في ظلال آيات الشكر (2- 2)
التواصي على الشكر: عن معاذ رضي الله عنه قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ». فقلت: يا رسول الله! وأنا - والله - أحبك. قال: «فَإِنِّي أُوصِيكَ بِكَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»[1].
وَوَصَّى مُعَاذاً يَسْتَعِين إِلهَهُ
عَلَى ذِكْرِهِ وَالشُّكْرِ بالحُسْنِ يعبد[2]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَتُحِبُّونَ أَنْ تَجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؟ قُولُوا: اللهُمَّ أَعِنَّا عَلَى شُكْرِكَ، وَذِكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»[3].
التقوى مفتاح الشكر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]. قال محمد بن كعب رحمه الله تعالى: «الشكر تقوى الله، والعمل بطاعته»[4].
التحدث بنعمة الله شكر: قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: ١١]، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم : «وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ بِهَا، فَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا»[5]. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ»[6]، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: «تذاكروا النعم؛ فإن مَن ذكرها شكرها»[7]، لذا صار «الشكر تصور النعمة وإظهارها»[8] و «إن الشاكر للنعمة، وإن أطنب وأسهب، لا يلحق شأوَ المبتدئ بها، ولا يخرج بأقصى سعيه من أداء حقه فيها؛ لأن نعمته صارت سبباً لشكره، وداعيةً لذكره، فلها فضل سبقها وموقعها وفضلها، فإن الشُّكر من أجلها، وإنها - حيث حلَّت - عائدة بثناء جميل، وثواب جزيل؛ ولا خِلاف بين الحكماء أن الجالب خيرٌ من المجلوب، والفاعل خير من المفعول»[9].
إِذَا كَانَ شكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَة
عَليَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يجبُ الشُّكرُ؛
فَكَيْفَ بُلُوْغ الشكرِ إِلَّا بِفَضْلِهِ
وَإِنْ طَالَتِ الأيَّامَ وَاتصَلَ العُمْرُ[10]
وقيل:
تَبَارَكَ مَنْ شُكْرُ الوَرَى عَنْهُ يَقْصُرُ
لِكَوْنِ أَيَادِي جُوْدِهِ لَيْسَ تُحْصَرُ
وَشَاكِرُهَا يَحْتَاجُ شُكْرَاً لِشُكْرِهَا
كَذَلِكَ شُكْرُ الشُّكْرِ يَحْتَاجُ يُشْكَرُ
فَفِيْ كُلِّ شُكْــــرٍ نِعْمَــةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ
بِغَيْــــرِ تَنَاءٍ دُوْنَهَا الشُّكْــــــرُ يَصْغُرُ
فَمَنْ رَامَ يَقْضِيِ حَقَّ وَاجِبِ شُكْرهَا
تَحَمَّلَ ضِمْنَ الشُّكْر مَا هُو أَكْبَرُ[11]
أقسام بني آدم: قال تعالى: {إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً 2 إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِراً وَإمَّا كَفُوراً} [الإنسان: ٢ - ٣].
الوعد الرباني للشاكرين: قال تعالى: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: ٧]، وهنا «قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثنِ فيه واستثنى في خمسة أشياء: في الإغناء، والإجابة، والرزق، والمغفرة، والتوبة؛ فقال تعالى: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إن شَاءَ} [التوبة: 28]، وقال تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ إن شَاءَ} [الأنعام: 41]، وقال تعالى: {يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ} [البقرة: ٢١٢] {وَيَغْفِرُ لِـمَن يَشَاءُ} [المائدة: 40]، وقال عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 27]، وختم بالمزيد عند الشكر من غير استثناء فقال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: ٧]»[12]، «ولهذا كانوا يسمون الشكر الحافظ؛ لأنه يحفظ النعم الموجودة. والجالب؛ لأنه يجلب النعم المفقودة»[13]، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى رجلاً، فيقول: «يَا فُلَانُ كَيْفَ أَنْتَ؟» فيقول: بخير أحمد الله، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : «جَعَلَكَ اللهُ بِخَيْرٍ»، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: «كَيْفَ أَنْتَ يَا فُلَانُ؟» فقال: بخير إن شكرت، قال: فسكت عنه، فقال: يا نبي الله! إنك كنت تسألني فتقول: «جَعَلَكَ اللهُ بِخَيْرٍ» وإنك اليوم سكت عني، فقال له: «إِنِّي كُنْتُ أَسْأَلُكَ فَتَقُولُ: بِخَيْرٍ أَحْمَدُ اللهَ، فَأَقُولُ جَعَلَكَ اللهُ بِخَيْرٍ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ قُلْتَ: بِخَيْرٍ إِنْ شَكَرْتُ، فَشَكَكْتَ فَسَكَتُّ»[14].
و «الشُّكْر عوذة على العارفة وتميمة فِي جِيد النِّعْمَة، الْكفْر غراب ينعب على منَازِل النعم، الشُّكْر بيدِ النِّعْمَة أَمَان وعَلى وَجه العارفة صوان»[15] و «وزينة الغنى الشكر»[16]:
اشكر فإنَّك واجد
أبداً مع الشُّكر الزِّياده
لا تتَّكل في الرِّزق منك
على التَّصرف والجلاده[17]
وقال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء: ٧٤١] «فقرن الشكر بالإيمان ورفع بوجودهما العذاب»[18]. وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: ٤٤١]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إلَّا بِإذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: ٥٤١]، وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَجَباً لِأَمْرِ المؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ»[19].
لَا يتْرك الله عبداً لَيْسَ يذكرهُ
مِمَّن يؤدبه أَو من يؤنبه
أَو نعْمَة تَقْتَضِي شكراً يَدُوم لَهُ
أَو نقمة حِين ينسى الشُّكْر تنكبه[20]
وعن سِنَانِ بْنِ سَنَّةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ»[21].
الشكر الطريق لرضى الرحمن: {إن تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: ٧]، وعن عبد الله بن غنام البياضي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قال حينَ يُصبِح: اللَّهُمَّ ما أصبَحَ بي من نعمَةٍ فمِنكَ وحدَكَ لا شريكَ لك فلكَ الحمدُ ولكَ الشُّكرُ، فقد أدَّى شُكرَ يومه، ومَن قال مِثلَ ذلك حينَ يُمسِي فقد أدَّى شُكرَ ليلَتِهِ»[22].
لَو أنَّ عُمري ألف حولٍ وقد
بُدِّلت الساعة بالدَّهرِ
وَكان لي أَلف لسان لما
نطقتُ من شكـرك بالعُشْرِ[23]
علم الله تعالى بالشاكرين: قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: ٣٥].
شكر الله تعالى للشاكرين: قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [الإسراء: ٩١]، وقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ صلى الله عليه وسلم ٩٢^صلى الله عليه وسلم ) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: ٩٢ - ٠٣] «الْمَخْلُوق يشْكر مَن أحسن إِلَيْهِ، وَالله يشْكر لنا إِحساننا إِلَى أَنْفُسنَا»[24]، وقال تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: ٣٢]، وقال تعالى: {إن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: ٧١]، وقال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً صلى الله عليه وسلم ١٢^صلى الله عليه وسلم ) إنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} [الإنسان: ١٢ - ٢٢] «ومن شكره لعبده، أن من ترك شيئاً لله أعاضه الله خيراً منه، ومن تقرب منه شبراً، تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً، تقرب منه باعاً، ومن أتاه يمشي، أتاه هرولة، ومن عامله، ربح عليه أضعافاً مضاعفة»[25].
الشاكرون هم المنتفعون بالآيات: قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: ٨٥]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: ٥]، وقال تعالى: {إن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: ٣٣].
كثرة الآيات الكونية دافعة للشكر: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّـمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: ٢٦]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: ١٣].
لَوْ كُنْتُ أَعْرِفُ فَوْقَ الشُّكْرِ مَنْزِلَةً
أَعْلَى مِنَ الشُّكْرِ عِنْدَ اللَّهِ فِي الثَّمَنِ
إِذاً مَنَحْتُكَهَا مِنِّي مُهَذَّبَةً
حَذْواً عَلَى حَذْوِ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ حَسَنِ[26]
الشكر من صفات الله تعالى: قال تعالى: {إنَّ الصَّفَا وَالْـمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ٨٥١]، وقال تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: ٣٢]، وقال تعالى: {إن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: ٧١].
وبهذا يتبين أن «مِن أسماء الله: الشاكر والشكور»[27]، قال البيهقي رحمه الله تعالى: «قال الحليمي: الشاكر معناه المادح لمن يطيعه والمثني عليه والمثيب له بطاعته فضلاً من نعمته، قال: والشكور هو الذي يدوم شكره ويعم كلَّ مطيع وكلَّ صغير من الطاعة أو كبير. وذكره أبو سليمان (يعني الخطابي) فيما أخبرت عنه بمعناه فقال: الشكور هو الذي يشكر اليسير من الطاعة فيثيب عليه الكثير من الثواب ويعطي الجزيل من النعمة، فيرضى باليسير من الشكر، قال: وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله عز وجل بالشكور ترغيب الخلق في الطاعة قلَّت أو كثُرَت لئلا يستقلِّوا القليل من العمل فلا يتركوا اليسير من جملته إذا أعوزهم الكثير منه»[28]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ»[29].
ثناء الشاكرين على ربهم بصفة الشكر: قال تعالى: {وَقَالُوا الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْـحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: ٤٣]، قال قتادة رحمه الله تعالى: «غفر لنا العظام من ذنوبنا، وشكر لنا اليسير من محاسن أعمالنا»[30].
فجمعوا بين حمده والثناء عليه تعالى بأسمائه الغفور والشكور، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ، مَا شَكَرَ اللَّهَ عَبْدٌ لَا يَحْمَدُهُ»[31]، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «(الحمد لله) كلمة الشكر»[32]، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ لِلَّهِ»[33].
الْحَمد لله شكراً لَا شريك لَهُ
مَا أسْرع الْخَيْر جدّاً إِن يشا الله[34]
من صفات عباد الرحمن أنهم لا يطمعون بشكر الناس لهم: قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً صلى الله عليه وسلم !٨!صلى الله عليه وسلم ) إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان: ٨، ٩]؛ فهم يجعلون «ذلك خاصاً لوجه الله ذي الجلال والإكرام فلا يستثمر له شكراً ولا يترصد له جزاءً»[35].
الابتلاء بالنعم لاستظهار الشكر: قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: ٠٨]، وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: ٤١١].
الشكر قرين الصبر: قال تعالى: في أربعة مواضع: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [لقمان: ١٣] «جعل الصبر مبدأ والشكر منتهى؛ لأن الصبر محمول عليه قهراً والشكر مؤدى تطوعاً»[36]، قال الحافظ رحمه الله تعالى: «الشكر يتضمن الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية. قال بعض الأئمة: الصبر يستلزم الشكر لا يتم إلا به وبالعكس فمتى ذهب أحدهما ذهب الآخر؛ فمن كان في نعمة ففرضه الشكر والصبر؛ أما الشكر فواضح، وأما الصبر فعن المعصية ومن كان في بلية ففرضه الصبر والشكر؛ أما الصبر فواضح وأما الشكر فالقيام بحق الله عليه في تلك البلية فإن لله على العبد عبودية في البلاء كما له عليه عبودية في النعماء»[37].
لِلهِ دَرُّ نُاسٍ أَخْلَصُوا العَمَلا
عَلَى اليَقِين وَدَانُوا بالذي أُمِرُوا
أَوْلاهُمُوا نِعَماً فَازْدَادَ شُكْرهُمُوا
ثُمَّ ابْتَلاهُم فَأرْضوْهُ بِمَا صَبَرُوا[38]
عاب تعالى على أقوام تركوا شكره بعد كشف الضر عنهم: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِـحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189]، وقال تعالى: {وَإذَا مَسَّ الإنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِـجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12]؛ أي «استمر على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء، أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي فرَّج عنه ما كان قد نزل به من البلاء حين استعاذ به»[39].
عن محمد بن سوقة قال: «مررت مع عون بن عبد الله بالكوفة على قصر الحجاج فقلت: لو رأيت ما نزل بنا هاهنا زمن الحجاج؟ فقال: مررت كأنك لم تدع إلى ضر مسك، ارجع فاحمد الله واشكره، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12][40].
غاية إبليس قطع الناس عن الشكر: قال تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْـمُسْتَقِيمَ 16 ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16- 17].
عاقبة من لا يشكر الله تعالى: ذكر تعالى قوم سبأ وما هم فيه من نعم عظيمة ثم ذكر دعاءهم وعاقبة الدعاء: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ: 19]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 182 وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182 - 183]. قال سفيان رحمه الله تعالى: «نسبغ عَلَيْهِم النعم ونمنعهم شكرها»[41]. وقال تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء: 36] قال مجاهد رحمه الله تعالى: «يَعُدُّ ما أعطي، وهو لا يشكر الله»[42]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ حَمَلْتُكَ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَزَوَّجْتُكَ النِّسَاءَ، وَجَعَلْتُكَ تَرْبَعُ، وَتَرْأَسُ، فَأَيْنَ شُكْرُ ذَلِكَ»[43]. لهذا كان «الشكر مدار الخير وعنوانه»[44].
وفي الختام: «نسأل اللهَ المبتدئَ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمَها علينا مع تقصيرنا في الإتيان إلى ما أوجب به من شكره بها، الجاعِلَنَا في خير أمة أخرجت للناس: أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه، وقولاً وعملاً يؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيدة»[45]:
وَالحَمْد لله على الخِتَامِ
وَالشكر لله عَلَى الإِنْعَامِ[46]
[1] أخرجه أحمد (22126) والبخاري في الأدب (690) والنسائي (1303) وصححه ابن خزيمة (751) وابن حبان (2020).
[2] للشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى مجموعة القصائد الزهديات: 1/232.
[3] رواه أحمد (7982) والحاكم (1838) وقال: «حديث صحيح الإسناد».
[4] رواه أبو حاتم في الزهد (64) والطبري: 19/235.
[5] رواه أبو داود (969) والطبراني في الكبير (10426) وصححه ابن حبان (996) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[6] رواه عبد الله بن الإمام أحمد (18449) والطبراني في المعجم الكبير 21/85 (84) قال المنذري: «رواه عبد الله بن أحمد في زوائده بإسناد لا بأس به»، والترغيب والترهيب 2/78، وقال الهيثمي: «رواه عبد الله بن أحمد، والبزار والطبراني، ورجالهما ثقات» مجمع الزوائد (9097)، وقال الألباني: «حسن صحيح» صحيح الترغيب (976).
[7] رواه ابن المبارك في الزهد (1436) والدينوري في المجالسة (2363).
[8] رسالة في تفسير قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة) لابن طولون، ص22.
[9] أخلاق الوزيرين، ص47.
[10] لمحمود الوراق. الشكر لابن أبي الدنيا (83). فضيلة الشكر للخرائطي (45). شعب الإيمان (4099). الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص199. أُنس المسجون وراحة المحزون للبحتري، ص37. لطائف المعارف، ص223. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الله هو «المحسن إلى عبده بنعمه، وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها. فشكره نعمة من الله أنعم بها عليه. تحتاج إلى شكر آخر. وهلم جراً» مدارج السالكين 2/242. وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه الرسالة: «الحمد لله الذي لا يُؤدى شُكر نعمة من نِعَمِهِ؛ إلا بنعمة منه توجب على مؤدي ماضي نعمه بأدائها نعمةً حادثةً، يجب عليه شكره بها» الرسالة، ص7. معيد النعم للسبكي، ص15. وقال الطرطوشي المالكي رحمه الله تعالى: «يقال: الشكر على الشكر أتم الشكر؛ وذلك بأن ترى شكرك بتوفيقه ويكون ذلك التوفيق من أجل النعمة فتشكره على الشكر، ثم تشكره على شكر الشكر إلى ما لا يتناهى، وهذا الشكر أيضاً واجب» سراج الملوك، ص106.
[11] مجموعة القصائد الزهديات 1/403، موارد الظمآن لدروس الزمان 4/68.
[12] قوت القلوب 1/341، معيد النعم للسبكي، ص12.
[13] عدة الصابرين، ص120. قال الطرطوشي المالكي رحمه الله تعالى: «اعلم أرشدك الله أن الشكر ليس هو حافظ النعم فقط، بل هو مع حفظه لها زعيم بزيادة النعم وأمان من حلول النقم» سراج الملوك، ص105.
[14] رواه أحمد (13537) وصححه الضياء في المختارة (1536) وقال الهيثمي: «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير مؤمل بن إسماعيل، وهو ثقة وفيه ضعف» مجمع الزوائد 8/183. ورواه مرسلاً ابن السني في عمل اليوم والليلة (188) وابن أبي الدنيا في الشكر (38).
[15] قاله أبو حفص أحمد الأصغر. المغرب في حلى المغرب 1/86.
[16] سراج الملوك، ص28.
[17] أُنس المسجون وراحة المحزون للبحتري، ص37.
[18] قوت القلوب 1/340.
[19] مسلم (2999).
[20] الفرج بعد الشدة 1/171.
[21] أحمد (19014) والدارمي (2067) وابن ماجة (1765)، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه أحمد (7806) والترمذي (2486 وحسنه. وصححه ابن خزية (1878) وابن حبان (315) وانظر: فتح الباري 9/582.
[22] أبو داود (5073) والنسائي في الكبرى (9750) قال النووي: «بإسناد جيد» الأذكار (215)، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما صححه ابن حبان (861).
[23] أخلاق الوزيرين، ص48.
[24] الحجة في بيان المحجة 1/156.
[25] تفسير السعدي، ص76.
[26] للحسين بن عبد الرحمن. اصطناع المعروف لابن أبي الدنيا (150) وقضاء الحوائج (92) فضيلة الشكر للخرائطي (86) ونُسب لغيره. انظر: التذكرة الحمدونية 4/87 نهاية الأرب في فنون الأدب 3/249 وغرر الخصائص الواضحة/352.
[27] الحجة في بيان المحجة 1/156، تفسير ابن جزي 1/54، تفسير السعدي، ص76.
[28] الأسماء والصفات 1/178.
[29] البخاري (652) ومسلم (1914).
[30] أبو نعيم في صفة الجنة (272) وجاء نحوه عن غيره من السلف، انظر: فضيلة الشكر للخرائطي (4)، والعظمة لأبي الشيخ 2/531.
[31] رواه معمر في الجامع (19574)، ومن طريقه البيهقي في الآداب (716)، والبغوي في شرح السنة (1271) ورجاله ثقات وقتادة لم يدرك ابن عمرو رضي الله عنهما. فيض القدر 3/418، وانظر: المراسيل لابن أبي حاتم/175، والأحكام الوسطى 1/126.
[32] رواه ابن أبي حاتم في التفسير (8)، والدينوري في المجالسة (837)، وانظر: التمهيد 6/50، والآداب الشرعية 2/74، وتفسير ابن كثير 1/128.
[33] الخرائطي في فضيلة الشكر (7) السلسلة الصحيحة (1497).
[34] لأبي العتاهية، الفرج بعد الشدة 5/20.
[35] السياسة لابن سينا، ص95.
[36] الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص200.
[37] فتح الباري 11/305، وانظر: الكواكب الدراري 22/228.
[38] التبصرة لابن الجوزي/488، موارد الظمآن 1/186 قال الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى: «فإن قيل: ما معنى قول النبيصلى الله عليه وسلم : (الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ)؟ قيل: لما كان جميع المحامد ضربين: ترك الشر (ويعبر عنه بالصبر)، وفعل الخير (ويعبر عنه بالشكر)»، الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص232، والحديث الذي أورده الراغب لا يصح مرفوعاً بل هو موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه رواه الخلال في السنة (1509) والطبراني في المعجم الكبير (8544) وصححه الحاكم (3666) ووافقه الذهبي، والحافظ ابن حجر في الفتح 1/48 صار الصبر الذي هو ترك الشر نصف الإيمان.
[39] تفسير الطبري 12/132، غرائب التفسير 1/475، تفسير البغوي 4/124.
[40] ابن أبي الدنيا في الشكر (55)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية 5/7، والبيهقي في الشعب (4277)، وابن عساكر في التاريخ 47/75.
[41] ابن أبي الدنيا في الشكر (116)، وأبو نعيم في الحلية 7/7، والبيهقي في الأسماء والصفات (1024)، وانظر: شرح السنة 14/354، وعدة الصابرين/132، الدر المنثور 3/618.
[42] رواه الطبري 7/20.
[43] أحمد (10378) وأصله في مسلم (2968) وفيه «فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي».
[44] بهجة قلوب الأبرار، ص55.
[45] الرسالة للإمام الشافعي، ص19.
[46] مجموعة القصائد الزهديات 1/99.