لم يستسلم المغاربة للاستعمار الأجنبي؛ فبمجرد استيلاء العدو على الثغور المغربية، تبارى المغاربة على تباين فئاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم القَبَلية، في الحض على الجهاد والترغيب فيه أحياناً، والمشاركة فيه تارة أخرى.
توطئة
عاشت الإمبراطورية المغربية أوج ازدهارها على عهد المرابطين والموحدين؛ إذ سيطرت
على مجال شاسع يمتد من طرابلس شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن أودغست جنوباً
إلى الأندلس شمالاً. وتجلت القوة المغربية في هذا الإبَّان في الانتصارات الساحقة
التي حققها المرابطون في موقعة الزلاقة سنة 1086م بقيادة يوسف بن تاشفين، ثم في
معركة الأرك على عهد الموحدين سنة 1195م ضد النصارى في الأندلس.
بَيْدَ أن المغرب لم يستطع الحفاظ على هذه التألقات العسكرية والاستمرار على
الوتيرة نفسها في اللاحق من الاستحقاقات العسكرية في علاقته بالآخر النصراني، إذ
تعرض سنة 609هـ/ 1212م لهزيمة نكراء أمام الإفرنج، شكلت مرحلة فارقة وحاسمة في
معادلة الصراع بين المسلمين (المغاربة والأندلسيين) والممالك النصرانية في شبه
جزيرة إيبيريا. فمنذ هذه اللحظة المشؤومة، أخذ الوهن يدب في الجسد المغربي
والأندلسي طبعاً، لقد كانت هذه النكبة المسماة في الأدبيات التاريخية بـ (العقاب)،
دافعاً واضحاً لاندفاع الإفرنج نحو الاستحواذ على كثير من الإمارات والمدن
الأندلسية.
كتب أحمد المقري في هذا الصدد نصّاً حدد فيه أسباب هذه الهزيمة قائلاً:
«...
وهذه الوقعة هي الطامة على الأندلس، بل والمغرب جميعاً، وما ذاك إلا لسوء التدبير،
فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخف بهم الناصر ووزيره، فشنق بعضهم،
ففسدت النيات... ولم تقم للمسلمين قائمة تحمد»[1].
وهكذا تعرضت الدولة المرينية أيضاً للهزيمة في معركة طريف سنة 1340م؛ إذ
«رجع
السلطان أبو الحسن مفلولاً... واشرأب العدو الكافر لأخذ ما بقي من الجزيرة... وثبتت
قدمه إذ ذاك ببلد طريف»[2].
يبدو إذن، أن المغرب الذي كان على الدوام (المساند الرسمي) للأندلس، ومنطلق كل
العمليات العسكرية ضد الحملات والتهديدات الكاثوليكية، إذ ساهم إلى حدٍّ كبير في
دفع الهجمات الصليبية، وتأخير السقوط الحتمي لـ (الفردوس المفقود) حتى عام 1492م،
يبدو أنه بات هو أيضاً في مرمى التوسعات والأطماع الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال)
خلال القرن (16م).
جوانب من أسباب الغزو الإيبيري للمغرب
على المستوى الداخلي:
بعد انهيار الدولة المرينية بمقتل آخر الملوك المرينيين سنة 1465م، تولى وزراؤهم
بنو وطاس حكم المغرب مع بداية القرن 16م. بَيْد أن الوطاسيين تميزت مرحلتهم بالضعف
والتفكك السياسي، بحيث لم يقدرو على بسط نفوذهم على جميع التراب المغربي، وضمان
وحدة البلاد تحت مظلة إدارة مركزية قوية، الأمر الذي جعل المغرب عرضة للتمزق
والتجزئة السياسية. لعل هذه الوضعية هي التي يُجْملها مارمول كاربخال في كتابه
(إفريقيا) قائلاً:
«كان
في المغرب في هذه الفترة من الزمان عدة أمراء يتقاسمون السيادة، ذلك ما جعل الكثير
من الحواضر تنفرد باستقلالها، ولم تكن حينئذٍ لملوك بني وطاس ما يلزم من السلطة
لبسط نفوذهم»[3]،
وهكذا انحصر مجال السيادة الوطاسية في (مملكة فاس) أي النصف الشمالي من المغرب، في
حين بقيت المناطق الأخرى في منأىً عن السلطة المركزية.
أثَّر هذا الوضع سلباً على الوضعية الاقتصادية والمالية للدولة، التي تميزت بقلة
الموارد والمداخل الجبائية. وفي هذا السياق يقول الحسن الوزان:
«إن
لملك فاس مملكةً كبيرةً، ولكن ليس له سوى دخل صغير، لا يكاد يبلغ ثلاثمائة مثقال،
ولا يصل إلى يده حتى خمس هذا المبلغ»[4].
ذلك ما حدا بالملوك الزمنيين (كما يصفهم الحسن الوزان) إلى فرض جبايات أخرى، وهو ما
أدى إلى توتر العلاقة مع السكان الذين أُثْقِل كاهلهم بالضرائب،
«ونتج
عن هذه الحال أنه لم يعد هناك رجل عالم شريف يقبل أن يقيمَ علاقات عائلية مع الملوك
الزمنيين، أو يأكل معهم على نفس المائدة، أو بالأحرى أن يقبل منهم عطية أو هدية»[5].
من هنا، ساهمت الوضعية السياسية المتسمة بالضعف والتفكك والتجزئة، وكذا محدودية
وهشاشة البنية الاقتصادية للدولة الوطاسية، في تقاعس وقصور المغرب عن مدافعة
التهافت الإيبيري على سواحله وردِّه.
على المستوى الخارجي:
تجدر الإشارة هنا إلى أن الملكة إيزابيلا دعت في وصية - بعد سقوط الأندلس - إلى
تنصير شعوب ما وراء البحار لا سيما الإفريقية منها، ولعل الإجراءات والسياسة التي
نهجها ملك البرتغال مانويل (1495 - 1521م) بعد توليه الحكم تعبِّر أصدق تعبير عن
الوفاء والتجسيد الفعلي لوصية إيزابيلا. إذ سعى لنشر العقيدة النصرانية، علاوة على
توسيع حدود مملكته، من خلال احتلال الثغور المغربية وتحصينها ببناء العديد من
القلاع المنيعة[6].
وقد كان لتفوق البرتغال في ركوب البحر، دور في تحصيل هذا الغرض في إطار الاكتشافات
الجغرافية، ومن ثَمَّ،
«شرهوا
لتملك سواحل المغرب الأقصى، فهجموا عليها... حتى تمكنوا منها... فقويت شوكتهم، وعظم
ضررهم على الإسلام»[7].
هكذا تعرض المغرب للغزو الإيبيري، واستفردت إسبانيا بالسواحل المتوسطية (مليلية
وبادس)، في حين اهتمت البرتغال بالسواحل الأطلسية، إذ جثمت على كل المدن الساحلية
من القصر الصغير شمالاً إلى ماسة جنوباً.
فما هو رد فعل المغاربة تجاه هذا الغزو؟ وما طبيعة هذا الرد؟
الدولة السعدية: انتصار وادي المخازن ودلالاته (الجيوسياسية):
لم يستسلم المغاربة للاستعمار الأجنبي؛ فبمجرد استيلاء العدو على الثغور المغربية،
تبارى المغاربة على تباين فئاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم القَبَلية، في الحض على
الجهاد والترغيب فيه أحياناً، والمشاركة فيه تارة أخرى.
في إطار الغيرة الوطنية والدينية، على ما أصاب البلاد المغربية من طمع وغلبة عدوِّ
الدين، توجهت القبائل السوسية إلى رجل من الأشراف في (تاكمدارت) جنوب المغرب يدعى
محمد القائم بأمر الله، بغية مبايعته على القيام بأمر الجهاد والمقاومة[8]،
من هنا تأسست الدولة السعدية سنة 1511م، على يد محمد القائم بأمر الله، وكانت ردَّ
فعل مباشر على الاحتلال الأجنبي للمغرب.
رهان الجهاد وتحرير الثغور المغربية الذي تأسست بموجبه الدولة السعدية، تمَّت
ترجمته في الانتصار غير المتوقع الذي حققته هذه الأخيرة على حساب إمبراطورية
البرتغال بقيادة الملك سبستيان، في معركة وداي المخازن سنة 1578م.
أسفرت هذه المعركة عن دلالات ونتائج على أصعدة عدة: سياسية تتمثل في تولي أحمد
المنصور العرش، وتوافد الرسل والسفراء من مختلف الدول لتهنئته على الانتصار العظيم.
أما على مستوى البشري، فقد خلفت هذه الوقعة خسائر بشرية ثقيلة إذ قُتِل فيها ثلاثة
ملوك، ناهيك عن نحو ثمانين ألفاً بين قتيل وأسير جميعهم من النصارى، كما حصَّل
المغرب أمولاً سَنِيَّة من خلال فداء الأسارى، من جهة أخرى فقد تزايدت سمعة ومكانة
المغرب الدولية، باعتباره بلداً انتصر على أعتى وأقوى دولة آنذاك، يتعلق الأمر
بالإمبراطورية البرتغالية التي تم احتواؤها عقب الهزيمة الشنعاء من لدن جارتها
إسبانيا. ولعل ما يؤكد هذه الصورة المتلألئة التي بات المغرب يتبوؤها في المخيال
الدولي، هي الرسالة التي بعثها السلطان العثماني إلى أحمد المنصور السعدي، يعرض
عليه عقد حلف بين الطرفين لمهاجمة إسبانيا العدوِّ اللدود للعثمانيين، بما يعنيه
ذلك من أن العثمانيين ينظرون للمغرب - بعد انتصار وادي المخازن - على أنه رقم صعب
ودولة ذات وزن وكلمة، في العلاقات الدولية والتحالفات الإستراتيجية؛ فأن تخطب
إمبراطورية في حجم العثمانيين ودَّ وتحالف المغرب، لهو أصدق دليل على ما ذهبنا إليه
قبل قليل.
خاتمة:
على ضوء ما سبق، يتبين أن الغزو الإيبيري للمغرب إبَّان القرن (16م)، كان نتيجة
تضافر عوامل داخلية وأخرى خارجية، وضعت المغرب الوطاسي في موقف المستسلم للأمر
الواقع إزاء التهافت الإيبيري على سواحله المتوسطية كما الأطلسية، باعتباره الهدف
الثاني للهجمة الصليبية الكاثوليكية بعد استرداد الأندلس من أيدي المسلمين. لكن
سرعان ما انتكست هذه النجاحات التوسعية التي حققها الإيبيريون، حينما أنزلت الدولة
السعدية بالبرتغاليين (المباركين من لدن البابا) في معركة وادي المخازن هزيمة
شنيعة، أعادت للمغرب مجده وسمعته الدولية، ومن جهة أخرى شكلت سبباً مباشراً، في
أفول شمس الإمبراطورية البرتغالية التي جابت العالم آنذاك من شرقه إلى غربه.
[1] المقري، أحمد، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 6/ 151، دار الكتب العلمية،
بيروت.
[2] المقري، أحمد، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 6/ 13، مرجع سابق.
[3] كربخال، مارمول، إفريقيا، 1/ 450، مكتبة المعارف، الرباط، 1984م.
[4] الوزان، الحسن، وصف إفريقيا، 1/ 223، الشركة المغربية للناشرين المتحدين،
الرباط، 1980م.
[5] الوزان، الحسن، وصف إفريقيا، الجزء الأول، مصدر سابق، الصفحة نفسها.
[6] كربخال، مارمول، مصدر سابق، ص 450.
[7] الناصري، أحمد، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 4/ 110، دار الكتاب، الدار
البيضاء، 1956م.
[8] الإفراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، مكتبة الطالب، الرباط، ص 10 -
11.