أثر أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في نجاح دعوته
لم يكن ذلك
الانبهارُ الباهرُ بنبينا محمد صلى
الله عليه وسلم، والإجلال الرائع له، والاتباع لدعوته؛ نابعاً من
بلاغته الفائقة وفصاحته السامقة فحسب، بل كان من أسبابه العظيمة الانسجامُ النفسي
والتوافق الطبيعي بين رسالته التي بعثه اللهُ بها وأخلاقه التطبيقية التي يتعامل
بها مع الْخَلْقِ، وذلك كما وصفته أمنا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «إِنَّ خُلُقَ
نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ
الْقُرْآنَ»[1].
وجديرٌ
بالذكر أن هذا السمو الخلقي، والتوافق مع رسالة القرآن الذي عُرِفَ به نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم؛ لم يبدأ مع
الوحي، بل كان معروفاً عنه صلى
الله عليه وسلم قبل البعثة.
كما يتضح ذلك
من إجابة أمنا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لنبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال لها
على أثر اللقاء الأول مع جبريل: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَتْ
خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ
اللَّهُ أَبَداً، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ [تعين الضعيف]، وَتَكْسِبُ
المَعْدُومَ [تعطي المال
للفقير]، وَتَقْرِي [تكرم] الضَّيْفَ،
وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ [تساعد الناس في المصائب]»[2]. وكي نتعرف
إلى أثر المعاملةِ النبويةِ في الدعوةِ، نستعين بالله على دراسة اليسير من هذه
الصور المبهرة.
* أثر عفوه صلى الله عليه وسلم على دعوته؛
إِذْ كان العفوُ عن المسيئين ممن تُرجى توبتهم أهم سماته التي تميزه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما
يرويه أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلاً
قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بثمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ [عمود] مِنْ
سَوَارِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ
يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ
تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ
كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتُرِكَ
حَتَّى كَانَ الغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ
لَكَ: إِنْ
تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ. فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ
الغَدِ، فَقَالَ:
مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا
قُلْتُ لَكَ. فَقَالَ: أَطْلِقُوا
ثُمَامَةَ. فَانْطَلَقَ
إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ،
فَقَالَ: أَشْهَدُ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ.. يَا
مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ
مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ
وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ
إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ
مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ
أَحَبَّ البِلاَدِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ
العُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ
أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ. قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ
أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ
وَاللَّهِ لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ
فِيهَا النَّبِيُّ
صلى الله عليه
وسلم»[3].
فثمامة قتل
من المسلمين الكثير قبل أن يقع أسيراً! فتأمل كيف كان عفوه صلى الله عليه وسلم عن ثمامة مع
عظيم جريرته سبباً في إسلامه! وقبول دعوته! وحبه له صلى الله عليه وسلم! بل أصبح من
أشد أنصاره الذين يجاهرون بنصرته صلى
الله عليه وسلم.
* أثر رحمته صلى الله عليه وسلم في دعوته،
فمن ذلك ما يرويه أَنَسٌ رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَ
غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ،
فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ. فَنَظَرَ
إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا
القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم. فَأَسْلَمَ. فَخَرَجَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ
يَقُولُ: الحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ»[4]. فقد أَشفقَ
النبيُّ صلى الله عليه وسلم على هذا
الغلام شفقةً عظيمة، ورَحِمَهُ رحمةً دعته إلى زيارته في مرض موته في محاولة أخيرة
لإنقاذه من النار.
فانبهر الأب برحمته صلى
الله عليه وسلم انبهاراً دفعه إلى معاونته صلى الله عليه وسلم على إنقاذ
ابنه من النار بإعلان إسلامه وإن لم يسلم هو!
* أثرُ
تواضعِهِ صلى الله عليه وسلم في دعوته،
فمن ذلك ما يرويه عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: «رحلت إلى
رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه
وسلم في الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي
مَسْجِدِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ
الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ:
عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
فَانْطَلَقَ بِي إِلَى بَيته، فو الله إنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ، إذْ
لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ، فَاسْتَوْقَفتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا
طَوِيلاً تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا، قَالَ: قُلْتُ فِي
نَفْسِي: وَاَللَّهِ
مَا هَذَا بِمَلِكِ.
قَالَ: ثُمَّ مَضَى
بِي رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه
وسلم حَتَّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً
مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةٍ لِيفاً، فَقَذَفَهَا إلَيَّ، فَقَالَ: اجْلِسْ
عَلَى هَذِهِ. قَالَ: قُلْتُ: بَلْ أَنْتَ
فَاجْلِسْ عَلَيْهَا.
فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ. فَجَلَسْتُ
عَلَيْهَا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِالْأَرْضِ، قَالَ: قُلْتُ فِي
نَفْسِي: وَاَللَّهِ
مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ!... وَعَرَفْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ،
فَأَسْلَمْتُ»[5]. فانبهر عدي
بتواضعه صلى الله عليه وسلم وتبيّن منه
صدق نبوته وأنه ليس بملك، إذ طال وقوفه مع امرأة لا يأبه بها الملوك، ثم أكد
النبيُّ صلى الله عليه وسلم تواضعه
بجلوسه على الأرض وإعطائه الوسادة لعدي، وكان انبهاره بتواضعه صلى الله عليه وسلم سبباً في
إسلامه.
* أثر كرمه
وجوده صلى الله عليه وسلم في دعوته،
فمن ذلك ما يرويه أَنَسٌ، قَالَ: «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى
الْإِسْلَامِ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ
رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَماً بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ! أَسْلِمُوا،
فَإِنَّ مُحَمَّداً يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ»[6]. فهؤلاء قومٌ
ما أسلموا إلا تأثراً بجوده الفياض وكرمه السحاح بغير أن يروا له وجهاً أو يسمعوا
له كلمة!
ومن ذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم أَعْطَى
صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنَ النَّعَمِ، ثُمَّ مِائَةً، ثُمَّ مِائَةً،
فقال صَفْوَانُ:
«وَاللهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ
حُنَيْنٍ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى
صَارَ، وَإِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ»[7].
فتأمل كيف
انبهر صفوان بكرمه
صلى الله عليه
وسلم انبهاراً دفعه للإيمان بدعوته صلى الله عليه وسلم!
* أثر شجاعته صلى الله عليه وسلم في دعوته،
فمن ذلك ما يرويه البراء يوم حنين، قَالَ: «إِنَّ
هَوَازِنَ كَانُوا قَوْماً رُمَاةً وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا
رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه
وسلم فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى
بَغْلَتِهِ البَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا،
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَنَا
النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ»[8]. ويكمل
العَبَّاس الرواية قائلاً: «فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ
وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ
بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ... فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْ
عَبَّاسُ، نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ. فَقَالَ عَبَّاسٌ، وَكَانَ رَجُلاً
صَيِّتاً: فَقُلْتُ
بِأَعْلَى صَوْتِي:
أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ
لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى
أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ. قَالَ: فَاقْتَتَلُوا
وَالْكُفَّارَ...
ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ ثُمَّ
قَالَ: انْهَزَمُوا
وَرَبِّ مُحَمَّدٍ.
قَالَ: فَذَهَبْتُ
أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى. قَالَ: فَوَاللهِ
مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ
كَلِيلاً، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِراً. قَالَ: وَكَأَنِّي
أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ»[9].
ولو فَرَّ
النبيُّ صلى الله عليه وسلم لفرَّ
الصحابة وانتهت الدعوة عياذاً بالله! لكن شجاعته وثباته صلى الله عليه وسلم كانا دافعاً
لثبات الصحابة رضي الله عنهم، ما حفظ الله به الدعوة ومكن لها برحمته صلى الله عليه وسلم!
وبعد.. فما هذا إلا نزر يسير وغيض من
فيض من الصور المبهرة لأثر معاملته صلى الله عليه وسلم في الدعوة، عسى أن تكون تلك
الصور دافعاً لتصحيح مسار الدعوة، حيث تبدأ باستقامة الداعي على منهج دعوته قبل أن
يدعو إليه غيره.. نسأله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل أعمالنا خيراً
من أقوالنا، وسرائرنا خيراً من علانيتنا، وجوهرنا خيراً من مظهرنا.. آمين يا أرحم
الراحمين.
:: مجلة البيان العدد 329 محرّم
1436هـ، أكتوبر - نوفمبر 2014م.
[1] [صَحِيْحٌ] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (24269)،
وَمُسْلِمٌ (746).
[2]
[صَحِيْحٌ] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (25202/ 25865/ 25959)، وَالْبُخَارِيُّ
(3/ 6982)، وَمُسْلِمٌ (160).
[3]
[صَحِيْحٌ] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (7361)، وَالْبُخَارِيُّ (4372)،
وَمُسْلِمٌ (1764).
[4]
[صَحِيْحٌ] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (12792)، وَالْبُخَارِيُّ
(1356).
[5]
[ابن هشام (2/580: 581)/ (الروض الأنف (7/ 477: 479)].
[6]
[صَحِيْحٌ] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (12051)، وَمُسْلِمٌ (2312).
[7]
[صَحِيْحٌ] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (27638)، وَمُسْلِمٌ (2313).
[8]
[صَحِيْحٌ] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (18475)، وَالْبُخَارِيُّ (2864)،
وَمُسْلِمٌ (1776).
[9]
[صَحِيْحٌ] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (1775)، وَمُسْلِمٌ (1775).