التكفير والقتال لدى خصوم الدعوة
منذ ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وخصومها الأقربون والأبعدون يرمونها بالكفر والضلال، ويستحلون منهم الدماء والأموال، وقد أشار الشيخ الإمام إلى فتاوى سطّرها أعداء ملة التوحيد آنذاك، وما فيها من تكفير من دان بالتوحيد وتضليل من دعا إلى عبادة الله وحده، وحلّ دماء وأموال الدعاة إلى الملة الحنيفية[1].
وحكى الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب طرفاً من هذا البغي فقال: «هذا الدين الذي ندعو إليه قد ظهر أمره وشاع وذاع، وملأ الأسماع، من مدة طويلة، وأكثر الناس بدّعونا، وخرّجونا، وعادونا عنده، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد، والنهي عن دعوة غير الله، وما أحدث من البدع والمنكرات»[2].
والرزية أن يقع الشغب والطعن في هذه الدعوة وتتهم بالتكفير والقتال بإطلاق، مع أن تكفيرهم وقتالهم مبني على علم ودليل، ونص موثّق وبحث محقق - كما جاء في مقال سابق[3] - وأن يخيّم الصمت عن مسائل التكفير والقتال لدى مخالفيهم مع أنها تفتقد إلى الدليل والبرهان، وتستحوذ عليها جهالات وأهواء، ومصالح سياسية.
ولن يكون الحديث عن التكفير عند الرافضة الذين يكفِّرون كل من لا يعترف بولاية الأئمة الاثني عشر، ويكفرون الصحابة رضي الله عنهم وخلفاء المسلمين وقضاتهم، ويحكمون على أمصار الإسلام بأنها ديار كفر، ويعتبرون أئمة المذاهب الأربعة كملل أهل الشرك[4]!
ولن يكون الحديث عن قتال الرافضة لأهل الإسلام والسنة، فهم يقررون أن قتل الناصبي (السني) دين وقربان! ومذابحهم الحاضرة في الشام والعراق ملء السمع والبصر تغني عن الدليل والبرهان.
بل لن يكون الحديث عن التكفير عند الأشاعرة، مع أنهم أقرب الطوائف إلى أهل السنة المحضة، لكنهم جعلوا أول واجب على المكلف: «النظر»، وهو العلم بحدوث العالم وإثبات الصانع، وحكموا على عوام أهل الإسلام الذين لا يعرفون هذه النظريات بأنهم كفار، أو فساق، أو ليسوا مؤمنين ولا كافرين[5]!
لن يكون الحديث عن أولئك جميعاً فهذا مبسوط في موضعه، وإنما نقتصر هاهنا على مشاهد عملية، ووقائع تاريخية لخصوم الدعوة المعاصرين لها، الذين باشروا العداء والبغي بالتكفير والقتال، كما في هذه النماذج الآتية:
حكى أحمد زيني دحلان أنه في سنة 1165هـ أَمَر شريفُ مكة قاضيَ الشرع أن يكتب حجة بكفر علماء الدعوة الوهابية، الذين حضروا لمناظرة علماء الحرمين[6]، ثم قال دحلان: «وأمر بسجن أولئك الملاحدة الأنذال، ووضعهم في السلاسل والأغلال، فقبض منهم جماعة وسجنهم، وفرّ الباقون»[7].
وذكر دحلان في موضع آخر ما وقع في سنة 1184هـ فقال: «أمر الشريف أحمد بن سعيد العلماء أن يختبروا علماء الوهابية القادمين من الدرعية، فوجدوهم لا يتدينون إلا بدين الزنادقة»[8].
وبغض النظر عن مدى صحة ما سوّده دحلان من تلك المقولات إلا إن الذي يعنينا هاهنا هذا الحنق الشديد والبغي المكشوف ضد الدعوة وعلمائها، حتى دوّن «قاضي الشرع» محضراً بتكفير علماء الدعوة! فضلاً عن فداحة نبز علماء الدعوة بالإلحاد والزندقة!
وفي سنة 1178هـ قُتل من أتباع الدعوة خمسمئة رجل في وقعة الحاير، التي انهزم فيها أتباع الدعوة على يد المكرمي الإسماعيلي الباطني[9]. ولما استولى أولئك الباطنية على زبيد سنة 1237هـ جمعوا النساء الشريفات والعربيات في المسجد الجامع، ثم حملوهن إلى نجران، وباعوهن كما تباع الإماء[10]!
وهذا محمد بن عبد الله بن فيروز (ت 1216هـ) مع أنه من المشتغلين بالفقه، وقد تصدر للفتيا والتدريس وله قرابة نسب بالشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، لكن الفجور في الخصومة أذهب ذلك كله، فنقل عنه أنه قال: إن الشيطان ربما واقع أمّ محمد بن عبد الوهاب فكان الشيطان أباً لمحمد بن عبد الوهاب[11]!
وكاتب ابن فيروز الدولة العثمانية محرّضاً لها على قتال أتباع الدعوة[12]، ونظم قصيدة في ذلك[13]، وكتب رسالة في الرد على دعوة الشيخ قال فيها: «والحاصل أن أمر طغاة نجد لا يُشكل إلا على من تُشكل عليه الشمس، ولا يتَوقف في تكفيرهم وحل دمائهم وأموالهم من له مسكة من الدين، ولا يتوقف في كون من قتلوه شهيداً، ومن قتلهم مثاباً»[14].
وهاك واقعة «ذبحة المطاوعة» كما سمّاهم بعض مؤرخي نجد[15]، حيث تمالأ بعض أمصار نجد على الغدر ونقض العهد سنة 1196هـ، واتفقوا على قتل طلبة العلم - من أتباع الدعوة - الذين كانوا يعلمونهم دين الله، ونفذوا ذلك في يوم معلوم، فقتلوا من عندهم من معلمين وأئمة مساجد[16].
ودوّن المؤرخ الجبرتي في حوادث سنة 1228هـ أن مرسوماً عثمانياً وصل إلى مصر، وفيه أمر الخطباء يوم الجمعة بالدعاء للسلطان لكون عساكره افتتحت بلاد الحرمين وغزت الخوارج - يقصدون أتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - وأخرجتهم منها، ولأن المفتي أفتاهم بأنهم كفار، وأن من قاتلهم شهيد إذا قتل[17].
ومن البلية والتضليل أيضاً أن حملات محمد علي باشا على قلب جزيرة العرب، قد صاحبها علماء من المذاهب الفقهية الأربعة من أجل نصح الناس وتلك الجيوش الغازية، والتحذير من الوهابية المبتدعة[18]!
ولما استولى «رسول الحضارة الغربية» إبراهيم باشا على الدرعية سنة 1233هـ ارتكب جرائم ومذابح تفوق الوصف! فقد قتل جماعة من العلماء والأعيان صبراً بالبنادق، وجعل بعضهم في فوهة المدافع فتمزقت أجسادهم إرباً[19]! ثم جاء الأمر من الطاغية محمد علي باشا سنة 1234هـ بهدم الدرعية وتدميرها، وقطع نخيلها وأشجارها، وأن لا يرحموا صغيرها ولا كبيرها، ثم أشعلوا النيران في بيوتها[20]. «فتركوها خالية المساكن، كأن لم يكن فيها من قديم ساكن، وتفرّق أهلها في النواحي والبلدان»[21].
لكنّ سعار القتل والطغيان ظل سارياً ونافذاً في تلك العساكر المستبدة، فأقدموا - وبتدبير من إبراهيم باشا - على قتل فئام من رؤساء وأعيان نجد سنة ١٢٣٤هـ،[22] وأما أهل الدرعية الأحياء والمنكوبون بفقد قراباتهم وتدمير بلادهم فقد هرب فئام منهم إلى ثرمداء، فخدعهم الأتراك سنة ١٢٣٦هـ، فنادى أولئك الترك بأنهم سينقلونهم إلى البلاد التي يرغبون في الرحيل إليها، فلما اجتمعوا أعمل الأتراك فيهم القتل والاستئصال، حتى أفنوهم جميعاً، وهم نحو مئتين وثلاثين رجلاً[23].
وعقب هذه المذابح والاستئصال للرجال، والهدم والتحريق للمساكن والزروع، هنأت الحكومة البريطانية - بواسطة سادلير - إبراهيم باشا على هذا النجاح، وأظهرت رغبتها في إقامة اتفاق مع إبراهيم باشا من أجل سحق نفوذ الوهابيين بشكل كامل[24].
وحكى الشيخ محمد رشيد رضا أن جريدة «القبلة» - لسان الملك حسين آنذاك - كانت تكيل الأكاذيب على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن الملك حسين أصدر عدة منشورات في جريدة القبلة سنة ١٣٣٦هـ، وسنة ١٣٣٧هـ رمى الوهابيين بالكفر، وقام بعض المنتفعين في دمشق وبيروت والقاهرة بطبع الرسائل في تكفير الوهابيين، ورميهم بالأكاذيب[25].
وأما ابنه فيصل بن الحسين ملك العراق، فقد كان أسوأ من أبيه؛ إذ كتب إلى الإنجليز سنة 1337هـ بأن «الوهابية مرتبطة بالشيوعية، وأن الوهابيين يجب قتلهم، فهذه هي الوسيلة الفعالة»[26].
وأما عبد الله بن الحسين فقد كان شر الثلاثة! فإنه لما دخل تربة سنة 1337هـ أسر بعض الإخوان - إخوان من أطاع الله - وأهان بعضهم، وقال: أنتم تكفروننا، فقالوا: لا نكفّر إلا من كفّره القرآن والسنة، ثم أمرهم بتكفير الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأبوا ذلك.. فوضعهم على فم المدفع ثم أطلق قنابل المدفع التي نثرت أشلاءهم[27].
وأخيراً فإن هذا التكفير الواقع من خصوم الدعوة - وما لحقه من الإبادة ووحشية القتل والقتال - لا دليل عليه ولا برهان، بل هو فجور في الخصومة، حتى أفضى بهم إلى اتهام أتباع الدعوة بأنهم زنادقة ملاحدة شيوعيون!
فعلام السكوت المطبق عن أفاعيل خصوم الدعوة من تكفير وقتال والتشهي والتشفي باتهام الدعوة بالتكفير الغالي والقتال الباغي؟!
لكن لما كان البغي لا ينفك عن لازمه من سقوط الباغي وظهور المبغي عليه كما هو مشاهد، فإن أولئك الخصوم قد هلكوا وزالت دولهم، وظلّت هذه الدعوة الإصلاحية تسري في العالم كله سريان الماء في الورد.
وقد أشار العلامة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في رسالته الرائعة «المقامات» إلى أن كل من عادى هذه الدعوة من الحاضرة والبادية قد أهلكهم الله، وأن الخونة الذين أعانوا إبراهيم باشا ونصروه قد أفناهم الله، وكذا الدول التي حاربت هذه الدعوة لم تبق منها اليوم عين تطرف[28].
[1] ينظر: الدرر السنية 1/121.
[2] ينظر: الدرر السنية 10/274.
[3] ينظر: «مقال التكفير والقتال لدى أئمة الدعوة»، البيان، عدد ٣٦٤.
[4] ينظر: أصول مذهب الشيعة، للقفاري ٢/٤٣٧-٧١٦،٥٧٣،٤٤٠.
[5] ينظر: الأشاعرة عرض ونقض، لسفر الحوالي ص٢٢-٣٢.
[6] ينظر: الدرر السنية في الرد على الوهابية، لدحلان ص47.
[7] ينظر: الدرر السنية في الرد على الوهابية، لدحلان ص47.
[8] الدرر السنية في الرد على الوهابية، لدحلان ص47.
[9] ينظر: تاريخ ابن غنام 2/65، تاريخ ابن بشر 1/94،93.
[10] ينظر: أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الأدب والفكر، لعبد الله أبي داهش ص133.
[11] ينظر: الصواعق والرعود، لعبد الله بن داود، (مخطوط) الورقة الأولى.
[12] ينظر: السحب الوابلة، لابن حميد 3/973.
[13] ينظر: تاريخ ابن بشر 1/206-218.
[14] الرد على ابن فيروز لعبد الله آل محمود ص36.
[15] ينظر: تاريخ ابن ضويان ص50، والأخبار النجدية للفاخري ص120.
[16] ينظر: تاريخ ابن غنام 2/ 112- 113، وتاريخ ابن بشر 1/ 146- 147.
[17] ينظر: من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي ص145.
[18] ينظر: تاريخ الدولة السعودية الأولى، لمانجان، ترجمة البقاعي ص36، 37.
[19] ينظر: تاريخ ابن بشر 1/ 421، 424.
[20] ينظر: تاريخ ابن بشر١/٤٢٦-436، ٢/10،9، وتاريخ الدولة السعودية الأولى، لمانجان ص195،194.
[21] تاريخ ابن بشر ١/٤٣٤.
[22] ينظر: تاريخ ابن بشر 1/437.
[23] ينظر: تاريخ ابن بشر 1/٤٥٤،٤٥٣.
[24] ينظر: رحلة عبر الجزيرة العربية، لسادلير ص١٥٧،١٥٦،٧.
[25] ينظر: مجلة المنار، م24، ج8، ص584.
[26] السعوديون والحل الإسلامي، لجلال كشك ص702.
[27] ينظر: صفحات مطوية من تاريخ الجزيرة العربية، لإبراهيم الدميجي ص250.
[28] ينظر: الدرر السنية 12/22، 37، 39.