• - الموافق2025/04/30م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
السلطان  عبد الحميد الثاني

سعى السلطان عبدالحميد بكل ما أُوتي من حنكة ودهاء سياسي لوقف الزحف الاستعماري الأوروبي العسكري على الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية


تولّيه الحكم في ظروف استثنائية

لقد تولى السلطان عبد الحميد الثاني الحكم في ظروف استثنائية؛ إذ كانت البلاد تَمُرُّ بأزمات حادَّة، ومصاعب مالية كبيرة؛ فشهدت ثورات عاتية في البلقان، قامت بها عناصر قومية تتوثّب لتحقيق الانفصال، وتعرَّضت السلطة العثمانية لمؤامرات أوروبية بهدف اقتسام الولايات التابعة لها، فكانت الدولة على وشك الانهيار.

وقد أدرك السلطان عبد الحميد حجم المخاطر التي تُهدِّد دولته على كافة الصُّعُد؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فأخَّر سقوطها لمدة ثلاثين سنة. ولا عجب في ذلك؛ إذ عُرف هذا السلطان بذكائه الفذّ، وقدرته على المناورة، وبراعته في الحوار السياسي، حتى قال عنه جمال الدين الأفغاني: «إن السلطان عبدالحميد لو وُزن بأربعة من نوابغ رجال العصر لرجَحهم ذكاءً ودهاءً وسياسةً، خصوصًا في تسخير جليسه. ولا عجب إذا رأيناه يُذلِّل ما يقام في ملكه من الصعاب من دول الغرب، ويخرج المناوئ له من حضرته راضيًا عنه وعن سيرته مقتنعًا بحُجّته، سواء في ذلك الملك والأمير والوزير والسفير»[1].

وكان تصوره للعلاقة بين الغرب والإسلام تصورًا واضحًا مبنيًا على الشعور بالتميُّز الحضاري، فهو لا يريد من الغرب المدنية؛ لأنه كان يرى أن للشرق مدنيّته الإسلامية الخاصة. وإنما كان يريد ما يحتاجه المسلمون فقط من العلوم الحديثة بالتدريج. فالإسلام في رأيه لم يكن ضد التقدُّم، ولكنه كان يعتقد أن الأمور القيّمة يجب أن تكون طبيعية، وأن تأتي من الداخل بحسب الحاجة إليها. ولا يمكن أن يُكتَب لها النجاح إذا كانت على شكل تطعيم من الخارج[2].

محاولات السلطان وقف الزحف العسكري الأوروبي على الولايات العربية

سعى السلطان عبدالحميد بكل ما أُوتي من حنكة ودهاء سياسي لوقف الزحف الاستعماري الأوروبي العسكري على الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية.

ففيما يتعلق بمصر، أيَّد السلطان عبدالحميد حركة أحمد عُرابي بك، ومنَحه رتبة أمير لواء مع الباشوية. وقد قام أحمد عرابي في عام 1882م بإنهاء عمل الموظفين الأوروبيين في مصر، فاحتجت عليه كل من إنجلترا وفرنسا، وقامتا بمراجعة الباب العالي في شأن إرسال قوة عسكرية إلى مصر.

ولم يقع السلطان عبدالحميد في هذا الفخّ، ورفض إرسال قوة عسكرية إلى مصر؛ لأن ذلك يعني قمع الحركة الوطنية المصرية بجنود أتراك لصالح الدول الأوروبية، وهي دول استعمارية. وهذا من شأنه الإساءة إلى مقام الخلافة في كل أرجاء العالم الإسلامي، ويتنافى مع مبدأ الجامعة الإسلامية التي كان السلطان عبدالحميد قد اتخذها سياسة له[3].

وكان السلطان عبدالحميد يتراسل مع أحمد عرابي سرًّا، ويريده أن يمارس دور بطل ومجاهد في الإسلام، ويحكم مصر باسم الخليفة عبدالحميد. لكن يبدو أن الصراع بين الشعب المصري والعناصر التركية هو الذي منع الاستمرار في هذه السياسة[4].

أما في ليبيا فقد رسمت إيطاليا سياستها لاحتلالها على ثلاث مراحل:

الأولى: الحلول السلمية بإنشاء المدارس والبنوك وغيرها من مؤسسات خدمية.

الثانية: التحرُّك الدبلوماسي لتعترف الدول الأوروبية باحتلال ليبيا.

الثالثة: إعلان الحرب على الدولة العثمانية والاحتلال الفعلي[5].

وبالرغم من أن السياسة الإيطالية تجاه ليبيا كانت هادئة ومحكمة لعدم إثارة حساسية الأتراك العثمانيين؛ إلا أن السلطان عبدالحميد كان متيقظًا لتلك الأطماع، فطلب معلومات من مصادر مختلفة عن نشاط الإيطاليين في ليبيا وأهدافهم، فجاءته المعلومات تقول: إن الإيطاليين بمدارسهم وبنوكهم ومؤسساتهم الخيرية التي يقيمونها في ليبيا، يسعون من ورائها إلى احتلال هذه الولاية العثمانية[6].

فقام السلطان عبدالحميد باتخاذ التدابير اللازمة أمام الأطماع الإيطالية، لمَّا شعر أنه سيواجه اعتداءً إيطاليًّا مُسلَّحًا على ليبيا. ومن هذه التدابير: إمداد القوات العثمانية في ليبيا بـ(15000) جندي لتقويتها. وظل يقظًا حساسًا تجاه التحركات الإيطالية يتابعها شخصيًّا وبدقة، ويطالع كل ما يتعلق بالشؤون الليبية بنفسه بواسطة سفير الدولة العثمانية في روما ووالي طرابلس، مما جعل الإيطاليين يُضطرون إلى تأجيل احتلال ليبيا. وقد تمّ لهم ذلك في عهد جمعية الاتحاد والترقي[7].

تمتين العلاقات مع العرب عبر حركة الجامعة الإسلامية

في إطار سياسته الإسلامية؛ اهتم السلطان عبدالحميد الثاني بالعرب؛ وذلك لأن بلاد العرب تضم أهم الأماكن المقدسة (مكة، المدينة، القدس)، وهم أصحاب الرسالة، وبلُغَتهم نزل القرآن، ففطن إلى أهمية العنصر العربي ودوره الثقافي والحضاري. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى؛ أدرك السلطان عبدالحميد هدف الدول الاستعمارية التي تبذل جهودًا حثيثة لإحداث فجوة بين الترك والعرب بغية سَلْخ العرب عن الدولة العثمانية. على أن الترك والعرب يُشكّلان عماد الدول العثمانية، والالتقاء بين الشعبين لا بُدَّ له من الاعتماد على القاسم المشترك بينهما؛ وهو: الإسلام.

وهذا ما نصح به المؤرخ أحمد جودت الذي حكم سورية واليًا سنة 1878م بأمر من السلطان عبدالحميد، وحضَّه على أن يُحِلَّ العرب في المكان العالي في السلطة؛ «فإن لغتهم هي لغة ديننا»، وهو عهد التزم به السلطان سليم الأول[8].

وكان السلطان عبد الجميد يرى -منذ أن تولَّى الحكم- ضرورة اتخاذ اللغة العربية لغة رسمية للدولة العثمانية. وفي هذا يقول: «اللغة العربية لغة جميلة، ليتنا كنا اتخذناها لغة رسمية للدولة من قبل. لقد اقترحت على خير الدين باشا (التونسي) عندما كان صدرًا أعظم أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية، لكنّ سعيد باشا كبير أمناء القصر اعترض على اقتراحي هذا، وقال: إذا عَرَّبْنَا الدولة فلن يبقى للعنصر التركي شيء بعد ذلك»[9].

وأنشأ السلطان عبدالحميد في إستانبول -باعتبارها مقر الخلافة ومركز السلطنة- «مدرسة العشائر العربية»؛ من أجل تعليم وإعداد أبناء العشائر العربية من ولايات: حلب، ودمشق، ودير الزور، وبغداد، والبصرة، والموصل، وديار بكر، وطرابلس الغرب، وبنغازي، واليمن، والحجاز، والقدس. وكانت مدة الدراسة في هذه المدرسة خمس سنوات. وهي مدرسة داخلية؛ تتكفل الدولة العثمانية بكل مصاريف الطلاب. ولكل طالب «إجازة صلة الرحم»؛ وهي إجازة مرة كل سنتين، ويكون سفر الطالب فيها على نفقة الدولة[10].

وكان المتخرجون من هذه المدرسة يدخلون المدارس العسكرية العليا، ويحصلون بعد ذلك على رتب عالية. كما يمكنهم كذلك دخول المدرسة الملكية -وهي مدنية- يدرسون فيها سنة، ويحصلون بعدها على رتبة قائمقام، ثم يعودون إلى بلادهم[11].

ومن أركان سياسة عبدالحميد العربية: اهتمامه بإنشاء الخط الحديدي الحجازي بين دمشق والمدينة ومكة؛ وذلك لتسهيل طريق الحج. وقد عهد عبدالحميد إلى الخبراء الألمان بتنفيذ هذا المشروع الذي بدأ العمل به في عام (1319هـ/ 1901م)، وانتهى في عام (1326هـ/ 1908م)، وتم الاحتفال بوصول هذا الخط إلى المدينة المنورة[12].

وكان في إنشاء هذا الخط مصلحة للمسافرين؛ إذ تمت الاستعاضة به عن طريق القوافل الذي يتطلب من المسافرين حوالي أربعين يومًا، وطريق البحر الأحمر الذي كان يستغرق حوالي اثني عشر يومًا من ساحل الشام إلى الحجاز، بينما اختزل الخط الحديدي هذه الرحلة إلى خمسة أيام[13].

واستخدم السكان هذا الخط بغرض أداء مناسك الحج، ونقل محصولاتهم الزراعية إلى المدن الكبرى. وظهرت القرى وأماكن الاستقرار على طول الخط، واستُصلحت الأراضي، كما زاد تعداد سكان بعض المدن الرئيسية التي يمر بها الخط زيادة ملحوظة. ومن الناحية الفكرية ساعد هذا الخط الحديدي على سرعة انتشار الأخبار بنقل الصحف والمطبوعات عبر المدن التي يمرّ بها[14].

وكانت سياسة السلطان عبدالحميد إزاء هذا المشروع ذات شقين:

الأول: الوقوف أمام الرأي العام العربي والإسلامي بمَظهر الخليفة الذي يرعى الشؤون الإسلامية، فتنجذب إليه القلوب.

الآخر: أن تنفيذ هذا المشروع ذو قيمة إستراتيجية؛ من حيث توطيد حكم العثمانيين في البلاد العربية؛ إذ سوف يكون الخط وسيلة سريعة لنقل الجيوش وتحركها لحماية ولايات الدولة العثمانية.

شلّ قُدُرات اليهود لعدم تحقيق طموحاتهم في فلسطين

كانت فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر المحور المركزي لنشاطات الصهاينة الغربيين الرامية إلى تسليم «أرض الميعاد» إلى أتباعهم في العقيدة؛ فقد كانت فلسطين آنذاك جزءًا من المقاطعات الآسيوية للدولة العثمانية، يسكنها رعايا السلطان العثماني من العرب.

وقد اعترف هرتزل الصحفي اليهودي النمساوي، وهو الشخص الذي ارتقى بالحركة الصهيونية إلى عنصر فاعل في العلاقات الدولية -بعد أن كانت عبارة عن مجاميع مفككة غير متجانسة-، بأن القرار هو بيد السلطان فقط.

ولغرض استدراج السلطان عبدالحميد إلى مشروعه هذا؛ قام هرتزل بخمس رحلات إلى إستانبول خلال الفترة من 1896 إلى 1902م (1314 -1320هـ)، استطاع خلالها الوصول إلى الباب العالي وإلى السلطان، وناقش المسألة مع مختلف المسؤولين، ومن ضمنهم رئيس الوزراء، بل حظي بمقابلة السلطان عبدالحميد بشخصه[15].

ولإغراء السلطان عبدالحميد الثاني بالسماح لليهود بإقامة قرى يهودية في فلسطين، اقترح هرتزل عليه تقديم الخدمات والتسهيلات اللازمة في مسألة الديون العثمانية العمومية، وسيتم تقديم الضمان الكافي بهذا كتابةً، وكان المصرفي الصهيوني المشهور روتشليد وراء هذا الأمر[16].

ولكنّ هرتزل اكتشف بعد مُضِي فترة قصيرة بأن السلطان ضد إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وبذلك «أصبح عبدالحميد الثاني في نظر هرتزل «سلطانًا ماكرًا جدًّا، خبيثًا جدًّا، ولا يثق بأحد»[17].

وكان السلطان عبدالحميد يرى ضرورة عدم توطين مهاجرين يهود في فلسطين، حتى يبقى العنصر العربي المسلم محافظًا على تفوقه الطبيعي فيها. وكان من رأيه أيضًا: أنه إذا سمح لليهود بالتوطن في فلسطين، فإنهم سيستطيعون في وقت وجيز جدًّا أن يجمعوا في أيديهم وسائل القوة في المكان الذي يستقرون فيه، وفي هذه الحالة كما يقول السلطان: «سنكون قد وقَّعنا قرارًا بالموت على إخواننا في الدِّين»[18].

وقد عبَّر عن رأيه في الحركة الصهيونية وفي هرتزل بقوله: «لا يريد الصهيونيون الاشتغال بالزراعة فقط في فلسطين، بل إنهم يريدون إنشاء حكومة لهم، وانتخاب ممثلين سياسيين لهم، وإني أفهم جيدًا معنى تصوراتهم هذه»[19].

على أن موقف السلطان هذا لم يكن طارئًا؛ فإن العثمانيين أخذوا الحركة الصهيونية على محمل الجد، وأدركوا خطورتها منذ البداية. ويمكن القول بأن السلطان عبدالحميد بنفسه هو الذي وضع الخطوط الأساسية للسياسة العثمانية في مواجهة الحركة الصهيونية؛ حيث كان مُصِرًّا على مَنْع الهجرة اليهودية إلى فلسطين بأيّ ثمن.

ففي (28) يونيو و(7) يوليو من عام 1890م/ 1308هـ، أصدر إرادتين سلطانتين بـ«عدم قبول الصهاينة في الممالك الشاهانية (الأراضي العثمانية)، وإعادتهم إلى الأماكن التي جاؤوا منها»[20].

بالإضافة إلى أنه طلب من وزاراته أن يدرسوا ويحيطوا بعناية بكافة جوانب المسألة في اجتماعاتهم، وأن يخرجوا بسياسات محددة ومتكاملة في الوقت نفسه، لكي يواجهوا بها خطط ومشاريع الصهيونية على الصعيد المحلي والدولي[21].

وقد تضمن البرنامج النهائي الذي تمخضت عنه اجتماعات مجلس الوزراء -الذي وافق عليه السلطان العثماني- أربع مجموعات من السياسات يُوزّع تطبيقها على عدة وزارات عثمانية؛ لشلّ قدرات اليهود ومساعيهم الحثيثة لتحقيق مآربهم وأهدافهم، وعلى رأسها إقامة كيان صهيوني في فلسطين[22].

 


 


[1] إسماعيل ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص203.

[2] محمد حرب، في تقديمه لمذكرات السلطان عبدالحميد، ص10.

[3] محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص39.

[4] علي سلطان: تاريخ الدولة العثمانية، ص338.

[5] علي الصلابي: الدولة العثمانية، ص436.

[6] المرجع السابق نفسه، ص437.

[7] المرجع السابق نفسه.

[8] علي سلطان: تاريخ الدولة العثمانية، ص347.

[9] علي الصلابي: الدولة العثمانية، ص425.

[10] المرجع السابق نفسه، ص428.

[11] المرجع السابق نفسه، ص429.

[12] إسماعيل ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص202.

[13] محمد حرب: السلطان عبد الحميد الثاني، ص222.

[14] محمد سهيل طقوس: العثمانيون من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، ص507.

[15] هدى درويش: العلاقات التركية اليهودية، ج 1، ص313.

[16] R. Patat: The complete Diaries of Theodor Herzl, p 909.

[17] محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص41-42.

[18] مذكرات السلطان عبد الحميد، ص28.

[19] المرجع السابق عنه، ص29.

[20] المرجع السابق نفسه، ص42-43.

[21] بلند كمال: الحركة الصهيونية ووزارة الخارجية العثمانية في عهد عبد الحميد الثانــي، ص3-4.

[22] تحسين باشا: السلطان عبد الحميد، ص7-9.


أعلى