ومن أبرز شواهد التفاعل النخبوي الأمريكي مع الحرب في غزة: الأغنية التي طرحها المغني الشهير «ماكليمور»؛ دعمًا لغزة، وحقَّقت ملايين المشاهدات، وكانت جزءًا من حالة إعلامية تصاعدت مع احتجاجات الجامعات التي أشعلتها الاحتجاجات في جامعة كولومبيا
تناقش الصحافة العبرية باهتمامٍ بالغٍ التحول الكبير الذي طرأ على النُّخَب الاجتماعية والأكاديمية والثقافية في الولايات المتحدة؛ بصفتها الحاضنة الأبرز والداعم الأكبر للدولة العبرية، وكذلك لكونها تحتضن أكبر تجمُّع لليهود في العالم، ففي صحيفة «إسرائيل هيوم»، يوضّح الكاتب إلعاد بن ديفيد، الخبير في شؤون الإسلام والولايات المتحدة في جامعة «بار إيلان»، كيف أشعلت حرب طوفان الأقصى خطابًا غير مسبوق لمعاداة الصهيونية في الولايات المتحدة والغرب كان كفيلًا بإطلاق موجة من التحريض على الدولة العبرية، ورفض صريح مِن قِبَل الزعامات الدينية في المجتمعات الإسلامية الغربية لإدانة الهجمات التي نفَّذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023م، وأصبح التضامن مع الفلسطينيين جزءًا حيويًّا في خطاباتهم، بل وشكَّلت الأحداث حاضنةً صلبةً لتوحيد أنشطتهم تحت راية التضامن مع الفلسطينيين، وشكَّلت بالنسبة لهم هوية سياسية واحدة تُركّز على دعم القتال والصمود الفلسطيني ضد الاحتلال.
وعطفًا على ما يركّز عليه الباحث الصهيوني في أهم الصحف الداعمة لحزب الليكود الصهيوني؛ فإنه ولأول مرة تجد المجتمعات المسلمة باختلاف أعراقها رايةً سياسيةً واحدةً تُوحّدها وتُحدِّد وجهتها؛ بفضح الرأسمالية الصهيونية التي تحكم البيت الأبيض، وصناعة أدوات تغيير تؤثر على السياسيين الأمريكيين، وتصنع جيلًا جديدًا من النُّخب الأكاديمية في الجامعات الأمريكية، وتُظْهِر الحجم الحقيقي للصوت المسلم في الولايات المتحدة.
ربما عقب أحداث 11 سبتمبر بدأت المجتمعات الإسلامية بصناعة كتل وكيانات دفاعية؛ للتصدي للهجمات التي تعرضت لها بعد الحملة الأمريكية الشرسة على «الإرهاب»، وكانت تلك نواة قوة اجتماعية وسياسية وإعلامية؛ ردًّا على الاستهداف الممنهج للجالية المسلمة مِن قِبَل أجهزة الأمن الأمريكية واللوبي الصهيوني في واشنطن، لكنَّ تلك الظاهرة تعاظمت قوتها، وحوَّلت الولايات المتحدة إلى ساحة للقتال بين المبادئ الرأسمالية التي تبنَّت الحرب على العراق وأفغانستان والهجمات في ليبيا واحتلال شرق سوريا، وبين الهوية الإسلامية بصفتها منبرًا للسلام والنضال ضد الظلم في فلسطين وغيرها من بلاد العالم.
في الوقت التي أظهرت فيه أحداث 11 سبتمبر حالةً من الصدام بين المجتمع المسلم والمجتمع الغربي الأمريكي بدعم من السلطات الرسمية، وتسبَّب هذا الضغط الكبير في تشكيل نواة للوبي مسلم يجتمع خلفه الكثير من المنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة؛ إلا أن حرب غزة كانت أشبه بصدمة حضارية للمجتمع الغربي، وقد أثَّر فيها الحضور الإعلامي للحرب في وسائل التواصل الاجتماع، وغياب الرواية الإعلامية الواحدة التي كانت تقودها آلة الإعلام الغربية الرسمية في أحداث 11 سبتمبر.
ومن أبرز شواهد التفاعل النخبوي الأمريكي مع الحرب في غزة: الأغنية التي طرحها المغني الشهير «ماكليمور»؛ دعمًا لغزة، وحقَّقت ملايين المشاهدات، وكانت جزءًا من حالة إعلامية تصاعدت مع احتجاجات الجامعات التي أشعلتها الاحتجاجات في جامعة كولومبيا التي تُعدّ الحاضنة الأكاديمية للنُّخَب في المجتمع الأمريكي.
أطلقت الحرب على غزة نقاشًا أمريكيًّا ناضجًا بشأن الصراع مع اليهود، وأخرجت واقعًا سياسيًّا أصبح الناخبون المسلمون فيه قوةً مؤثرةً في مستقبل البيت الأبيض، وكذلك التماهي الكبير والتضامن عالي المستوى مع النضال الفلسطيني في أوساط الشباب الأمريكي.
من جهة أخرى، كانت الحرب على غزة نافذةً للبحث عن الإسلام، وإذا كانت أحداث 11 سبتمبر قد تسبَّبت بإسلام قرابة مليوني أمريكي؛ فإن أحدث غزة ستكون دافعًا أكبر للمشاركة السياسية للمسلمين في صناعة القرار الأمريكي، وكذلك ستضع الكثير من الناخبين الأمريكيين على الجانب الصحيح من التاريخ في هذا الصراع.
يقول الباحث الصهيوني إلعاد بن دفيد: «إن ظاهرة الأسلمة المتنامية تجعل المسلمين في الولايات المتحدة ثالث أكبر ديانة بعد المسيحية واليهودية، ويبدو أن الإسلام سيصبح بعد عقود ثاني أكبر ديانة؛ فبحسب التقديرات هناك حوالي 30 ألف شخص يعتنقون الإسلام سنويًّا».
وبحسب الباحث الصهيوني؛ فإن أحد أبرز أسباب تعاظم قوة الإسلام في المجتمع الأمريكي يتمثل في التضامن السياسي والاجتماعي والإعلامي مع المسلمين، وارتباطهم الكبير بهويتهم الوطنية بطريقة إيجابية، وقد نجحت الجالية المسلمة بربط الإسلام بمكافحة الفقر والعنصرية والظلم بوجهٍ عام، وإظهار الإسلام بوصفه دينًا يُناضل من أجل العدالة والحرية، كما حدث بعد مقتل جورج فلويد، وكذلك التضامن مع الفلسطينيين.
وكذلك فإنّ الإسلام يُقدّم رسالةً واضحةً بشأن العدل والمساواة في آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، والدفاع عن المظلومين، ومحاربة الإباحية الجنسية، وتكريم المرأة، ومحاربة النسوية، وقد راجت خلال الحرب على غزة الكثير من المقاطع الصوتية لـ«مالكوم إكس» حول الإسلام وفلسطين بين الأمريكيين من أصول إفريقية، وكانت كلها تصبّ في سياق التحفيز المتواصل على التماهي مع قضايا الأمة المسلمة، وهي واحدة من الشواهد الكثيرة التي تدلل على تبلور هوية جديدة للمجتمع المسلم داخل الولايات المتحدة يمكن أن يكون لديها تأثير سياسي فاعل في العقود القادمة.
وفي تقييم شبه رسمي للموقف الأمريكي والتفاعل العالمي بشأن الحرب على غزة؛ يقول أحد كبار الدبلوماسيين في مجموعة السبع لصحيفة فايننشال تايمز: «لقد ضاع كل جهد قمنا به مع دول الجنوب العالمي من أجل أوكرانيا، انسوا القواعد، وانسوا النظام العالمي، لن يستمع إلينا أحد مرة أخرى».
هنا يمكن القول: إن واشنطن بموقفها الرسمي الصلب تجاه دعم الهجوم الصهيوني على قطاع غزة، والصمت إزاء الجرائم التي ارتكبتها الدولة العبرية في غزة؛ قد فضحت ديمقراطيتها المزعومة داخليًّا وخارجيًّا، ودفاعًا عن الدولة العبرية أكَّدت للجمهور الأمريكي أنها ليست سوى أوتوقراطية لا تختلف كثيرًا عن الدولة العبرية.
لذلك يمكن القول: إن التضامن الإسلامي في واشنطن مع غزة يُشكِّل شاهدًا حول وحدة الأمة المسلمة بمختلف أعراقها، وهي بذلك تُجسِّد رسالةً واضحةً رافضةً للعنصرية، وكذلك للظلم أينما وُجِدَ، والإيمان بحقوق الإنسان، بل أيضًا لم تُفرِّق بين المسلم والمسيحي في غزة، وهو أمر تطرَّق إليه إلعاد بن دفيد بقوله: «إن الرسالة التي يُقدّمها الإسلام حضارية عالمية مقارنةً باليهودية الهامشية»، وذلك شكَّل عامل جذب للمسيحيين، وجعل حرب غزة أيقونةً للصراع بين الحق والباطل، حتى إن جماعات يهودية بعينها شاركت في احتجاجات الجامعات، وصرَّحت برفضها لليهودية الصهيونية التي تلتحف عباءتها الدولة العبرية، وتدعمها واشنطن، وهي رسالة أظهرت بصورة واضحة تأثير الحرب في المجتمع الأمريكي، وتمايز الصفوف بداخله، في مقابل تكتُّل الجالية المسلمة خلف راية واحدة تجمع تحتها جميع مظالمها.