ولتركيا مشروعها الإستراتيجي باتجاه المنطقة العربية الإسلامية، وهو مشروع متضادّ مع المشروع الصهيوني المدعوم أمريكيًّا وأوروبيًّا. ولذا، فكلّ تغيير جدي في العلاقات الأمريكية الروسية لا شك سيُمثّل تحديًا ذا طابع سياسي مباشر وإستراتيجي لتركيا.
تأثيرات تكتيكية على أوكرانيا وأوروبا وإستراتيجية باتجاه تركيا
تحرَّكت العلاقات الروسية الأمريكية إلى مربع جديد مختلف -على نحو ما- عن ما كان جاريًا خلال حكم الرئيس الأمريكي بايدن.
بعد وصول دونالد ترامب إلى الحكم، عادت الاتصالات بين الرئيسين الأمريكي والروسي، وهي التي كانت مقطوعة تمامًا من قبل. وجرت لقاءات بين مبعوث ترامب للمفاوضات والرئيس الروسي عدة مرات، كما عادت الاتصالات بين المؤسسات الأمنية الخارجية في كلا البلدين.
وخلال زخم هذا التغيير؛ أطلق ترامب تصريحات عن عزمه إعادة روسيا إلى مجموعة الدول السبع الكبار، وهو ما يعني إسقاط كلّ العقوبات التي فُرضت على روسيا، وهي بالآلاف، وإعادة الاعتبار للدور الدولي لها. وكان هناك تغييرات أخرى باتجاه العلاقات مع أوروبا، وثالثة باتجاه فرض رسوم جمركية على كلّ بلدان العالم تقريبًا -من الحلفاء والخصوم- ما عدا روسيا.
ومنذ حدوث تلك التغييرات والمراكز البحثية ودوائر الإعلام، والسياسيون، لا يتوقفون عن البحث في تأثير تلك التغييرات على العلاقات والتوازنات الدولية.
الملف الذي حظي بأولوية الاهتمام والتركيز هو الملف الأوكراني. وكان لذلك أسبابه بطبيعة الحال، باعتبار أن الرئيس الأمريكي ترامب قد اتخذ مواقف عملية مختلفة عن سلفه، سواء على صعيد تقليص عمليات توريد السلاح الأمريكي لأوكرانيا، أو على صعيد مطالبة أوكرانيا بالاعتراف بسيطرة روسيا على جزيرة القرم.
وهناك من المسؤولين الأمريكيين مَن ألمَح لضرورة قبول أوكرانيا بضم روسيا للمناطق التي احتلتها في شرق أوكرانيا، أيضًا. وقد ارتبط بملف أوكرانيا -صعودًا وهبوطًا- ملف التغييرات التي حدثت في مجال العلاقات الأمريكية الأوروبية، بعد أن أعربت أوروبا عن معارضتها لمواقف ترامب تجاه أوكرانيا.
وجرت تساؤلات جدية حول ما إذا كانت تلك العلاقات قد انفكت أُطُرها العامة -المعتادة-، وباتت مفتوحة على تغييرات مستقبلية، خاصةً بعد أزمة الرسوم الجمركية بين إدارة ترامب والدول الأوروبية. وكذا جرى الاهتمام بدراسة تأثير تلك التغييرات في المواقف الأمريكية على العلاقات المتنامية بين روسيا والصين التي وصلت حد التحالف غير المُعلَن.
كما جرى النظر لتأثير تلك التفاهمات أو التغييرات على ملفات إيران وسوريا والكيان الصهيوني... إلخ. وقد طُرحت تساؤلات بحثية حول ما إذا كان الطرفان قد وصَلا إلى تفاهمات ومقايضات، بل جرى التساؤل عن ما إذا التحرُّك الأمريكي بات يَستهدف فَرْض الهيمنة على روسيا -أو تطويع إرادتها-، بالاستفادة من استنزافها بالحرب، وبعد فرض آلاف العقوبات عليها.
وفى كل ذلك -وغيره- لم يَجْرِ الاهتمام بالقضية الأشد خطورة، التي يمكن للتغيير في العلاقات الروسية الأمريكية أن يُحْدِث تأثيرًا مباشرًا وإستراتيجيًّا بشأنها على الصُّعد الإقليمية والدولية؛ ألا وهي قضية التأثير على السياسة والمشروع الإستراتيجي لتركيا، الذي هو في تماسٍّ وتَعارُض إستراتيجي مع المشاريع والمصالح الإستراتيجية، لكلٍّ من روسيا والولايات المتحدة معًا، وإن كان في قطاعات جغرافية مختلفة.
لقد تمكَّنت تركيا خلال السنوات العشرين الماضية من التحرُّك وفق سياسة استقلالية، نفَّذت أهدافها، بالعبور من بين مساحات الاختلاف بين روسيا والولايات المتحدة. كما أن لتركيا مشروعها الإستراتيجي الشامل متعدّد الاتجاهات، وهو في تصادم مع المشروعات الإستراتيجية لكلٍّ من روسيا والولايات المتحدة.
لتركيا حركتها الإستراتيجية في ما يُوصَف في روسيا بالمجال الحيوي لها؛ إذ تتحرك روسيا لحَشْد وتجميع وإنهاض الدول الناطقة بالتركية، وكلها دول كانت محتلَّة خلال زمن تشكيل الاتحاد السوفيتي -بعد الحرب العالمية الثانية-، وهي محل اهتمام روسيا الإستراتيجية منذ تولّي بوتين الحكم وإنهائه حالة ضعف روسيا.
ولتركيا مشروعها الإستراتيجي باتجاه المنطقة العربية الإسلامية، وهو مشروع متضادّ مع المشروع الصهيوني المدعوم أمريكيًّا وأوروبيًّا. ولذا، فكلّ تغيير جدي في العلاقات الأمريكية الروسية لا شك سيُمثّل تحديًا ذا طابع سياسي مباشر وإستراتيجي لتركيا.
لكن ما هي حدود التغيير في العلاقات الأمريكية الروسية؟ وهل وصل هذا التغيير حدّ التأثير في الأوضاع الإستراتيجية دوليًّا؟ وهل نصحو يومًا على توافق أمريكي روسي ضد تركيا؟ وما الفارق بين تأثير التقارب والتفاهم الأمريكي الروسي على أوكرانيا وأوروبا والصين، مقارنةً بهذا التأثير على تركيا؟
المراحل الانتقالية والأحكام المطلقة
حين تجري تحوُّلات وتغييرات في سياسات الدول، تتعدَّد الرؤى في تقييم آثارها، خاصةً إذا كان التغيير يجري في سياسات دول كبرى ذات دور فاعل في مختلف أنحاء العالم. وحين يكون الوضع الدولي في حالة تغيُّر وتبدُّل في التوازنات الاقتصادية والعسكرية، كما هو الحادث حاليًّا حيث يتراجع الغرب وتتطور وتتعاظم قدرات دول مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وحين تنشأ تجمعات دولية بديلة للنُّظم الغربية، كما هو حال دول ميثاق شنغهاي ودول البريكس.
في تلك الحالة يسود الارتباك ويَكثُر التضارب في الاستنتاجات والخلاصات. ويزداد الأمر تعقيدًا حين يكون التغيير الجاري في مجال العلاقات السياسية والديبلوماسية التي تعتمد لغة المراوغة والغموض؛ إذ لا يكون متاحًا للوصول إلى استنتاجات سوى صياغات وتصريحات من سياسيين محترفين، يدفعون باتجاه الوصول إلى خلاصات تُخفي ما يبطنون.
وفي مراجعة التغيير الذي جرى بعد انتقال الحكم في الولايات المتحدة من بايدن والديمقراطيين إلى ترامب والجمهوريين، نجد أن هذا التغيير لم يَرْقَ ولم يصل بالرئيسين الأمريكي والروسي حدّ اللقاء مع بعضهما البعض، وإصدار بيان مشترك. وكذا نجد أن ما يصدر عن الاتصالات التليفونية بين الرئيسين -التي بلغت عدة ساعات-، أو عن اللقاءات ذات المستوى الأدنى من المسؤولين في البلدين، مجرد تعليقات وانطباعات، دون الإعلان عن اتخاذ إجراءات أو عن الوصول إلى توافقات.
وواقع الحال، إن كان أهمّ باعث للحديث عن التغيير هو أن العالم كان قد وجَد نفسه أمام صورة مختلفة عن تلك الذروة التي وصل إليها الصراع بين البلدين أو بين الرئيسين بوتين وبايدن. وهو ذاته ما يشير من زاوية أخرى إلى وجود صعوبات حقيقية وعميقة تقف أمام استعادة العلاقات الروسية الأمريكية إلى ما كانت عليه قبل عدة سنوات. وهو ما اتضح أكثر بعد عودة ترامب إلى جانب مُهِمّ من سياسات بايدن تجاه روسيا.
وواقع الحال أيضًا، أن مسيرة العلاقات الأمريكية الروسية تشهد نمطًا دائمًا من التبدلات القاسية.
كانت العلاقات الأمريكية الروسية -والأوروبية كذلك-، قد شهدت حالة تغيير ضخمة عن ما كان سائدًا خلال الحرب الباردة. بعد نهاية الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفييتي، تطورت تلك العلاقات السياسية والاقتصادية، ووصل الأمر حدّ أن طلب الرئيس الروسي بوتين انضمام بلاده إلى منظمة حلف الناتو. وعلى الصعيد الأوروبي -وأوروبا دول جوار- فقد تطورت العلاقات إلى نمط تكاملي، ووصل الأمر حدّ مدّ شبكات لإيصال الغاز من روسيا لأوروبا.
وقد تمكَّنت تلك الحالة من العلاقات من استيعاب نتائج قيام روسيا بشنّ الحرب على جورجيا وإنهاء محاولة تغيير ولائها من روسيا إلى الغرب. كما تمكَّنت تلك العلاقات من استيعاب أزمة أوكرانيا الأولى، التي سيطرت خلالها روسيا على شبه جزيرة القرم وبعض الأجزاء من شرق أوكرانيا.
غير أن الأمور انقلبت رأسًا على عقب مع بدء اجتياح القوات الروسية أراضي أوكرانيا؛ إذ أصبحنا أمام حرب غير مباشرة بين الولايات المتحدة -وحلف الأطلسي- وروسيا. قادت الولايات المتحدة تلك الحرب ومن خلفها التحالف الغربي، فجرى إرسال السلاح إلى أوكرانيا بشكل تصاعدي في كمياته ودرجات خطورته، والمدى الذي يصل إليه في داخل الجغرافيا الروسية، وجرى فرض آلاف العقوبات، بما في ذلك تجميد الأصول النقدية لروسيا في الخارج.
ووصل الحال أن صدرت تهديدات روسية باستخدام السلاح النووي في الصراع. وفي مثل تلك الأجواء خرجت التحليلات وكثرت التكهنات عن حرب بين روسيا وحلف الناتو وعن اندلاع حرب عالمية ثالثة... إلخ.
لكن، مع وصول ترامب إلى الحكم، دارت العلاقات دورة أخرى -أو هكذا بَدَت-؛ بما دفع للقول بأن العلاقات باتت في طريقها لتغيير جوهري. غير أن ما جرى تاليًا كشف محدودية التغيير؛ إذ عاد الرئيس الأمريكي ترامب إلى سياسة إمداد أوكرانيا بالسلاح مجددًا، وإلى التهديد بفرض عقوبات إضافية على روسيا!
حدود التغيير ومالاته
لقد بدأ ترامب تناوله للعلاقة مع روسيا، بالحديث عن أنه لو كان رئيسًا ما كانت الحرب قد اندلعت. وأعلن من بعد عن السعي للسلام ووقف الحرب تحت عنوان وقف أعمال القتل المروعة. ووقتها تعددت الأبعاد في تفسير أهداف ترامب. كان هناك مَن فسَّر التغيير بأنه محاولة لإبعاد روسيا عن الصين، وكانت هناك رؤى ركَّزت على استمرار العملية الجارية في اتجاه صناعة أزمة وابتعاد إستراتيجي بين روسيا وأوروبا لمصلحة أمريكا في الإبقاء على أوروبا ضعيفة، وبحاجة للرعاية والدور الأمريكي.
وكانت هناك رؤى أخرى تحدثت عن تبادل مصالح بين الملفات المتعددة التي تتصارع بشأنها كلّ من روسيا والولايات المتحدة، وفي ذلك ظهرت مقولة «إيران في مقابل أوكرانيا»، وقيل قبلها «سوريا في مقابل ليبيا». غير أن الوقت أظهر محدودية تلك التغييرات، على الأقل في الوضع الراهن. وأصبح ممكنًا القول بأن ما قام به ترامب لم يكن سوى عملية التفاف لتحقيق ذات الأهداف؛ إذ ما قام به قد انتهى إلى تعميق الصراعات.
وفي أفضل الأحوال، لم يكن ما جرى سوى طريقة أخرى لتحقيق الأهداف دون المساس بالتوجهات الإستراتيجية. لقد أظهرت التطورات الفعلية أن ما جرى كانت عملية مخطَّطة للضغط على أوكرانيا. وقد حصل ترامب على عقود تسمح لأمريكا باستغلال ثرواتها المعدنية وبشكل خاص خامات المعادن النادرة التي يمثل افتقادها أمرًا إستراتيجيًّا يصل حد التأثير الكبير على الأمن القومي الأمريكي.
وقد ظهر جليًّا أن خطوات ترامب تجاه روسيا لم تكن سوى أمر تكتيكي، وهو ما اتضح بعد أن تحرَّك الرئيس الأمريكي في اتجاه مضادّ مجدَّدًا، وصل حدّ الإعلان عن العودة لإرسال السلاح إلى أوكرانيا ومنح روسيا نحو 50 يومًا، وإلا فرض عليها حزمة عقوبات جديدة.
وجاءت عودة ترامب إلى تصدير السلاح إلى أوكرانيا مرتبطة بظهور حدود الاختلاف مع أوروبا. بالدقة أعلن ترامب أن الناتو هو من سيُسدِّد أثمان الأسلحة الأمريكية التي ستُرسَل إلى أوكرانيا، وما حلف الناتو سوى أوروبا والولايات المتحدة.
وإذا بقي من الملفات المهمة ملف التأثير على العلاقات الروسية الصينية؛ إذ كان قد جرى الحديث عن أن التغيير في المواقف الأمريكية من روسيا يستهدف التأثير السلبي على تنامي العلاقات الروسية الصينية، فقد ظهرت ضآلة -بل حتى انعدام هذا التأثير-؛ إذ حضر الرئيس الصيني إلى روسيا للمشاركة في احتفالات النصر على النازية خلال الحرب العالمية الثانية، كما شاركت قوات صينية رمزية في الاحتفال.
وأطلق وزير الخارجية الصيني تصريحات من فوق الأرض الأوروبية، أعلن فيها، ولأول مرة، أن بلاده لن تقبل بهزيمة روسيا في الحرب الأوكرانية.
غير أن أهم وأخطر القضايا والمسارات للتغيير في العلاقات وتبادل المصالح بين روسيا والولايات المتحدة يتعلق بملف آخر وقضية أخرى؛ يمثل التغيير فيها تغييرًا إستراتيجيًّا.
تركيا ومسار الاستقلال
تختلف تأثيرات التغيير في العلاقات الروسية الأمريكية -سلبًا أو إيجابًا- على تركيا، عن غيرها من القضايا والملفات والدول الأخرى، ولا يُغيِّر من ذلك إهمال التحليلات والرؤى لهذا التأثير الخطير. ذلك أن هذا التغيير سيأخذ منحًى سياسيًّا مباشرًا وإستراتيجيًّا على تركيا.
في المدى المنظور، كلّ تغيير في العلاقات الروسية الأمريكية -تقاربًا وتفاهمًا أو تباعدًا-، يؤثر على الحركة السياسية لتركيا؛ إذ تحركت تركيا لتحقيق مصالحها خلال السنوات الماضية من بين الفجوات التي أتاحها لها الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة.
وعلى الصعيد الإستراتيجي؛ إذا اختطَّت تركيا منهج وهدف الاستقلال الحضاري، فسيكون كلّ من روسيا والولايات المتحدة في تناقض حضاري وإستراتيجي مع تركيا، فتركيا لها مشروع إستراتيجي مُنافِس لكلٍّ مِن البلدين.
لقد تحركت تركيا منذ وصول أردوغان للحكم لبناء مشاريعها الإستراتيجية مستفيدةً من هامش الحركة المتاح بين الغرب وروسيا، وهي كانت تتحرَّك تكتيكيًّا على الحافة بين دولتين تنظران لتركيا كمُهدِّد إستراتيجي لمصالح كلٍّ منهما -وإن في نطاق جيوسياسي مختلف-، ومِن ثَم، فأيّ تغيير بالتقارب بين روسيا والولايات المتحدة لن يكون سوى تضييق للفجوة التي تتحرك من خلالها تركيا، والعكس بالعكس.
تركيا والعلاقات مع أمريكا
كانت تركيا نقطة الارتكاز العسكري في المواجهة بين حلف الناتو خلال الحرب الباردة. وكانت القوات التركية حاضرة بين دول الأطلسي خلال الحروب الأمريكية من حرب كوريا إلى فيتنام إلى حرب أفغانستان (وإن اختلف الدور في الأخيرة). وبسقوط العدو اللدود للولايات المتحدة بالهزيمة والتفكك، وبعد وصول رجب طيب أردوغان للحكم، تحرَّكت تركيا وفق مشروعاتها الإستراتيجية الخاصة، وهو ما نظرت إليه الولايات المتحدة بعين الحذر أولًا وعين الخطر ثانيًا.
ولذلك احتفظت الولايات المتحدة بقائد التنظيم الموازي -فتح الله كولن- صاحب الدور الخطير في الانقلاب العسكري الفاشل على أردوغان عام 2016م، وحضرت عسكريًّا كقوة داعمة للأكراد في سوريا -هي وأوروبا معًا-، ومارست أدوارًا مخططة لدعم القوى الليبرالية والعلمانية المعارضة لأردوغان -شخصًا وفكرة وتجربة-، وقامت بمحاولات دائمة لإضعاف الاقتصاد التركي.
وقد كان الموقف الأمريكي جليًّا في محاولات إضعاف تركيا، حين رفضت تسليم تركيا المقاتلة الأمريكية الأحدث F-35، رغم وفاء تركيا بالتزاماتها المالية للمشروع، ورغم أنها أوفت بمساهمتها التصنيعية أيضًا.
ويمتد الحذر والقلق إلى الدور الأوروبي؛ إذ لعبت أوروبا أدوارًا معادية لتركيا -على غرار الولايات المتحدة-، ليس فقط بسبب الإرث التاريخي، ولكن أيضًا لعلاقات تركيا الوثيقة بدول في داخل القارة مثل كوسوفا والبوسنة والهرسك وألبانيا والمجر.
وفي مواجهة كل ذلك، ووفق خطط محددة تدير تركيا معالم قُوتها وحاجة الغرب لدورها بمهارة ودقة. فتركيا تراهن على حاجة الولايات المتحدة وأوروبا للدور التركي، ليس فقط باعتبارها عضوًا في حلف الناتو، بل باعتبارها الدولة الأقوى في الحلف بعد الولايات المتحدة.
وتركيا تراهن على أنها وحدها القادرة على حَشْد الدول الناطقة بالتركية في المحيط الحيوي لروسيا. تلك الحالة منحت تركيا فرصة الحركة المستقلة، والقدرة على المناورة في العلاقات مع روسيا.
العلاقات التركية مع روسيا
تمكَّنت الحركة السياسية المستقلة لتركيا بقيادة أردوغان من تغيير نمط علاقاتها مع روسيا بعد الحرب الباردة. وقد نجح أردوغان في تعزيز نموذج موثوق في إدارة العلاقات مع الرئيس الروسي بوتين، رغم وقوف تركيا إلى جانب أوكرانيا وإمدادها بالمُسيَّرات، ورغم وقوف تركيا مع غرب ليبيا في مواجهة وقوف روسيا مع قوات شرق ليبيا -ووصل الأمر إلى درجة الاقتتال-، ورغم وقوف تركيا مع المعارضة السورية التي كانت تخوض الحرب ضد نظام بشار الذي كانت روسيا تقاتل إلى جانبه.
ووصل الأمر حدّ عقد تركيا صفقة تسليح حصلت من خلالها تركيا على نظام الدفاع الجوي S-400 -الذي لم يحصل عليه إلا الحلفاء الأقوى لروسيا، كالصين-، وعقد صفقة لتصدير وبناء مفاعل نووي روسي في تركيا، وكلاهما مثَّلا تغييرًا في العلاقات مع روسيا.
لكنّ روسيا تنظر بعين القلق الإستراتيجي لحركة تركيا. فهناك الإرث التاريخي للحروب، والأهم أن روسيا تُدرك أبعاد سَعْي تركيا لإنجاز مشروعها الإستراتيجي في المجال الحيوي لروسيا. تركيا هي الدولة الأكبر والأكثر قدرةً من بين الدول الناطقة بالتركية، والقادرة والساعية لبناء تكتُّل على غرار الاتحاد الأوروبي.
هل تتفق روسيا وأمريكا على تركيا؟
تتأثر المصالح والمشروعات القومية الكبرى لتركيا بالعلاقات الروسية الأمريكية. وإذا كانت روسيا تجد في مصلحتها التكتيكية إنماء الاستقلال السياسي التركي تحت عنوان إضعاف حلف الناتو، إلا أن لدى روسيا قلقًا إستراتيجيًّا من تنامي الدور التركي.
وكذلك الحال الأمريكي؛ إذ إن تركيا القوية القادرة على حَشْد قوات ضخمة ضمن حلف الأطلسي، وتركيا القادرة على المواجهة الحضارية مع إيران، لا غِنَى عنها. لكنَّ تصاعُد قوة تركيا لا شك يجعلها أقوى في مواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة العربية؛ إذ تسعى تركيا لبناء تحالف وتكامل عربي وتركي إسلامي في مواجهة الكيان الصهيوني.
وإذا بدا السؤال مبكرًا حول ما إذا كان محتملًا أن تلتقي روسيا مع أمريكا وأوروبا، لإضعاف تركيا؟ إلا أنه سؤال قائم. وهو سؤال مُلِحّ وضروريّ الآن؛ إذ العالم يعيش مرحلة إعادة ترتيب العلاقات والتوازنات، وخلال مثل تلك العمليات لا حدود للاحتمالات المتوقعة.
الخطر الأكبر على تركيا هو أن تشمل التغييرات في العلاقات الأمريكية والأوروبية والروسية -مستقبلًا-، تفاهمًا لمواجهة مخاطر تصاعد قوة تركيا على مصالح الطرفين، وهو أمر محتمل ضمن عمليات إعادة ترتيب التحالفات والتفاهمات، وفي تلك الحالة قد تجد تركيا نفسها في مواجهة تضيق فيها مساحة حركتها السياسية بما يؤثر على مصالحها الإستراتيجية.
لكن ذلك ليس متوقعًا خلال وقت قصير، ولا شك أن تركيا تُدرك ذلك، وتدرك أن الوقت لصالحها. والسؤال الأهم الآن هو: كيف يمكن لروسيا أو للولايات المتحدة أو لكليهما معًا مواجهة تركيا وإجهاض مشروعاتها الإستراتيجية؟ هنا مكمن الخطر.
يدرك كلّ من الأمريكيين والروس والأوروبيين أن تركيا بلد لا يُواجَه عسكريًّا، وأن الطريق لإضعاف تركيا هو التفجير والإضعاف الداخلي وليس غيره.