• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العدو الأول (2-3)

إذا نظرت اليوم إلى ما أحدثته القوى العالمية والهيئات الأممية من تشريعات وأنظمة وما أحدثته من أخلاق والتزامات يترتب عليها ثواب وعقاب بحسبه فإنك تجدها تصديقاً لما أخبر الله به عن وعد الشيطان وقسَمه بتغيير الدين


ثانياً: السعي إلى تغيير خلْق الله

وهذا ما أقسم عليه إبليس اللعين أمام الله عز وجل، كما أخبرنا بذلك كتاب الله، قال تعالى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء: 199]. فأقسم على أنه سيأمر بعض الناس بتبتيك آذان الأنعام وتغيير خلق الله.

وللسلف في تغيير خلق الله عبارات مختلفة، تصب جميعها في مشْرع واحد، وهي كما يلي:

التغيير في الأجسام: بوشمٍ أو خِصاء ونحو ذلك، وهو قول عكرمة وجماعة من المفسرين كابن عباس وأنس بن مالك والربيع بن أنس[1].

وسواء كان التغيير في الأجسام لغرض دنيوي كالزينة في الوشم وتفليج الأسنان والنمص والوصل، أم كان لغرض تعبدي كتبتيك آذان الأنعام وَفَقْء أعين الحامين؛ فكل ذلك من أمر الشيطان. وقد وردت في ذلك النصوصُ الواضحة، كقوله تعالى: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ}، وكقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]. وكحديث ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه، قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله. ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو في كتاب الله»[2]. قال القرطبي: «ولم يختلفوا أنَّ خِصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز، لأنه مُثْلةٌ وتغييرٌ لخلق الله تعالى، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حدٍّ ولا قَوَد»[3].

وتبتيك آذان الأنعام شقُّها وقطعها بقصد التقرب إلى الله تعالى، وهي عادة تعبدية اخترعتها الجاهلية بوحي من الشيطان، قال الزجاج: «وهذا في البَحيرة، كانت الجاهلية إذا ولدت الناقةُ خمسةَ أبطن؛ فكان الخامس ذكراً شقوا أذن الناقة وامتنعوا من الانتفاع بها، ولم تُطرد عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المعيي لم يركبها... سوَّلَ لهم إبليس أنَّ في تركها لا يُنْتفَع بها قربة إلى الله»[4]. وهذه البدعة المحدثة ابتدعها الخاصة من المشركين وهم الذين تزعموا القيادة الفكرية والعقدية لعامة المشركين، وهم الذين يفترون على الله الكذب، قال الشوكاني: «وقد فعل الكفار ذلك امتثالاً لأمر الشيطان واتباعاً لرسمه»[5].

ويشير البيضاوي إلى أنَّ التغيير في الأجسام يشمل التغيير في الشكل والتغيير في الصفة[6]، فيدخل في المعنى عنده: اللواط والسحاق، وهو ما يصطلح على تسميته في الحضارة الغربية بالمثلية الجنسية Homosexuality، والذي تسعى اليوم الهيئات والمؤسسات العالمية إلى تطبيعه وتشــريعه بقــوانين مدنيـة، والأعظـم من ذلك - والذي يدلك على مدى استجابة البشر للأمر الشيطاني بتغيير خلق الله - أنْ يصل الإقرار بهذا الشذوذ الجنسي إلى أعلى الدوائر الدينية الكاثوليكية، إذ تناقلت وكالات الأنباء العالمية في أكتوبر 2020م مقطعاً لبابا الفاتيكان فرنسيس وهو يدعو إلى إدراج المثلية في القانون المدني للزواج والأسرة[7]، وعلى حدِّ قوله فإنَّ: «المثليين أبناء الله ولا ينبغي نبذهم وطردهم من الدين! وفي وقت سابق من عام 2013م دعت الأمم المتحدة الدول إلى إلغاء القوانين التي تميز ضد المثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسية»[8].

وفي حقيقة الأمر فإنَّ خطوات الشيطان سارت بالبشر الذين اتبعوه عبر العصور والقرون من تبتيك آذان الأنعام إلى تغيير الهوية الجنسية، وما يزال الطريق مفسوحاً لمزيد من تغيير الخلقة وتشويه النفس الإنسانية.

تغيير مراد الله من المخلوقات: أي أنَّ الله تعالى خلق الأنعام للركوب والأكل فحرَّموها، وخلق الشمس والقمر والأحجار لمنفعة العباد فعبدوها من دون الله[9]. ولذلك فإنَّ الشيطان يجعل من نفسه قِبلة للمشركين الذين يسجدون للشمس من دون الله، وذلك بأنْ يكون في مطلعها ومغربها؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تحيَّنوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان»[10].

تغيير الدين: وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن المسيب والضحاك[11]، ومستندهم في ذلك قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

قال ابن عاشور: «والدين حقيقته في الأصل: الجزاء، ثم صار حقيقةً عرفية يطلق على مجموع عقائد وأعمال يلقِّنها رسولٌ من عند الله، ويَعِدُ العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب. ثم أُطلق على ما يشبه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتلتزمه طائفة من الناس»[12]. فالشيطان وعد بتغيير دين الناس الحق وتحويله إلى دين ملفق يصنعه جنوده من أهل الفكر والزعامات، وهذا معنى مختلف عن معنى الوسوسة، أو قل: هو معنى أشمل، لأنه يترتب عليه تشريعات وضعية وتنظيمات حياتيه وقواعد أخلاقية يستبدل بها الناس شريعة الله ودينه.

ثم هو دين لا يتسق مع الفطرة البشرية التي أودعها الله في الإنسان، والتي روعي في الحفاظ عليها والانسجام معها وتنميتها تشريع الدين الحق، فتنتكس الفطر بالدين الذي يضعه الشيطان على لسان أوليائه وبسلطة جنوده، أو تتلوث أو تتشوه، لذلك وصف الله دينه الحق بالفطرة:  {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، قال ابن عاشور: «ثم جعل أُسس هذا الدين متباعدةً عن ذميم العوائد في الأمم، حتى الأمة التي ظهر بينها، وموافقةً للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها، وكانت أصولُه مبنيةً على الفطرة، بمعنى ألا تكون ناظرة إلا إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم، غير مأسور للعوائد ولا للمذاهب. ويدخل في الفطرة: الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر وارتاضت نفوسهم بها، إذا كانت تفيدهم كمالاً ولا تفضي إلى فساد»[13].

وإذا نظرت اليوم إلى ما أحدثته القوى العالمية والهيئات الأممية من تشريعات وأنظمة وما أحدثته من أخلاق والتزامات يترتب عليها ثواب وعقاب بحسبه فإنك تجدها تصديقاً لما أخبر الله به عن وعد الشيطان وقسَمه بتغيير الدين، ولا يزال يُحدِث لهذه القوى والهيئات المزيد من البدع والمزيد من الضلال، حتى أوصل جنده إلى فكرة توحيد الأديان في العالم عبر ما يعرف اليوم بـمبادرة الأديان المتحدة URI [14]. وهي مبادرة تهدف إلى طمس صورة الإسلام المبنية على الولاء والبراء، والقبول الوجداني والاعتقادي لكل دين ولكل مذهب ولكل فكرة. وهكذا يسير الشيطان بجنوده وعساكره خطوة خطوة حتى يصلوا إلى الإلحاد والكفر ونبذ الأديان.

واختار الطبري القول الثالث - أعني: تغيير الدين - وقال: «وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك فعل كلِّ ما نهى الله عنه: من خِصَاءِ ما لا يجوز خصاؤه، ووشم ما نهى عن وشمه وَوشْرِه، وغير ذلك من المعاصي، ودخل فيه ترك كلِّ ما أمر الله به»[15].

والبيضاوي يرى الجمع بين هذه المعاني[16]، وكذا البقاعي[17] والسعدي[18] وابن عاشور[19] وغيرهم، قال الشوكاني: «ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملاً شمولياً أو بدلياً»[20]. وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «ألا إنَّ ربي أمرني أنْ أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتهم أنْ يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً[21].

وخلاصة القول أنَّ تغيير خلق الله تعالى هو من مسالك الشيطان في عداوته للإنسان وإيقاعه في دروب الشقاء والخطيئة، لذلك فإنك تجد كثيرين من البشر ممن أطاعوه وغيَّروا في خلق الله تعالى ووقعوا في الخسران المبين لأنهم أطاعوه من دون الله، {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}، وقد ذكر ابن عاشور أنَّ التعقيب بهذه الجملة دال على أنَّ ما دعاهم إليه الشيطان: «من تبتيك آذان الأنعام، وتغيير خلق الله، إنما دعاهم إليه لما يقتضيه من الدلالة على استشعارهم بشعاره، والتدين بدعوته، وإلا فإنَّ الشيطان لا ينفعه أنْ يبتك أحد أذن ناقته، أو أنْ يغير شيئاً من خلقته، إلا إذا كان ذلك للتأثر بدعوته»[22].

ثالثاً: إفساد المجتمعات بفتنة النساء

أدرك الشيطان منذ البداية أنَّ في الطباع البشرية والغرائز الإنسانية مدخلاً مهمّاً في تحقيق وعده بإضلال بني آدم، فهو الداعية الأكبر للفاحشة وهو إمام الداعين لها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} [النور: 21].

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم  أنَّ الشيطان يصور المرأة في عين الناظر لها على أحسن هيئة وبما يحرك شهوته تجاهها، حتى لو كانت محجبة محتشمة، لأنه لا يألوا جهداً في إيقاع الناس في الفواحش؛ فعن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  رأى امرأة، فأتى امرأته زينب فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه، فقال: «إنَّ المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأةً فليأتِ أهله؛ فإنَّ ذلك يردُّ ما في نفسه»[23]. وهذا إخبار عن حالة الإبصار من الرجال، لا عن حقيقة المرأة، وفي غرائز الرجال من الطبيعة ما يدفع نحو هذا التصور، قال ابن الجوزي: «أيْ إنَّ الشيطان يزين أمرها ويحث عليها. وإنما يقوى ميل الناظر إليها على قدر قوة شبقه، فإذا جامع أهله قلَّ المحرك وحصل البدل»[24].

ويتجلى هذا المسلك الشيطاني في أمرين عظيمين، يلتقيان تارة ويفترقان تارة أخرى:

الإيقاع في الزنا: وقد أذن الله تعالى للشيطان إذناً قدرياً أنْ يظفر بذلك، قال تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64] قال ابن عباس: «أولاد الزنا»[25]. والزنا من أعظم الفواحش، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: ٢٣]، قال الرازي: «أما كونه فاحشة فهو إشارة إلى اشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم، وإلى اشتماله على التقاتل والتـواثب على الفروج، وهو أيضاً يوجب خراب العالم. وأما المقت فقد ذكرنا أنَّ الزانية تصير ممقوتة مكروهة، وذلك يوجب عدم حصول السكن والازدواج وأنْ لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه. وأما أنه ساء سبيلاً فهو ما ذكرنا أنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث، وأيضاً يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة من غير أنْ يصير مجبوراً بشيء من المنافع»[26]. وهذا تلخيص من الرازي لما فصله بعبارات أكثر وضوحاً يحسن الرجوع إليها. والمقصود أنَّ الشيطان يفسد المجتمعات بإيقاع أفرادها في فاحشة الزنا لِـمَا يترتب عليها من المفاسد العظيمة؛ فكيف بشيوع الزنا وإباحته في النظم والقوانين تحت مسميات مختلفة يلتبس فيها الحق بالباطل تارة كالحرية ومفهوم الأسرة العالمي، أو بأسماء بديلة عن الأسماء الحقيقية تارة كالحمل خارج إطار الزوجية! وغير ذلك من التلاعب بالألفاظ ونحت المصطلحات التي يضل بها كثير من الناس؛ فكيف بالدعوة إلى حرية الجسد وحرية الجنس التي تتنادى إليها هيئات أممية ولجان عالمية في محافل كبيرة من مؤتمرات وندوات؟ وما مؤتمر السكان المتكرر انعقاده إلا دليل على تسلط الشيطان على بعض بني آدم واعتنائه بهذه المسألة؛ كونها مسلكاً مهمّاً في إفساد المجتمعات وإضلالها وإبعادها عن صراط الله المستقيم.

الإيقاع في العشق: وهو الإفراط في الحب، وهو الذي دفع امرأة العزيز إلى مراودة نبي الله يوسف عليه السلام، قال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْـمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30]. قال البيضاوي: «شقَّ شغافَ قلبها، وهو حجابه، حتى وصل إلى فؤادها حباً»[27].

وبالرغم من أنَّ العاشق لا يكون بالضرورة فاحشاً أو منتهكاً للحرمات، إلا أنَّ الشيطان قد ظفر منه بتعلُّق القلب بغير الله، وبغير ما أحل الله، لذلك فإنَّ العشق نوعُ عبودية يصرفها العاشق للمعشوق، قال ابن القيم: «فإنَّ عشق الصور المحرمة نوع تعبُّد لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتيماً، والتتيم التعبد، فيصير العاشق عابداً لمعشوقه، وكثيراً ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته وإيثار محابه على حب الله وذكره والسعي في مرضاته، فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، فيصير آثر عنده من ربه: حباً وخضوعاً وذلاً وسمعاً وطاعة. ولهذا كان العشق والشرك متلازمين؛ وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين»[28]. فكيف إذا تجاوز العشق إلى السلوكيات المحرمة كالمواعدة واللقاء والنظر ونحو ذلك مما حرم الله، قال ابن تيمية: «المشهور من لفظ العشق هو محبة النكاح ومقدماته، فالعاشق يريد الاستمتاع بالنظر إلى المعشوق وسماع كلامه، أو مباشرته بالقبلة والحس والمعانقة، أو الوطء»[29].

ولفتنة النساء أبواب ونوافذ يلج منها الشيطان في إغواء الإنسان، غير أنَّ أعظمها ثلاثة أبواب حذَّرت النصوص الكريمة من مآلاتها، وهي:

١ - باب اختلاط الرجال بالنساء:

فإنَّ الطبيعة الخَلقية والنوازع الفطرية فيهم تتأجج في حال الاختلاط، وهذا من أكبر الأسباب التي دفعت امرأة العزيز لحب يوسف عليه السلام ومراودته عن نفسه والكيد له. والخلطة تورث الأُلفة والمودة والاهتمام ورفع الحرج وزوال التحفظ بين الرجل والمرأة، وهنا يجد الشيطان فرصته في الدلالة على المحظور فيزين صورة المرأة في عين الرجل ويزين صورة الرجل في عين المرأة، ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: ٣٣]: «كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية»[30]. أما إذا اشتمل هذا الاختلاط على خلوة بينهما فإنَّ الشيطان يكون حينها أقرب إلى كلِّ واحد منهما من الآخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان»[31]. فيكون الشيطان حاضراً مؤججاً لشهوة كلٍّ منهما ليوقعهما في الفاحشة الكبرى أو مقدماتها من كلام ونظر ومباشرة وملامسة وتقبيل.

٢ - باب التعري والتبرج:

وقد حرص الشيطان منذ بداية الخليقة على الوصول إلى هذا الباب، لأنه لا يُشرع إلى الخير مطلقاً؛ وإنما يشرع إلى أنواع من الفتن والشرور، فحينما حرض الشيطان آدم على الأكل من الشجرة أراد بذلك إيقاعهما في معصية الله التي تتسبب في تعريهما، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 20]. وهذا على أحد القولين في حرف اللام في قوله: {لِيُبْدِيَ}[32]، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْـجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 27]، وعلى كلٍّ فإنَّ التعري مقصد من مقاصد الشيطان، قال ابن عاشور: «وهذه أول وسوسة صدرت عن الشيطان. وأول تضليل منه للإنسان»[33].

والتبرج هو إظهار المرأة لزينتها وما تستدعي به شهوة الرجل[34]؛ سواء كان في مشيتها أم في ملابسها أم في إظهار حليها أو شيء من جسدها، فإنَّ الشيطان - والحالة هذه - أشد استشرافاً لها وتزييناً في نظر الرجال ليزداد دافع الشهوة وارتكاب المحظور وصرف الهمة عما ينفع في الدنيا والآخرة إلى اللذات العاجلة والمحرمة. ألا ترى أنَّ الله تعالى أخبرنا أنَّ أهل الجاهلية الذين يطوفون بالكعبة عراة من أولياء الشيطان كما في قوله تعالى: {إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 30] وأنَّ تعريهم هذا فاحشة[35] كما في قوله تعالى: {وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28].

٣ - باب الغناء والعزف بآلات الطرب والموسيقا:

 قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]. قال مجاهد: بالغناء والمزامير[36]. ويوضح ابن تيمية كون الغناء باباً إلى الفواحش فيقول: «ومن أقوى ما يهيِّج الفاحشة إنشادُ أشعار الذين في قلوبهم مرض من العشق ومحبة الفواحش ومقدماتها بالأصوات المطربة، فإنَّ المغني إذا غنى بذلك حرك القلوب المريضة إلى محبة الفواحش، فعندها يهيج مرضه ويقوى بلاؤه، وإنْ كان القلب في عافية من ذلك جعل فيه مرضاً كما قال بعض السلف: الغناء رقية الزنا»[37].    

فتأمل هذه الأبواب التي يلج منها الشيطان لإيقاع المجتمعات في فتنة النساء، وكيف أطاعه جنوده وأولياؤه حتى استحدثوا لها العديد من المخترعات التي تسهل الولوج منها إلى المعصية والولوغ في أوحالها، وانظر على سبيل المثال: البث الفضائي من خلال القنوات التلفزيونية وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي سهلت الافتتان بالنساء والنظر إلى مفاتنهن والحديث معهـن كما روجت للتعري والسفور وجعلت من الغناء أمراً طبيعياً لا يكاد يُنكَر، بل أعلت من شأنه. فنعوذ بالله من الشيطان ونزغاته.

 


 


[1] تفسير الطبري: 9/ 215.

[2] أخرجه البخاري، حـ 5943.

[3] الجامع لأحكام القرآن: 5/ 391.

[4] معاني القرآن وإعرابه: 2/ 109.

[5] فتح القدير: 1/ 596.

[6] انظر: أنوار التنزيل: 2/98.

[7] موقع (إرم) الإخباري على الإنترنت:

https://www.eremnews.com/entertainment/society/2289729 .

[8] موقع هيئة الأمم المتحدة على الإنترنت:

https://news.un.org/ar/story/2013/05/178512.

[9] معالم التنزيل: 2/289.

[10] أخرجه البخاري، حـ 3273.

[11] معالم التنزيل: 2/289.

[12] التحرير والتنوير: 3/ 188.

[13] التحرير والتنوير: 3/ 193.

[14] انظر: موقع مبادرة الأديان المتحدة على الإنترنت

www.uri.org.

[15] تفسير الطبري: 9/223.

[16] أنوار التنزيل: 2/98.

[17] نظم الدرر: 5/407.

[18] تيسير الكريم الرحمن: 1/ 203.

[19] التحرير والتنوير: 5/ 205.

[20] فتح القدير: 1/ 596.

[21] أخرجه مسلم، حـ 2865.

[22] التحرير والتنوير: 5/206.

[23] أخرجه مسلم، حـ 2151.

[24] كشف المشكل: 3/ 103.

[25] تفسير الطبري: 14/ 663.

[26] تفسير الرازي: 20/ 332.

[27] أنوار التنزيل 3/161.

[28] إغاثة اللهفان 1/64.

[29] جامع الرسائل 2/241.

[30] تفسير ابن كثير 6/410.

[31] أخرجه الترمذي ح2165.

[32] انظر: تفسير القرطبي 7/178.

[33] التحرير والتنوير: 8/62.

[34] معاني القرآن وإعرابه: 4/225.

[35] تفسير الطبري: 10/137.

[36] تفسير البغوي: 5/105.

[37] مجموع الفتاوى: 15/313.

 

 


أعلى