• - الموافق2025/04/30م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ملامح عالم جديد يتشكَّل

نحن إذن أمام صراع خطير وتغييرات كبرى، وفي الصراعات الكبرى لا أحد يمكنه أن يتوقع النتائج النهائية أو الكلية؛ حيث قد يحدث دائمًا ما هو غير متوقَّع. وهذا أمر شرحه يطول. لكن لم تجرِ أيّ حرب وتسير كما خَطَّط لها مَن أشعلوها ومن دخلوا في أتونها



انتقل العالم من التوقُّعات النظرية باحتمالات اندلاع صراعات كبرى، وحدوث تغيير في العلاقات والتوازنات الحاكمة للوضع الدولي، إلى وضعية اتخاذ القرارات الكبرى، بعد أن تفجّر الصراع الاقتصادي الصيني الأمريكي؛ إذ تحرّكت عجلة التغيير إلى درجة يمكن القول معها: إن عالمنا الذي عشنا فيه قد تغيَّرت جوانب رئيسية فيه، وإننا في الطريق لحدوث تغيير شامل لا يمكن التنبؤ بأبعاده الآن.

في هذا الصراع الدولي الكبير، هناك طرفان مشتبكان، وهناك دول كبرى لم تحدد خياراتها النهائية بعدُ.

وهناك دول صغرى يُنتظَر أن تتأثر أكثر من غيرها؛ إذ كانت قد حدّدت خيارها الإستراتيجي في البناء على حالة السيولة في العلاقات الدولية السابقة.

ودول من نمط ثالث كانت قد مكَّنتها قدراتها من التحرك للاستفادة من مرحلة العولمة دون الدخول في صدامات أو تحالفات، وهي أصبحت مُطالَبة الآن باتخاذ مواقف مختلفة.

لقد أنهى الصراع المندلع بين الولايات المتحدة والصين مرحلة العولمة الأمريكية.

قُضي الأمر؛ إذ قررت وأقرَّت الولايات المتحدة التي فرضت العولمة سابقًا بتراجعها عنها، بل حتى معاداتها لها بكل أبعادها، لا بُعدها الاقتصادي فقط. فإذا كان فرض الرسوم الجمركية التي أطلقها الرئيس الأمريكي ترامب على مختلف دول العالم قد أطاح بالبُعد الاقتصادي، فهناك تحرُّك أمريكي وفق نمط قيمي مختلف في المجتمع الأمريكي والخارج، يعود بأمريكا إلى منظومة قيم تخالف أُسُس العولمة.

أمريكا تعود إلى الإجراءات الحمائية التي كانت هي مَن أجبرت دول العالم على إلغائها. وذلك هو المعنى نفسه والترجمة لما يتحدّث به ترامب والجمهوريون عن معاداة التحوُّل الجنسي وممارسة الرياضة بين الجنسين، وغيرها من القضايا التي نظرت لها الإدارات الأخرى -والحكومات الأوروبية-، على أنها منظومة قِيَم العولمة التي يجب فرضها على كافة الدول والمجتمعات تحت الضغط والملاحقة.

وانتهت فكرة الغرب الموحَّد تحت القيادة الأمريكية، وحلَّت محلها حالة البحث عن المصالح الخاصة كمفردات؛ كلّ على حدة (الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وأستراليا وغيرها). وباتت العلاقات بين تلك الدول -المفردات- مفتوحة على تغييرات كبرى. لقد أصبح الغرب غربين -وربما ثلاثة- لا غربًا واحدًا.

لقد أعلن «الأب الأمريكي» الذي كان قد أعاد بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية -مشروع مارشال-، أن على أوروبا أن تتخلى عن التعوُّد على حماية أمريكا لها عسكريًّا وعلى دخول سلعها إلى الأسواق الأمريكية بدون معوقات. أوروبا كبرت وعليها أن تتحمل تكلفة حماية نفسها على الأقل، وأمريكا لم تعد قادرة على توفير الحماية المجانية، ولا على المساهمة في تقوية الاقتصادات الأوروبية على حساب اقتصادها.

وفي الطريق ثمة احتمالات واردة بضعف الكيان العسكري الموحد للغرب. والأمر المستجد والمُرْبِك في الآونة الأخيرة أن ترامب أظهر ميولاً استعمارية تجاه دول غربية، بالحديث عن الرغبة في ضم دولة كندا وجزيرة جرين لاند الدنماركية للولايات المتحدة، وكأن الإدارة الأمريكية بدأت تتدخل علنًا في الشؤون الداخلية للدول الأوروبية.

ويزيد من تغيير المشهد الدولي أن الولايات المتحدة قد انقلبت على موقفها السابق من روسيا، وتراجعت عن دعمها لأوكرانيا، وطوّرت علاقاتها مع الهند، وشدَّدت من توتر علاقاتها مع دول البريكس، وبشكل خاص جنوب إفريقيا والبرازيل، وغيرهما. وهي تطورات أطلقت بداية لحدوث تغييرات متعددة.

نحن إذن أمام صراع خطير وتغييرات كبرى، وفي الصراعات الكبرى لا أحد يمكنه أن يتوقع النتائج النهائية أو الكلية؛ حيث قد يحدث دائمًا ما هو غير متوقَّع. وهذا أمر شرحه يطول. لكن لم تجرِ أيّ حرب وتسير كما خَطَّط لها مَن أشعلوها ومن دخلوا في أتونها. القاعدة هي أن الصراعات الكبرى تشهد مفاجآت كبرى، وتنتهي إلى نتائج كبرى مختلفة عن أيّ خطط أو توقعات.

ليست أزمة رسوم جمركية!

تعدَّدت التفسيرات والتوصيفات لتلك القرارات التي اتخذها الرئيس الأمريكي بشأن الرسوم الجمركية؛ فقد مالت بعض التقديرات للقول بأنها محاولة أمريكية لزيادة مداخيل الدولة الفيدرالية عبر حصيلة الرسوم الجمركية. ووصل الأمر حد الزعم بأن إدارة ترامب ذاهبة لإلغاء الضرائب. وجرى دعم هذا التقدير بالإشارة إلى قرارات أخرى اتخذها ترامب، تحت عنوان تقليل الهَدْر في مؤسسات الدولة وفي النشاطات الخارجية.

ومالت تقديرات أخرى إلى أن ترامب استهدف الضغط على الشركات الأمريكية لنقل استثماراتها من الخارج للداخل، تحت عنوان «التصدي لخطر انكشاف الولايات المتحدة إذا خاضت حربًا»؛ بحكم اعتمادها على استيراد سِلَعها من الخارج.

ورأت تقديرات ثالثة أن ترامب استهدف جلب استثمارات أجنبية لإنشاء شركات إنتاجية في الولايات المتحدة.

ودخل على خط التفسيرات مَن اتهم ترامب بالمشاركة في عملية فاسدة لنقل الثروات داخل المجتمع الأمريكي؛ عبر الهلع الذي أصاب أسهم الشركات الكبرى في البورصات.

وهناك من تحدث عن أسلوب ترامب في التفاوض؛ إذ يرفع السقف عاليًا ليعود من بعد لتحقيق المكسب وربح الصفقة؛ في إشارة إلى أن ما يجري من صراع هو حالة مؤقتة.

وهناك مَن تندَّر على ما جرى؛ إذ أشار إلى أن رسوم ترامب على دول العالم ورد فيها فرض رسوم على جزيرتي هيرد وماكدونالد؛ حيث لا يوجد فيهما أيّ نوع من الحيوانات، باستثناء طيور البطريق. كما جرت الإشارة إلى ورود اسم دولة ليسوتو الإفريقية الفقيرة التي فرضت عليها رسوم جمركية بلغت 50%، وهي لا وزن لها في التصدير أصلاً.

لكنّ تطوُّر الأحداث كشف عن أبعاد إستراتيجية عميقة لتلك الحرب، تتعلق بحركتي الاقتصاد الأمريكي والصيني، وعن أن ما يجري هو حرب اقتصادية ذات أهداف إستراتيجية تتعلق بإعادة ترتيب التوازنات الدولية.

وهذه الحرب لها سمات عامة، من أهمها ما يلي:

السمة الأولى: أنها حرب اقتصادية

أول ضحاياها العلاقة المتداخلة -ويمكن القول المترابطة في صورة الاعتماد المتبادل- بين الاقتصادين الأمريكي والصيني. وهي حرب تأتي تطويرًا وتعزيزًا لذلك الاتجاه الذي كانت ضربة البداية فيه قضيتي شركتي هواوي وتيك توك الصينيتين، حين شنَّت الولايات المتحدة حربًا سافرة على تلك الشركتين.

لقد أوقف ترامب التجارة مع الصين «كليًّا» -حين رفع الرسوم الجمركية على سلعها بنسبة 145%-، وانطلق لفرض إجراءات متصاعدة على الصين باتجاه حصارها، وهي حالة اتضحت أكثر بفعل الردود الصينية التي شملت وقف إنفاذ الصفقات مع شركة بوينج للطيران، ووقف صفقات استيراد النفط الأمريكي، ومنع تصدير المعادن النادرة لأمريكا.

وزاد من قدر التفاعلات وتحويلها إلى حرب دولية؛ أن الرسوم الجمركية لترامب شملت كل حلفاء الولايات المتحدة، بما فيها أوروبا واليابان وكوريا وكندا، وغيرهم من الحلفاء. إذًا فهي حرب وليست مجرد أزمة رسوم جمركية. والحروب الاقتصادية تُصنَّف في خانة الحروب بالقوة الصلبة.

وتُعدّ من أقدم أشكال الحروب في التاريخ البشري، وهي تشمل الصراع على الموارد والسيطرة على الأسواق الدولية ومصادر الطاقة والممرات البحرية. وتلك الجوانب هي التي أشعلت الحربين العالميتين الأولى والثانية.

هي حالة حرب اقتصادية إذًا، والاقتصاد لا يجري دون ارتباط بالسياسة وبالقوة العسكرية؛ إذ لا تجري الحروب العسكرية دون إعدادات واستعدادات اقتصادية. وهي حرب تجري بديلاً -في الأغلب- للحرب العسكرية بعدما باتت الحروب العسكرية بين الدول النووية أمرًا يكاد مستحيلاً.

وهي حرب لإضعاف مراكز قوة دول في العالم، وتطوير قوة دول أخرى، وليست مجرد أزمة ناتجة عن فرض الولايات المتحدة رسومًا جمركية على السلع التي تستوردها من الخارج تحت دعوى أن العالم يسرق أمريكا.

ما يجري هو أن العالم يعيش حالة حرب اقتصادية لتعديل توازنات القوة على الصعيد العالمي. والأمر يتعلق بإضعاف شركات بعض الدول أمام الشركات المنافسة، وإلحاق الضرر وإضعاف اقتصادات دول وعملاتها وقدرتها على التصدير بما يُغيِّر وزنها الدولي.

وكما هو معلوم؛ فإن قدرات الدول الاقتصادية وفوائضها المالية والتصنيعية وقدراتها التكنولوجية هي أصل قوتها العسكرية وأصل قدرتها على التأثير في دول العالم.

السمة الثانية: أنها حرب تراجعية بالنسبة لأمريكا، وحرب نهوض بالنسبة للصين

تدخل الولايات المتحدة تلك الحرب وفق نمط تراجعي -رغم أنها تخوضها هجوميًّا-؛ يتمثل في العودة أو التراجع عن تغييرات حدثت في بنية اقتصادها. والولايات المتحدة تتاجر في ضعفها الاقتصادي (نقص السلع وتراكم الديون)، فيما تدخل الصين تلك الحرب كعنوان للنهوض والقوة -رغم أنها بدت في موقف دفاعي-؛ إذ هي تسعى لتثبيت نفسها كقطب دولي منافس قادر على مناطحة أكبر دولة في العالم.

أما على الصعيد الأمريكي، فالوضع الحقيقي للتوازنات في هذه الحرب هو أن الولايات المتحدة تخوض حربًا تراجعية عن العولمة التي فرضتها فرضًا على مختلف دول العالم. وأن الولايات المتحدة تتاجر في ضعفها؛ إذ تحارب بقدرة شعبها على الشراء -الاستهلاك- المُموَّل بالدَّيْن الذي يتراكم على الحكومة الفيدرالية.

كما أن الولايات المتحدة تحاول العودة باقتصادها إلى ما كان عليه بعد الحرب العالمية الثانية. في الوضع الحالي، أمريكا أكبر الدول المستوردة وأكبر الدول المدينة للعالم وداخليًّا، واقتصادها يغلب على هيكله قطاع الخدمات للإنتاج الصناعي والزراعي.

أمريكا تحوَّلت في السنوات الثلاثين الأخيرة إلى أكبر دولة تعتمد على الاستيراد من الآخرين، ويعتمد اقتصادها على أموال الدول الأخرى التي تشتري سنداتها؛ حتى صارت أكبر بلد مدين بالتريليونات للخارج، وأكبر بلد عليه ديون داخلية، وأكبر بلد مستورد من الخارج.

وتُشكّل ديون الولايات المتحدة -الخارجية والداخلية؛ أي الدَّيْن العام- النسبة الأكبر من ديون العالم؛ حيث بلغت 36 تريليون دولار في عام 2024م، أي: ما يعادل 34.6% من إجمالي الديون في العالم، وفق بيانات وزارة الخزانة الأمريكية.

والجانب الآخر هو أن أمريكا أكبر بلد مستورد للسلع من الدول الأخرى. وقد بلغت واردات الولايات المتحدة لعام 2022م ما قيمته 3.966 تريليون دولار أمريكي، بزيادة قدرها 16.37% عن عام 2021م، وهو اتجاه تصاعدي في الأعوام التالية أيضًا.

ولذلك يقال: إننا أمام معركة حول المُصنّع الصيني والمستهلك الأمريكي. ويقال: إن الولايات المتحدة تسعى لإعادة اقتصادها للإنتاج السلعي، وتحويل المجتمع الصيني إلى مجتمع استهلاكي.

أما على الصعيد الصيني؛ فتدخل الصين تلك الحرب باعتبارها دولة مُنتِجَة للسلع التي تُصدّر إلى مختلف أنحاء العالم. كما تدخل تلك الحرب وهي تقود مشروعًا إستراتيجيًّا شاملاً موازيًا ومنافسًا للهيمنة الأمريكية والغربية، هو مشروع طريق الحرير الذي انضمت إليه عشرات الدول الأخرى.

وتدخل الحرب، وهي دولة تحيط نفسها بمنظومات متعددة الأطراف؛ مثل: دول ميثاق شنغهاي، ومجموعة البريكس، وغيرها.

وهي تدخل الحرب للحفاظ على قدرتها في التصدير بناءً على وفرة الإنتاج؛ إذ بنت نموذجها التنموي على الإنتاج والتصدير.

وهي تدخل الحرب ولديها سندات من الخزينة الأمريكية بنحو 700 مليار دولار، كما أن عملتها منخفضة مقارنة بالدولار واليورو بما يُشكّل ميزة تصديرية.

وكذلك تدخل الحرب وقدرة كثير من شركاتها على التنافسية أعلى من نظيرتها في الولايات المتحدة والغرب عمومًا.

كما أن الصين تُحقّق معدلات تنموية تفوق الولايات المتحدة والغرب. ولديها سوق داخلي متسع؛ إذ صدرت تقديرات أمريكية بأن الطبقة المتوسطة الصينية النامية يعادل تعدادها كل الشعب الأمريكي، وهو ما يُحقّق لها قدرة على تحمُّل نتائج الحرب التجارية.

غير أنها تعاني من تراجع تدفق الاستثمارات الخارجية الجديدة. كما أن الإجراءات الأمريكية تحرمها من تصدير منتجاتها للسوق الأمريكي الأكثر استهلاكًا على الصعيد العالمي. وهي في منافسة تجارية قوية مع جوارها الجغرافي كما هو حال الهند واليابان وكوريا بما يضيق سوقها الإقليمي.

وهي لا شك تواجه مشكلات بفعل فصل مسار اقتصادها عن الاقتصاد الأمريكي الذي كان هو صاحب الدور الفاعل في نهضة الصين عند بدايتها.

السمة الثالثة: حرب ذات طابع دولي

لم تكن العولمة حالة محلية، بل حالة عالمية، والتراجع عنها يُحدث تغييرات هائلة على الصعيد العالمي. وتلك الحرب لا تتعلق بالاقتصادين والوضعين الإستراتيجيين للصين وأمريكا فقط، بل بمختلف الدول في العالم.

وإذ هي حرب ما تزال في بدايتها، فلا يمكن رسم نتائجها النهائية إلا بعد انخراط مختلف دول العالم في فعالياتها. والقاعدة تقول: إن القوى الاحتياطية هي مَن تَحْسم الحروب بفعل ميلها إلى هذا الطرف أو ذاك.

وبالمقابل، فلا يمكن فَهْم جوهر أبعادها إلا بمراجعة الوضع الدولي الذي أدَّى لاندلاعها. لقد تحرَّك ترامب أولاً باتجاه الاقتراب من روسيا، قبل أن يتحرك باتجاه الصين عدائيًّا؛ وذلك أن تحالف روسيا والصين هو ما أنتج وضعًا دوليًّا خطرًا على الإستراتيجيات الأمريكية.

عبر التحالف بين روسيا والصين، وُلِدَت مجموعة البريكس، ووُلِدَت مجموعة ميثاق شنغهاي، وبدأت عمليات التبادل التجاري عبر العملات الوطنية -بعيدًا عن الدولار-، وظهرت منظومات موازية لنظام سويفت، وتشكّل البنك الآسيوي للتنمية وبنك التنمية لدول البريكس.

باختصار، تشكّلت حالة قطب إستراتيجي اقتصادي وسياسي وعسكري (روسي صيني) في مواجهة الهيمنة الأمريكية، وباتت أدواته وقوته تتطوَّر وتتعزز.

وفي الطرف الآخر من العالم، كان العالم أمام ميلاد قوة كبرى أخرى هي الاتحاد الأوروبي الذي أصبح منافسًا قويًّا للولايات المتحدة.

هذا التغيير الإستراتيجي المتنامي هو الأساس الذي دفَع الولايات المتحدة لإطلاق تلك الحرب الاقتصادية، ومن قبل هو ما حرَّكها لتغيير موقفها من روسيا والسعي لعقد صفقات ذات طابع دولي معها. وهو ما جعلها تضع إستراتيجيات تقوم على زيادة ضغوطها على الاتحاد الأوروبي.

وهو ما يعني أننا أمام تغيير في العلاقات والتوازنات الدولية، وأن الحرب الجارية هي حرب لها أهداف دولية، وليست مجرد أزمة رسوم جمركية.

وبسبب مواقف واتجاهات حركة الأطراف الدولية؛ تمثل الحرب الاقتصادية الأمريكية الصينية حالة دولية، بحكم قوة ودور الدولتين على الصعيد العالمي.

وبحكم العولمة السابقة التي حوَّلت الاقتصاد الدولي إلى حالة متداخلة بين الشركات ورؤوس الأموال العابرة للقومية، ولأن ما يجري يُغيّر العلاقات السياسية والاقتصادية، ويستهدف تغيير معالم القوة والقدرة على صعيد التوازنات الدولية.

والمعنى أن تلك الحرب المستجدَّة تُمثّل مؤثرًا وضاغطًا يتطلب استجابات من مختلف دول العالم. وهي استجابات لن تتبلور إلا مع «استقرار» حالة الحرب الاقتصادية، كما أن حدوث مثل تلك التغييرات يحتاج وقتًا طويلًا حتى ظهور نتائجها الكلية، بالمقارنة مع الحروب العسكرية.

وفي قياس المواقف الدولية؛ لم يكن مُستغرَبًا أن تذهب الصين إلى ما ذهبت إليه من إبراز الندية الكاملة، وإن صدرت تصريحات رسمية بأن الصين ستقاتل حتى النهاية. فالصين وصلت إلى مرتبة الدولة الكبرى اقتصاديًّا وسياسيًّا وإستراتيجيًّا، وهي تكاد تصل حدّ التفوق على الولايات المتحدة في عددٍ من المجالات.

كما أن نمطها التنموي القائم على التصنيع والتجارة مستهدَف بتلك الإجراءات. وهنا كان لافتًا سعي الصين إلى حشد دول في آسيا إلى جوارها في تلك المواجهة. وكان طبيعيًّا أن تقف روسيا في آخر طابور الإعلان عن موقف من الحرب الاقتصادية المندلعة، وأن تُفضّل عدم إعلان موقف في هذه المرحلة.

روسيا لم يرد اسمها في العقوبات الجمركية الأمريكية؛ بسبب أن الغرب سبق وأن فرَض عليها كل ما يمكن للعقل التفكير به من عقوبات بعد انطلاق الحرب الأوكرانية. كما أنّ روسيا تركز ناظريها على معركتها الإستراتيجية الحامية مع حلف الأطلنطي وأوروبا.

وكذلك لا مفاجآت في الموقف الأوروبي. وسواء جاء رد الفعل الأوروبي بطيئًا؛ نتيجة لتشتُّت مواقف دول أوروبا وانقساماتها، أو انتظارًا لما ستسفر عنه المفاوضات الأوروبية مع الولايات المتحدة، لكنّ اللافت ظهور دعوات في أوروبا للتقدُّم المباشر لإطلاق نظام دولي جديد، كما جرى التلويح بتوسيع العلاقات مع الصين ودول أخرى، على حساب العلاقات مع الولايات المتحدة. وفي كل الأحوال فقد تحقّق قدر أعلى من الانفصال بين ضفتي الأطلنطي، وبات ظاهرًا وجود مسارين -على الأقل-، في داخل ما كان يسمى بالغرب.

وبات ممكنًا القول بأن هذا الاتجاه سيتنامى إلى درجة كبيرة. وعلى صعيد ردود فعل الدول الآسيوية، فالأمور قيد التفاعل؛ فلقد ظهرت مؤشرات على احتمال حدوث تغييرات في العلاقات الصينية مع كلٍّ من كوريا الجنوبية واليابان والصين من جهة.

وهناك مؤشرات أخرى على سعى الصين لتعميق تحالفاتها الاقتصادية الإقليمية لمواجهة الحرب الأمريكية. وفيما يتعلق بدول أوروبا وآسيا سيكون المؤثر كبيرًا، لكن ردود الفعل ستكون بطيئة، لاستيضاح المدى الذي سيصل إليه طرفَا الحرب من جهة؛ ولظهور مدى تأثير ما يجري سياسيًّا واقتصاديًّا على مصالح تلك الدول من جهة أخرى.

ويمكن القول أيضًا: إن هناك مَن سينظر لتلك الحرب من زاوية الفرص التي تُتيحها. وما يمكن الجزم به هو ما يتعلق بمواقف الدول الصغرى، خاصةً تلك التي بَنَت نهضتها وتطورها الاقتصادي على أساس حرية حركة التجارة ورؤوس الأموال.

وهناك دول يمكن وصفها بـ«الدول العولمية»؛ وهي تلك التي تحوَّلت إلى مناطق مرور لحركة التجارة، وسوقًا لحركة وتداول رؤوس المال الأجنبي، واعتمدت على تلك الوضعية في نموّها، وركّزت نشاطاتها الاستثمارية في الموانئ وخطوط حركة التجارة.

تلك الدول كانت تستند في تأسيس حالة استقرارها على حالة السيولة الدولية التي سمحت لها بتوفير معالم أَمْنها؛ اقتربت من الصين باعتبارها صاحبة الإنتاج الأكبر والمصدر الأكبر في العالم، وهي التي حافظت في الطرف الآخر، على علاقات مع الولايات المتحدة باعتبارها صاحبة القدرة على توفير الحماية السياسية والأمنية لاقتصادها واستقرار حكمها، تلك الدول ستجد نفسها في موقف لا تُحسَد عليه، وستكون خياراتها صعبة.

أما الدول ذات الحجم المتوسط، والتي قامت إستراتيجيتها على الاستفادة من التنافس الصيني الأمريكي، وبنت خُططها الإستراتيجية على عدم الدخول في مواجهة الولايات المتحدة، مع الاستفادة من حركة الصين ماليًّا وتكنولوجيًّا بل حتى عسكريًّا؛ فهي دول ستتعرض لضغوط أقل. وفي كل ذلك، فالمشهد الدولي الأوسع في انتظار مواقف دول البريكس.

 


أعلى