تحرير مصطلحات عقدية شائعة
ما زالت - بحمد الله - للغة القرآن جادة يطرقها من رام الكلام في المعتقد، ذلك
أن اللغة هي الوعاء للمعاني، والحبل الموصل للمعين الأصيل من الوحي الإلهي بشقيه؛
الكتاب والسنة، فإن اختلت اللغة أو ضعفت أو حتى اشتبهت، لحق المحتوى بقدر ذلك في
ذهن المُتلقِّي.
وكم دخل المبتدعة حصون السنة عن طريق اللغة، سواء بتقحّم
الأدلة بعُجمة ككثير من أهل الكلام، أو بطبع أصول الديانة بطابعهم
- عند أتباعهم
- كما فعل المعتزلة، وهم قلة نسبة
لعلماء السنة في العربية، ولم يصب من زعم خلافه.
وسأقف في هذا المقال إزاء نموذجين لقوالب لغوية مشهورة
بين تدوينات وكلمات أهل العلم المعاصرين في مسائل المعتقد؛ الأول من جهة الاشتباه،
والثاني من جهة الخطأ في المعنى والتصريف.. وهي قابلة للنقاش على كل حال لأنها من قبيل المصطلحات
التي لا مشاحة فيها عند سلامتها معنى ومبنى.
الوقفة الأولى: تسمية توحيد العبادة بأسماء أخرى
(ألوهية، إلاهية، عبودية) تسميةٌ صحيحة بلا تردّد، لا من حيث الاشتقاق ولا من حيث
المعنى، لكن هناك ربكة ذهنية في فهوم طلبة العلم حيال ذلك، وقد لاحظتها فيهم
ابتداءً من المراحل الابتدائية حتى ما بعد الجامعية!
فإذا سألت أحدهم عن الفروق بين توحيد الربوبية
والألوهية، حار في الجواب! للاشتباه في الاشتقاق.
سبب ذلك أنه بطبيعته العربيّة سيعيد اللفظ تلقائياً إلى
اشتقاقه ومصدره، وسيؤديه هذا إلى أن الربوبية مشتقة من كلمة
“الرب”، والألوهية مشتقة من كلمة “إله”، والكلمتان تشيران إلى ذات واحدة؛ لأن اجتياز ذلك المدى
المعرفي اللغوي إلى الوصول لمعرفة أصل كلمة “رب” ورجوع اشتقاقها ومصادرها وفروعها لمعنى الخلق والملك
والتدبير، أو أن كلمة “الإله” راجعة إلى معاني التألّه والعبادة، من مألوه بمعنى
معبود؛ ليس لطلبة زماننا، فالعجمة فيهم فاشية ظاهرة!
فطال تشقيق الكلام على معنى كنا في غنى عن تشتيت مبتدئة
الطلبة فيه.. لذا فلو اكتفى العلماء في تحريرهم وبيانهم أقسام التوحيد الثلاثة على القول
بأنها: الربوبية، والعبادة، والأسماء والصفات والأفعال؛ لكان خيراً، لأمرين:
الأول:
راحة للطالب من الحيرة، ورحمة به
من التشتّت.
الثاني:
أن لفظ العبادة شرعي وليس بمحدث،
وإن كانت كلها شرعية، أعني: الألوهية والإلهية، لكن هذا اللفظ أقرب من جهة أنه
متعلّق بالعبد ونيته وأقواله وأعماله.. والله أعلم.
الوقفة الأخرى: من تلك المصطلحات المحتاجة إلى إعادة نظر:
مصطلح: التخلية والتحلية، وقد انتشرت هذه الجملة بين المتأخرين
في بيانهم معنى ركني الشهادة. وأرى أن لو استبدلت بما هو أولى منها، خاصة أنه يوجد في
اشتقاقات جذر كلمة “التخلية” ما هو أولى منها، ككلمة “إخلاء” مثلاً، لدلالتها على التفريغ والإزالة فقط، أما التخلية
فلها معانٍ أُخر غير مرادة.
أما “التحلية” فلا أراها سائغة، وليس لها معنى مفهوم في مرادها
الموضوعة له في هذا السياق؛ لرجوعها في الأصل للحِلية وللحلوى.
و”التحلية” المرادة هنا ربما ظنوا أن أصلها كلمة
“إحلال”، فصرّفوها على وزن “تحلية” لتواكب التخلية! ولا أرى هذا التصريف من العربية في شيء.
وعلى القول بإرجاعها إلى الحلوى أو تحلية الطعام، وهي
الوجبة الحلوة المقدمة بعد الدّسم؛ فهو إزراء كبير بمعناها!
هذا ولم أجد للسلف في التعبير بها حرفاً، وكل خير في
اتّباع من سلف. وكأن أصلها راجع إلى الطُّرُقيّة، ومن ثمّ إلى أرباب السلوك المتأخرين،
ويقصدون بها معاني عدة، منها: الذكر الخاص، وأحوال ترد على قلب المريد والسالك، ونحو
ذلك.
الشاهد: أن هذه الجملة في حاجة
لإعادة تقويم ونظر. ولو قيل: الكفر بالطاغوت قبل الإيمان، أو البراء قبل الولاء،
أو النفي قبل الإثبات.. والأخير كأنه أجود من جهة الإطلاق اللغوي.. وبالله
التوفيق.
:: مجلة البيان العدد
320 ربيع الثاني 1435هـ، فبراير 2014م.