جاء كتابه عن الهند متميزاً في إضافته العلمية والأدبية. وكما قال أحد الرحالة: «إذا لم تضف الرحلات فائدة إلى قائمة المعرفة البشرية، فإنها تصبح ضارة». لأنها شهادة على العصر والمجتمع الذي عاشه المؤلف الرحالة، فيجب أن تكون شاملة لكافة جوانبه ويحركها هدف نبيل
لا يمكن النظر إلى شخصية أبي الريحان محمد
بن أحمد البيروني (362هـ/ 973م - 440هـ/ 1048م) على أنه رحالة فحسب، ولا سبيل
لقراءة رحلته إلى الهند بمعزل عن تكوينه العلمي؛ فهو عالم فذٌّ عبقري، متعدد
المواهب والقدرات والمعارف والعلوم؛ بل إنه أتقن كلَّ ما ألَّف فيه في مجالات:
الفلسفة، والفَلَك، والجغرافيا، والجيولوجيا، والصيدلة، والرياضيات، والترجمة،
والتاريخ والتأريخ. فجاء منجزُه في مدونات الرحلات بعضاً من مشروعاته ومؤلفاته
العلمية. وبعبارة أدقَّ: فإنه لا يمكننا فهم البيروني الرحالةِ والمؤرخِ بمعزل عن
فهم نبوغه وعطائه في علوم أخرى.
وُلِدَ البيروني في ضاحية من ضواحي خَوارزم
(من جمهوريات آسيا الوسطى تسمى الآن أوزبكستان)، وقام برحلات لطلب العلم إلى بلدان
مختلفة حوله، وقد أتقن عدداً من اللغات غير العربية، مثل الفارسية والسنسكريتية
والسريانية واليونانية.
لقد اعتنى البيروني مبكراً بالبحث والتأليف
في حياة الشعوب: تقاليدها، وصناعاتها، والتعريف بأهلها، بجانب الميدان الجغرافي
المتعلق بالسهول والجبال والوديان والأنهار والبحار، الذي ينعكس - بلا شك - على
حياة السكان وطبائعهم ونشاطهم الاقتصادي، وحياتهم الاجتماعية، مع دراسة وتوثيق علومهم
ومعارفهم.
ونظراً لإجادته اللغة السنسكريتية، فإن
السلطان محمود الغزنوي اصطحبه معه في فتوحاته إلى الهند، ثم طلب إليه تأليف كتاب
يشتمل على تعريف ببلاد الهند، وثقافتها، وتاريخها، وعادات أهلها، ودياناتها، بهدف
مساعدة دعاة المسلمين في نشر الإسلام بين ربوعها، وهو ما قام به البيروني بالفعل.
في ضوء هذه الغاية جاء كتاب البيروني (تحقيق
ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) فريداً في صياغته ومعلوماته
والمستهدف منه؛ فموسوعية البيروني العالم والأديب والفيلسوف أهَّلَته ليقرأ
المجتمع الهندي قراءة علمية، ويقدِّم معلومات وافية مفصلة تتجاوز المفهوم البصري
الذي يعتمده الرحالة عادة في تسجيل ما يشاهدونه أو يعيشونه بأنفسهم، إلى تقديم
كتاب علمي متكامل عن مجتمع الهند بكل اتساعه وضخامته؛ خدمة لمشروع السلطان محمود
الغزنوي الذي أقام سلطنة ضخمـة في أفغانستان، وكان له طموحه الأكبر في فتح الهند
ونشر الإسلام فيها، فطلب إلى البيروني مرافقتـه في غزواته للهنـد، ومن ثَمَّ
وَضْعَ مؤلَّفٍ جامع عنها، ليتواكب الفتح مع العلم، ويمتلك دعاة الإسلام في الهند
معرفةً كافية على أسس علمية، ووَفْقَ معلومات دقيقة.
وقد توسعت الدولة الغزنوية في شمال الهند،
من خلال حملات عسكرية متتابعة، وصل عددها إلى تسع عشرة حملة، خلال المدة من
(367هـ/ 977م - 422هـ/ 1032م). في الوقت نفسه ربطت صداقة وطيدة بين البيروني
والسلطان محمود الغزنوي، والأخير كان أكبر من البيروني بعامين فقط، وكان ذا همة
عالية، ورغبة في تكوين مملكة قوية، وهذا ما حققه في عام 1020م؛ إذ امتدت حدود
مملكته ألف ميل من الشمال إلى الجنوب، ونحو ضعفي ذلك من الشرق إلى الغرب.
أما الإسلام في الهند، فتذكر المراجع
التاريخية أن الثقافة الإسلامية وردت إلى الهند من جهة خراسان وبلاد ما وراء
النهر، فشعوبها هي الأقرب في الجغرافيا إلى الهنود، وكان جنود الفتح الإسلامي من
أبنائها. ولما بلغ الإسلامُ الهند، أنتج حضارة إسلامية امتاحت من حضارة الهند
القديمة وفلسفاتها وعلومها، كما نهض من بلاد الهند جَمْعٌ كثير من العلماء
المسلمين؛ خاصة عندما صارت لاهور قاعدة الملك في أيام الدولة الغزنوية وتطورت
لتكون مركزاً للعلوم والفنون. وتتابع الأمر مع جهود ملوك المملكة الغورية الذين
فتحوا مدينة دلهي واتخذوها عاصمة للهند، وأصبحت قبلةً ومآباً للعلماء، حتى وفد
إليها أرباب الفضل والكمال من كل ناحية وبلدة، فدرسوا وأفادوا عهداً بعد عهد، ولم
تزل كذلك إلى آخر عهد الملوك التيمورية.
وهو ما يفسر لنا طبيعة كتاب البيروني عن
الهند، وما فيه من تفصيل وتعميق وإحاطة بكل علـوم الهند ومعارفها وفنونها، ليكون
مرجعاً للدعاة المسلمين. فالهند أمة عظيمة التاريخ والحضارة والثقافة، ولا بد من
فهم هذا لمن أراد الولوج إلى عالمها، ونشر ديانة جديدة مثل الإسلام مصحوبة بثقافة
وعلوم ومنجز حضاري كبير. وبعبارة أخرى: لا يمكن غزو أمة متحضرة، ونشر دين ومعارف
وثقافة جديدة فيها، دون الفهم العلمي والموضوعي لثقافتها وحضارتها، وإلا ستبتلع
الأمة المتحضرة الغزاة وتشبعهم بثقافتها، إذا كان الغزاة همجاً رَعاعاً لا حضارة
ولا ثقافة راقية عندهم. والمثل الواضح على ذلك: التتار، الذين كانوا شعباً بدائياً
لا يعرفون استقراراً ولا حضارة، بضاعتهم ونشاطهم منحصر في الغزو والنهب، وإسقاط
الدول، وقد تمكنوا من تكوين إمبراطورية ضخمة، بعدما أفنوا شعوباً، وهدموا ممالك،
إلا أنهم سرعان ما تأثروا ثم ذابوا في شعوب دار الإسلام، بحضارته الزاهرة التي
غزوها في بلاد فارس والمشرق العربي والشام، بفعل عوامل متعددة منها: إعجابهم
واتباعهم التصوف الإسلامي، وزواجهم من المسلمات، واقتداؤهم بما رأوه من تحضر
السكان المسلمين في وسط آسيا وفارس والعراق، فأسلموا وخدموا الإسلام عندما حكموا.
وقد استبق البيروني كتابه عن الهند بالاطلاع
على تراث الهند العلمي، من خلال مصاحبته للسلطان محمود الغزنوي ثلاث عشرة مرة
إبَّان حملات السلطان على الهند، فخالط البيروني المجتمعَ الهنديَّ، نخبةً
وعامَّةً وقرأ أسفارهم، وعرف تقاليدهم وشرائعهم، وألمَّ بطرائق تفكيرهم وحكمتهم.
كما قام البيروني بترجمة اثنين وعشرين
كتاباً من اللغة السنسكريتية إلى العربية، ومن أبرز هذه الكتب: (جوامع الموجود
لخواطر الهنود)، (قانون الأركنـد)، (خيال الخسوفيين)، (راشيكات الهند)،
(الساماكاليتا) وفيه نظام الأعداد الهندي وترجمة النظريات الرياضية لبراهما
سدهانتا. كما قام أيضاً بترجمة كتب من العربية إلى السنسكريتية، وجلُّها من التراث
الإغريقي، ومن أبرزها: (أصول إقليدس)، (كتاب المجسطي لبطليموس)، (كتاب عن صنعة
الإسطرلاب). وهو ما يعني أن رحلات البيروني لم تكن للمشاهدة والسياحة والتعرف على
أحوال شعوب الهند فقط؛ وإنما اندمج في الحياة العلمية الهندية، وغشي مكتباتها
ومجالسها العلمية، فقام بما يشبه عملية الحوار الحضاري والثقافي، عبر الترجمة
والاطلاع والحوار، في جهدٍ دؤوبٍ متميزٍ.
فجاء كتابه عن الهند متميزاً في إضافته
العلمية والأدبية. وكما قال أحد الرحالة: «إذا
لم تضف الرحلات فائدة إلى قائمة المعرفة البشرية، فإنها تصبح ضارة». لأنها شهادة على العصر والمجتمع الذي عاشه
المؤلف الرحالة، فيجب أن تكون شاملة لكافة جوانبه ويحركها هدف نبيل. ويجب أن تكون
دقيقة في معلوماتها، وإحصاءاتها، وتواريخها، وحوادثها، وتفصيلاتها، وأيضاً في
خرائطها ورسومها وصورها. فالرحلة وثيقة حيَّة، ونتاج معاينة ومعاناة، وأذواق
منقحة، وهو ما يجعلها مصدراً هامّاً للدراسات التاريخية المقارنة، والدراسات الثقافية
بجانب كونها من أدب الرحلات. فمدونات أدب الرحلات الرصينة تتأسس على الإضافة
المعرفية العميقة، التي تتجاوز الفردانية والأحاديث السائرة عن أحوال الملوك
قصورِهم وخَدَمِهم، ومظاهر العمران وأحوال الشعوب في البلدان، إلى تقديم نشاط
الإنسان وإبداعه وابتكاراته وثقافته، وهذا لا بد أن يكون في أمامية الصورة، أما ما
عداه فيكون في خلفيتها. فبعض الرحالة دوَّنوا الطرائف ووصفوا العجائب في حياة
الشعوب، وبالغوا في ذلك من أجل جذب القراء لكتبهم، ولكن البيروني نأى عن ذلك ليقدم
لنا كتاباً جمع العلم في منتهاه، والتاريخ وأخباره، وعرَّفنا بطبائع الهنود
النفسية والاجتماعية، ولم يهمل معالم الهند، وما تتميز به في طبيعتها، وأيضاً في
مبتكراتها العمرانية والعلمية، ليكون كتابه فريداً يجمع التاريخ والعلوم وأدب
الرحلات والفنون.
تبقى نقطةٌ مهمة تجب الإشارة إليها، تتعلق
بتنازع دول عديدة جنسيةَ البيروني؛ فأوزبكستان تتفاخر به، وهي التي تضم سمرقند
وطشقند وبخارى وترمذ، وأخرجت كبار علماء الحديث أمثال: البخاري ومسلم والترمذي...
كما تدعي إيران نسبته إليها، فقد أجاد لغتها وعاش فيها، وكذلك جمهوريتا طاجيكستان
وأفغانستان، وقد قضى البيروني فيهما شطراً من حياته، كما تتفاخر القومية التركية
بنسبته إليها، لأنه ولد في خوارزم التي هي من أعمال جمهورية تركستان حالياً،
ونتمسك به نحن العرب لأن جلَّ مؤلفاته كانت باللغة العربية. وفي الحقيقة هذا
التنازع مبني على أساس التعصب للهويات القومية وجنسيات الدول التي رسمت حدودها
حديثاً، وكل هذا لم تعرفه الحضارة الإسلامية، وقد عاشت في كنفها عرقيات وشعوب
وجنسيات كثيرة، اعتنقوا الإسلام، وتعلَّموا علومه، وأبدعوا باللغة العربية مثلما
دوَّنوا كتباً بلغاتهم الأصلية، وفي جميع الأحوال كان التفاخر الشعوبي نزعة مدانة
ديناً وأخلاقاً، ولا يمكن قراءة المنجز الحضاري الإسلامي على أسس قومية أو حدودية.