما يطالبان الآن بإقرار قانون يجعل لبنان دائرة واحدة مع اعتماد النظام النسبي، وهو ما يسمح بهيمنة الناخبين الشيعة الذين يتجاوزن نصف مليون على البرلمان، فينتخبون أكثرية النواب من كل الطوائف، ليس لأنهم أكثر من الناخبين السنة، بل لأنهم متكتلون أكثر، وينتخبون وَفْقَ التوجيهات المركزية. لكن هذا الطرح لن يحظى طبعاً بموافقة النصارى بكافة توجهاتهم الحزبية والأيديولوجية.

وما يدفع حزب الله إلى القلق، هو الضعف الذي يعتري حلفاءه، سواء في الوسط الشيعي أو خارجه. فحركة أمل مثلاً تعاني من تراجع كبير في شعبيتها، ولا خليفة لزعيمها نبيه بري. ومن بعده ستتشتت الحركة التي أسسها موسى الصدر عام 1974م، ولن يكون بمكنة الحزب استيعاب أقسام كبيرة منها. وهو ما يسمح في انتخابات آتية بتحقيق خروق متكاثرة في الكتلة الشيعية، وهو ما برهنت عليه الانتخابات الحالية مع تسجيل خرقين في الجنوب لنائبين من غير الثنائي الشيعي. أما في خارج الوسط الشيعي، فثمة تراجع في حجم حلفائه. فالحزب السوري القومي الاجتماعي المدمن على الانقسام، خسر كل مقاعده. والحزب الديموقراطي اللبناني الذي يتزعمه طلال أرسلان المنافس الدرزي التقليدي لوليد جنبلاط خسر مقعد رئيسه في عالية لمصلحة الشخصية التغييرية الصاعدة مارك ضو. فيصل كرامي ابن الأسرة السنية التقليدية في طرابلس والموالية لدمشق، خسر حضوره النيابي بمقابل صعود شخصية غير تقليدية هو وزير العدل السابق اللواء أشرف ريفي المعادي بشدة للحزب. وفي صيدا خسر الحزب تأييد النائب السني أسامة سعد ابن المناضل معروف سعد، وهو حدث غير مسبوق. أما في بيروت، فقد أثبت السنة أنهم قادرون على التحرك لردع محاولة الحزب وحلفائه توسيع نفوذهم في العاصمة، فكسروا المقاطعة التي نظمها أنصار تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري المقيم في الإمارات، وانتخبوا لوائح المعارضة.

أرقام ودلالات:

ومن جانب آخر، ومن أجل تبيان مدى التغيير الذي حدث في الانتخابات الأخيرة، من المفيد الاطلاع على الأرقام بطريقة مجردة لدراسة الأوزان والأحجام. وفي هذا الإطار قامت جريدة (الأخبار) الموالية للحزب بنشر أرقام الأصوات التفضيلية التي نالتها القوى السياسية المشاركة في الانتخابات، في محاولة للقول: إن الحزب لم يخسر ولم يتراجع. وعلى هذا، حصل حزب الله على 347 ألف صوت تفضيلي في لوائحه، فهو يأتي أولاً. لكن المفاجأة أن التيار التغييري غير المنظم الذي صرف أشهراً طويلة لتركيب اللوائح، وفشل في توحيدها أو في تجنب المعارك الجانبية أثناء الانتخابات؛ احتل المرتبة الثانية بعد حزب الله؛ إذ اقترع 330 ألفاً للوائح الـ 24 التي شكَّلتها هذه القوى في مختلف الدوائر. وتمكَّنت 8 لوائح من الوصول إلى حاصل في الأقل، أو 3 حواصل في الأكثر. ولهذا حلَّت حركة أمل في المرتبة الثالثة بعدما حصل مرشحوها في كل الدوائر على 176 ألف صوت تفضيلي. أما التيار الوطني الحر فخسر 160 ألف صوت دفعة واحدة بين انتخابات 2018 و 2022م. فنال في هذه الانتخابات 116 ألفاً. بالمقابل، احتل حزب القوات اللبنانية المرتبة الرابعة لبنانياً والأولى مسيحياً بحصول مرشحيه على 171 ألف صوت تفضيلي في مقابل 162 ألف صوت تفضيلي عام 2018م. وذهبت الأصوات الأخرى التي انتخبت العونيين إلى التيار التغييري وإلى الأحزاب المعارضة المسيحية الأصغر حجماً وإلى الشخصيات المستقلة.

وظهور التيار التغييري لن يكون من دون عواقب وتوترات من نوع آخر. فالعلمانيون الذين يؤيدون الزواج المدني وإلغاء المحاكم الشرعية والدينية الأخرى، ويريدون تعديل القانون الجزائي لرفع تجريم الشواذ جنسياً، يرفعون هذه المطالب علناً، وهو ما أثار انقسامات حتى بين النواب المنتخبين من هذا التيار. بل إن معلومات متواترة أفادت في زمن التحضير للوائح الترشيح، أن النائبة الأرمنية بولا يعقوبيان، كانت تمتحن المرشحين في بيروت بسؤالين: هل تؤيد الزوج المدني. وهل تؤيد حقوق المثليين؟ وكان ثمة حرص بالغ على إيصال مرشحين سُنة من هذا التيار إلى البرلمان. وكانت يعقوبيان في منتهى الصراحة قبل أسابيع من يوم الانتخاب، عندما زعمت أن أهل السنة هم أول طائفة تتخلى عن هويتها المذهبية. هذا الواقع، دفع خطباء الجمعة قبل يومين من يوم الانتخاب إلى شنِّ حملة منسقة ضد هذا التيار التغريبي، لكن هذا لم يمنع من فوز مرشحيْن سُنيين من لائحة التغيير هما إبراهيم منيمنة ووضاح الصادق، وهما يجاهران بهذا الأمر. ونال منيمنة أعلى صوت تفضيلي بين مرشحي السنة في بيروت، وبين مرشحي التغيير في لبنان (أكثر من 13 ألف صوت تفضيلي). فقد نجحا في التلبيس على الناخبين الذين مالوا نحو الاقتراع العقابي، وهم الذين يعانون الأمرَّين من ضياع ودائعهم في المصارف ومن انهيار الليرة.

 وبما أن المعركة المقبلة هي رئاسة الجمهورية، فمن الصعب القول: إن جبران باسيل هو الأوفر حظاً. فكتلته وإن تساوت مع كتلة القوات اللبنانية، وسمير جعجع مرشح رئاسي أيضاً، إلا أن 8 نواب من كتلته نجحوا بأصوات الشيعة. في حين أن تيار المستقبل المقاطع للانتخابات، عمل بقوة ضد القوات في كل الدوائر الانتخابية، أي كان سعد الحريري عملياً حليف حزب الله والتيار الوطني الحر، حتى وهو يقاطع الانتخابات. بل إنه شارك بفعالية لإنجاح اللوائح المنافسة للقوات. وكان له دور في إسقاط بعض مرشحي المستقبليين السابقين المدعومين من رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة. وهذه دلالة معبرة عن مدى الشراكة السياسية التي عقدها الحريري مع الحزب وحلفائه منذ عودته إلى لبنان عام 2016م، وإبرامه اتفاق التسوية مع العماد ميشال عون، ينص على دعم الحريري لعون رئيساً للجمهورية مقابل دعم عون للحريري رئيساً للحكومة. لكن هذه التسوية المشؤومة أفلست لبنان. وانتفض الناس في 17 تشرين الأول عام 2019م، فاستقال الحريري. ومنذ ذلك الوقت لم يستقم له حال. وحظوظه السياسية تراجعت بحدَّة، لا سيما مع عمله السلبي في الانتخابات الأخيرة.

الوضع الجديد دفع أمين عام الحزب حسن نصر الله إلى التعليق بهدوء على النتائج، في محاولة منه لاستيعاب الصدمة والتقليل من الخسائر. وقد ينسحب هذا إلى استحقاقات ثلاثة آتية، وهي انتخاب رئيس البرلمان. واختيار رئيس حكومة جديد مع تشكيلة وزارية مقبولة ومتوازنة، ثم الانصراف إلى الانتخابات الرئاسية في أكتوبر المقبل. وبالمقارنة مع العراق، لا يتمتع لبنان بترف إضاعة الوقت، لفرض مرشحين تابعين للحزب، كما حدث مراراً خلال تشكيل الحكومات ما بين عامي 2008 و 2021م، لفرض توزير جبران باسيل مرة، ولفرض توازنات أخرى مرة أخرى. ولا تعطيل البرلمان سنتين ونصف السنة، لفرض انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. لبنان على شفا الانهيار. ولم تعد تنفع سياسة حافة الانهيار التي أتقنها الإيرانيون وأتباعهم طويلاً بكلفة غالية جداً.

 

 


أعلى