مما أحسب ياسرًا تميَّز به: شدّة محافظته على الصّلاة والعناية بها، وأظنّه ورث هذه الصفة عن والده العم عوض الله -رحمه الله-. أذكر مرة أني كنت أقود سيارتي قبل أكثر من خمس وعشرين سنة
كان الحديث عمّن فقدت ممَّن عرفت يسيل به القلم كما تسيل الدمعة حرّى، إلّا أنها تعرف طريقها السّهل فتتدفق! يتدفق مع الكَلْم الكلمات... إلا أن نبأ وفاة الصديق الحبيب الوفيّ ياسر عوض اللّه عبّاس باغتني، وباغت كلماتي فَلَم يَسلِ القلم بمداده ولم أعرف سوى معنى العَبْرة الخانقة والعِبْرة القاهرة.
حَدَثَتْ الحادثة وأنا أفكر في ما يدعو العبد لتعظيم الله سبحانه، فإذا بوفاة الشيخ ياسر من أقوى المواقف الداعية لتعظيم الله سبحانه في نفسي... هذا الإله الذي أعبد هو الذي يملك نفسي... له مماتها ومحياها، يُرسلها متى شاء، ويأخذها في أيّ وقت شاء، كل شيء يهلك إلا هو... أخذ سبحانه ياسرًا وهو في قوّة شبابه، وعلى مطالع إشراقة الدنيا عليه، فسبحان الله العظيم! ما أعظم قوّته وأبهر حكمته!
عرفتُ أن الموت يُذكّرك بحجمك الحقيقي، وأن الموت آية من آيات الله تُذكّرك بأنك عبدٌ لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
فسبحان الحي الذي لا يموت... ما أعظمه! ﴿إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [التوبة: ١١٦].
* * *
انطلقتُ بعد نبأ الوفاة[1] للمدينة النبوية للصلاة على أخي ياسر، وأنا أقول في نفسي: هنيئًا له الموتة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عشرة أيام من أداء عبادة يخرج منها العبد من ذنوبه نقيًّا كالطفل الصغير، لا ذنب عليه! وبراءة الطفل الصغير يعرف مَن عرف ياسرًا أنها تتناسب مع براءته حيًّا حيِيًّا برًّا -نحسبه- تقيًّا... ولا نزكي على الله أحدًا.
بعد أن صلينا العشاء هزّني مشهد إمام الحرم النبوي وهو يقف تمامًا عند رأس ياسر ليصلّي عليه، ومن وراء الإمام آلاف من البشر جاؤوا من كل فجّ عميق يدعون لهذا السّعيد -نحسبه-؛ «اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسّع مدخله»، ثم يُحمَل على الأعناق لنمرّ -ونحن نحمل جنازته- بقبور أمهات المؤمنين الطيبات الطاهرات، وبقبر ذي النورين عثمان وبقية الصحابة -رضي الله عنهم-، حتى يستقر بالصَّديق الغالي المقام في أطراف مقبرة البقيع قريبًا من العِلْية الأجلّة من الآل والأصحاب...ليأنس بعدها -بإذن الله- بدعوات المسلمين له ولأهل البقيع ما بقي من يقول في الأرض «الله... الله»؛ فأيّ كرم إلهيّ هذا؟!
قبّلت جبين ياسر، وتذكرت تقبيل الصِّديق أبي بكر -رضي الله عنه- جبين الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد موته وقوله له: «طبتَ حيًّا وميتًا».
* * *
كانت بيني وبين الحبيب ياسر رحلات طيبة لأسواق الطِّيب في الرياض، وأحاديث عَبِقة عن أنواع الطيب، وهدايا متبادلة من العود والمسك، وغيرها مما في جؤنة العطّار.
وقدّر الله لي أن أُطيِّبه الطّيب الأخير بطيب -يُهدَى- يقال: إنه نفس الطيب الذي تُطيَّب به الكعبة المشرفة، أهداه لي أحد الدعاة الأكابر. أفرغت الطيب على صدر ياسر لعله يأنس به... أو هكذا تملّكني الشّعور حين طيّبته.
كان الجميع يتخافتون بعد دفنه حول صفة واحدة عند ياسر، ألا وهي «حُسن الخلق».
كان في المقبرة زملاء عمله، وأصدقاؤه وأخواله، وأقرباؤه... كان في المقبرة الشيخ الذي يحمل نفسه حملًا ليمشي... وتبع الجنازة الشابّ الذي يجري... ولا تسمع منهم إلا همسًا عن حُسن خلق الرّجل ودماثة نفسه... التي أحسبها زكيّة.
هنيئًا -والله- لمن رحل عن الدنيا وقد عُرف بهدوء الطّبع، واتزان المواقف، وجمال التّبسّم، وسخاء النّفس، والأخذِ بالعفو، والبعد عن الغيبة، وانتظم حياتَه حُسن الخُلُق؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ خِيَارَكُمْ أحَاسِنُكُمْ أخْلَاقًا»[2].
تحدّثت مع الشيخ الصديق الدكتور الطاهر بعد وفاة الشيخ ياسر، وذكّرني بقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا عَسَّلَهُ. قيلَ: وما عَسَّلَهُ؟ قال: يفتحُ له عمَلًا صالِحًا قبلَ موتِه ثمَّ يَقْبِضُهُ علَيْهِ»[3].
نرجو أن يكون ياسرًا أحد هؤلاء الذين أراد الله بهم الخير فوفَّقهم لحجّ بيته، ثم الوفاة بجانب نبيّه صلى الله عليه وسلم .
مما أحسب ياسرًا تميَّز به: شدّة محافظته على الصّلاة والعناية بها، وأظنّه ورث هذه الصفة عن والده العم عوض الله -رحمه الله-. أذكر مرة أني كنت أقود سيارتي قبل أكثر من خمس وعشرين سنة، ومعي والد ياسر، وبمجرد أن بدأ المؤذّن في أذانه، قال لي العم مباشرة: «أقِيْف» (قِفْ بلهجة أهل السودان)، فقلت له: لماذا؟ فقال: إذا أذَّن المؤذن فتوقف مباشرة للصلاة!... كان ذلك موقفًا عمليًّا في المحافظة على الصّلاة في أوّل وقتها، وفي التبكير لها، أرجو أن أستفيد منه ولا أنساه.
هناك من يموت فتحزن عليه؛ أنْ لم يستكثر من الصّالحات قبل موته. وهناك مَن يموت فتحزن أنت على نفسك؛ لأنك فقدت صديقًا صادقًا كنت ترجو نوال بركة دعواته لك بظهر الغيب. ويا الله ما أصدقه من موقف حينما يقول لك رجُلٌ بعظمة وصفاء ياسر: «دعوتُ لك في الحج»، وما أحزنها من ساعة حين تدرك أن ذلك المورد العذب من الدّعوات قد نضب.
تذكّرتُ موقف الصِّدّيق أبي بكر، والفاروق عمر عندما زارا أمّ أيمن فبكت عندما رأتهما، فقالا لها: «ما يُبْكيكِ؟ فما عندَ اللَّهِ خيرٌ لرسولِهِ. قالت: إنِّي لَأعلمُ أنَّ ما عندَ اللَّهِ خيرٌ لرسولِهِ، ولَكن أبْكي أنَّ الوَحْيَ قدِ انقطعَ منَ السَّماء. قالَ: فَهيَّجَتْهما على البُكاءِ فجعلا يبْكيانِ معَها»[4].
ونحن اليوم نبكي أن انقطعت عنّا دعوات ذلك الرجل الذي نحسبه صالحًا.
اللهم اغفر لأبي عبد الله ذنبه، واجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأفسح له في قبره مدّ بصره، واجعل قبره روضة من رياض الجنّة. وحقّق اللهم فينا وَعْد نبيك صلى الله عليه وسلم بالظّل تحت ظل عرشك؛ «ورجلان تحابّا في الله؛ اجتمعا عليه، وتفرقا عليه»[5].
[1] توفي الشيخ ياسر بعد حج عام ١٤٤٤هـ (غفر الله له ورحمه رحمة واسعة).
[2] أخرجه البخاري (٦٠٣٥)، ومسلم (٢٣٢١).
[3] أخرجه أحمد (١٧٨١٩)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (٤٠٠) وصححه الألباني في صحيح الجامع (٣٠٧).
[4] أخرجه مسلم (٢٤٥٤).
[5] أخرجه البخاري (١٤٢٣)، ومسلم (١٠٣١).