• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ونراه قريباً ..

ونراه قريباً ..

إن استسلام صاحب الدعوة نفسه لأقدار الله لا عجالة في استباقها، و التريث معها بلا ملالة، والوثوق بموعود الحق بلا تزلزل؛ كلها من وراء أسباب النصر المرسوم إلى حينه المعلوم. إن صاحب الرسالة الحقة من الله يصطحب في نفسه أنه يركن إلى الله وإن آذاه خلقٌ من خلق الله فمن يسنده غير الإحساس بذلك المرتكن.

إن وعد الله جازم قاطع لمن لا يتراءى له ذلك: «إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا...»، فتتساءل النفس العجولة قائلة: إذاً ما بال قتلانا ملء الشوارع والصفحات؟ وعلام الثكالى تهز صرخاتهن الطرقات المبعثرة فتصخ آذان البعيد قبل القريب؟ وما ذنب أطفالنا تئن أعينهم هلعاً وبطونهم تشتكي الأيام لطول ساعاتها؟ تُرمى البراميل فتقع في النفوس تهزها هزاً قبل أن تُزهق هذه النفوس الزكية.. فلأي مدى تمور موراً صور الهزائم الظاهرة؟ وهذه الغلبة المقدرة تتكرر حيناً بعد حين.. فأين موعود الله وأين النصر المبين؟

هنا تفترق الطرق على المشاهد والمراقب للحدث، وأظهرها طريقان - والعلم عنده سبحانه -، أولهما: سالكٌ قياس الأمور على ظاهرها لا يرى حتى لمعة تلوح في سماء الحدث تدل على وعود التمكين أو حتى الخلاص من هذا البأس المبين، فتتراجع الثقة بذاك القطع الرباني وإن ادّعى وصلاً بليلى، فيغيّر من قناعاته زاعماً أنّ هناك خللاً في الفهم لدى فهمنا لتفسير الحدث، وسوء انضباط مشاعر يحركنا للمستحيل! وهو خروجنا عن نظم الواقع والقفز عليه بهذه الآيات الكريمات!

وآخرون يتفرع مسلكهم على الأول فيقيسون نتائج الاستبداد المتسلط على هذه الأمة المكلومة بمسافات قصيرة لا تتجاوز حدود نظرتهم القاصرة؛ فيبحثون عن الحلول الناجحة وسريعة المفعول، فيبادرون بالمواجهة ويعللون حتميتها بأن لا مناص منها ولا بد منها الآن! فيتم القفز هذه المرة على السنن الكونية في صيرورة التمكين، ولأنهم أحبوا العاجلة كانوا ولا بد في الآخرة عند المواجهة. أما أصحاب العزيمة الصادقة والمستوعبة لمنهج النبوة والآخذة بمجامع القضية الكبرى، قضية العقيدة وقضية التمكين في الأرض؛ فهم بلا ريب قد أيقنوا بأن طريقها وعر المسلك يفيض بالمهالك، ولأن على جنباته منارات تشعلها التضحيات بالمال والنفس، حتى تقف بالقضية إلى قدرها المعلوم سلماً أو حرباً، كان على أثرها هذه الثقة الخالصة مع قضيتهم؛ فهذا إبراهيم - عليه السلام - يُرمى في هذا الجحيم الإنساني المتوحش بلا رحمة، لا ترقبه إلا العقول الوثنية ولا ترى إلا أنه قد هلك في الغابرين وأصبح درساً للعابرين، ولأن هذه النظرة الخاسرة من هذه العقول المقيّدة بالأحجار الصامتة لم تكن تعرف منتهى العقيدة وأدبياتها؛ اجتالتهم وتحولت عنهم، وتوطنت في بلد غير ذي زرع، لكنه صالح لغرسها ورعايتها ولو بعد حين من الزمن، فهي تمضي بطرقات متباعدة، واختيار مقامها تابع لحكمة الله تعالى.

إن المتأمل لسنن التمكين يرى أنها تجري لمستقر لها لا تراعي مشاعر أفراد أو جماعات ولا تقف لأجل استكمال نظريات بشرية، فهي تطلب من أصحاب الحق أن ينقادوا لها لا أن تنقاد هي، وهي تريد أيضاً من أصحاب الدعوة أن يمضوا بدعوتهم لبعيد ولو كان حتفهم لأجلها قريباً، لا يتباطؤون لحظة واحدة، وذلك لنبأ قد استقر في أنفسهم أنهم حملة قضية كبرى، وقد يحصل أنهم لا يستطيعون حملها إلا بضع سنين لمجرى العادة في هذا الطريق، لتأتي آجال تودعها أجيال يتحرك لأجل تعجيلها تاريخ البشرية فيتم عهدها الذي تمم مرادها، ويظل يعرضها التاريخ بين الفينة والأخرى عبر تقليب صفحاته لتبقى في الذاكرة البشرية مشتعلة توقد لمن وراءها إلى يوم يبعثون.

قد يحصل النصر في صورته القريبة لا البعيدة، ولا يتم ذلك إلا في زمن تمام اكتمال الصورة الشاملة لمنهج العقيدة حيث الصفوف الموحِّدة والمتوحدة والقلوب الهاتفة بلبيك ربنا وسعديك وتمايز سبل الضلال عن سبل الرشاد.

وهناك ملحظ آخر يحسن الوقوف عند بابه لنلج من عنده إلى حقائق منها أن الصبر والاستسلام لأمر الله تعالى في الأحداث المزلزلة والحانقة يجب أن نتلقفه بالسكينة والرضا، مصطحبين الثقة به سبحانه، وأن يتمنع على بعض فكرنا بالاقتراحات والحلول التي لا تجدي طائلاً مع تدبير اللطيف بعباده.

عندها يكون قد خطونا خطوات حثيثة نحو النصر، وهو النصر على الذات والشهوات المحقق للنصر الداخلي الذي بطبعه سيخرج من كينونته إلى الخارج فيتمّم صورة النصر الخارجي، وذلك لتلازمهما وترابط أواصرهما أيما ترابط.

بقي أن نقول: إن أصحاب الدعوة السابقين الأولين ليس لديهم خيارات أخرى في وجودهم لهذه القضية الكبرى إلا أن يعيشوا خارجها، ليأتي مَن بعدهم ليعيشوا في كنفها بهدوء، للأسف هي سنة اجتماعية قرآنية أو سمّها بلا مجازفة «سنة كونية».

:: مجلة البيان العدد  329 محرّم  1436هـ، أكتوبر  - نوفمبر  2014م.

أعلى