ربط كثير من المحللين بين هذا الهجوم والإعلان عن وصول عدد من طائرات إف16 أمريكية الصنع للأراضي الأوكرانية. وقد تعددت أوجه هذا الربط؛ حيث رأى البعض أن وصول تلك الطائرات منح الجيش الأوكراني غطاءً جويًّا مكَّنه من تغيير خططه العسكرية
تمدَّدت الحرب بريًّا إلى داخل الحدود الروسية بعدما شنَّت القوات الأوكرانية هجومًا مفاجئًا انطلق من مقاطعة سومي الأوكرانية نحو جنوب مقاطعة كورسك الروسية، وتمكَّنت خلاله من التوغُّل عدة كيلو مترات في داخل الحدود الروسية.
وفي ذلك، تعددت التفسيرات والتأويلات عن أهداف هذا الهجوم ومآلاته. كما انطلقت أحاديث عن إمكانية خروج الطرفين من الحرب وفق وَضْع تفاوضي أكثر معقولية على الصعيد الأوكراني؛ إذ قيل: إن أوكرانيا باتت جاهزةً للتفاوض على أساس مبدأ انسحاب كلا الطرفين من المواقع التي احتلها في أراضي الطرف الآخر، فتنسحب روسيا من الأراضي الأوكرانية –أو من أراضٍ أوكرانية-في مقابل انسحاب أوكرانيا من الأراضي الروسية.
غير أن الأمور أعقد من أن تنتهي وفق هذا التصور المختصر، أو بتطبيق معادلة تبادل الأراضي. فالصراع على أوكرانيا لا يجري جوهريًّا بسبب رغبة روسيا في احتلال وضمّ مساحة جغرافية من أوكرانيا، بل هو صراع إستراتيجي دولي بالغ التعقيد، يتعلق بالمصير السياسي والإستراتيجي لدور أوكرانيا كدولة في الصراع بين روسيا وحلف الناتو، وبتغيير نمط العلاقات الروسية الأوروبية من التعاون إلى التعادي، كما أنه صراع يجري بهدف إحداث تغيير في توازنات الوضع الدولي، والنظام الدولي القائم على هيمنة الغرب على العالم.
كما أن القوات الروسية لا تحتل أراضي في شرق أوكرانيا فقط (الدونباس)، بل هي تحتل جزيرة القرم وبحر أوزوف، بما غيَّر الأوضاع الإستراتيجية في البحر الأسود، كما تحتل أراضي في شمال مقاطعة خاركيف أو خاركوف. كما أن ثمة تقديرات متداولة بأن هذا الهجوم الأوكراني والتوغل في الأراضي الروسية جنوب كورسيك، قد تكون نتيجته النهائية خطيرة للغاية على أوكرانيا ومصير قدرتها على الاستمرار في الحرب، بما قد يدفع بتوسع الحرب لتصبح حربًا مباشرة بين روسيا وحلف الناتو.
ملابسات الهجوم الأوكراني
انطلق الهجوم الأوكراني من مقاطعة سومي في شمال البلاد، وفي ذلك بدا الحدث لافتًا من عدة أوجه:
فقد جرى الهجوم في توقيتٍ كانت القوات الروسية خلاله في وضع الهجوم الشامل، سواء في منطقة الدونباس في شرق أوكرانيا أو في مقاطعة خاركيف في شمال أوكرانيا، المجاورة لمقاطعة سومي. ولذلك قيل: إنها محاولة أوكرانية لإجبار القيادة الروسية على وقف هجومها هنا وهناك، وتشتيت قواتها ووضعها في موقع الخيار الصعب بين الاستمرار في الهجوم -في الدونباس وخاركيف- أو سحب قَدْر من قواتها وإعادة توجيهها إلى كورسك؛ لمواجهة الهجوم الأوكراني، وطرد القوات الأوكرانية من أراضي روسية باتت محتلة، بما يُعيد التوازن إلى معركة الدونباس، ويُقلّل القدرة الروسية على إكمال مخططها لإقامة عازل جغرافي في شمال أوكرانيا.
وقد جرى الهجوم انطلاقًا من مقاطعة سومي التي تقع في غرب مقاطعة خاركيف والملاصقة لها، وهو ما يعني أن القوات الروسية المهاجمة في الشمال الأوكراني، إما أنها قد تركت سومي خلال هجومها في خاركيف المجاورة لصناعة فخّ للقوات الأوكرانية ينتهي بتطويقها، أو أن الحسابات السياسية الروسية، قد استثنت سومي من هجومها على الشمال الأوكراني، حتى لا تظهر بمظهر المُهاجِم الساعي لاحتلال العاصمة –وسومي هي المنطقة الأقرب جغرافيًّا إلى العاصمة كييف-فاستثمرت القوات الأوكرانية هذه الثغرة، وأطلقت هجومها المضادّ بما فاجأ القيادة الروسية.
ولذلك قيل: إن أحد أهداف الهجوم الأوكراني في كورسك، هو تأمين العاصمة كييف بصناعة حاجز عسكري في داخل الأراضي الروسية.
وجرى الهجوم فيما كان الارتباك سيد الموقف في أوكرانيا؛ إذ انتهت مدة رئاسة الرئيس الحالي زيلينسكي، وظهرت آراء تتحدث عن عدم مشروعية بقائه في الحكم، كما سبق الهجوم إقدام زيلينسكي على تغيير قيادة الجيش، وفي ذلك تناثرت أنباء عن رفض قائد الجيش المُقَال تنفيذ خطط تتعلق بالتحوُّل للهجوم. وقيل: إنه حذَّر من تكرار تجربة ما كان يُوصَف بهجوم الربيع في الدونباس، والذي انتهى إلى تحوُّل القوات الروسية للهجوم بعدما ظلت لمدة طويلة في موضع الدفاع.
وقد ربط كثير من المحللين بين هذا الهجوم والإعلان عن وصول عدد من طائرات إف16 أمريكية الصنع للأراضي الأوكرانية. وقد تعددت أوجه هذا الربط؛ حيث رأى البعض أن وصول تلك الطائرات منح الجيش الأوكراني غطاءً جويًّا مكَّنه من تغيير خططه العسكرية، ليتحوَّل من الدفاع في داخل الأراضي الأوكرانية إلى الهجوم البري في داخل الأراضي الروسية. ورأى البعض الآخر، أن وصول الطائرات رفَع الروح المعنوية للجيش والقيادة الأوكرانية بعد ما تعرَّضت له من اهتزاز بعد فشل هجوم الربيع في الدونباس.
غير أن ما يلفت النظر أكثر، فيما يجري في معارك جنوب كورسك جراء الهجوم الأوكراني، هو أن التقدُّم الذي أحرزته القوات الأوكرانية في داخل مقاطعة كورسك الروسية، لم يُحْدِث جلبة سياسية كبيرة في الداخل الروسي، رغم أنها المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي تحتل فيها أراضي روسية، وكذلك لأن التقديرات التي تُمرِّرها القيادة الروسية للشعب الروسي، تتحدَّث عن اقتراب تحقيق النصر. كما أن القوات الروسية لم تتحرك على عَجل للتعامل مع هذا التوغل، سواء بحشد قوات ضخمة لصدّ الهجوم، أو بسحب قوات من تلك المهاجمة في الدونباس أو خاركيف لمواجهة هذا التطور الخطير.
الأهداف السياسية للهجوم
يمكن القول بأن الهجوم الأوكراني مثَّل انتقالة متعددة الأوجه في الوضع السياسي لأوكرانيا، وسيُبْنَى عليه تغييرات سياسية مهمة.
فالهجوم يمنح الحكم الأوكراني فرصة الظهور بمظهر القادر على إدارة الصراع بزواياه السياسية والعسكرية. كما يمنحه الفرصة للإعلان عن قبول التفاوض دون الشعور بضغط الهزيمة أو الشعور بمشاعر الدولة الذاهبة للتفاوض دون أوراق بيدها، بما يجعل المفاوضات أقرب إلى الاستسلام.
وهو يُحسِّن صورة أوكرانيا أمام الحلفاء؛ إذ لم تعد دولة مُطالبة بالدعم من حلفاء يخشون أن يتبدد، فها هو الدعم الغربي لها يُنتج تطورًا نوعيًّا في وضعها الإستراتيجي، وذلك أمر مهمّ بعدما فشلت تجربة الهجوم المضادّ الذي شنَّته القوات الأوكرانية في منطقة الدونباس، بما وسَّع من الاحتجاجات الداخلية في الدول الغربية على استمرار الدعم، وهو أمر اتسعت تداعياته إلى حد فتح الباب لظهور مطالبات بضرورة إنهاء الحرب وقبول أوكرانيا بالأمر الواقع.
وقد أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن الهجوم قد ينجم عنه تحوُّل مُهمّ في الموقف العسكري-السياسي، إذا تمكنت القوات الأوكرانية من السيطرة على محطة الطاقة النووية في كورسك، بما يُمكّن القيادة الأوكرانية من طرح مبادرة تقوم على مقايضة محطة زاباروجيا النووية الأوكرانية الواقعة تحت السيطرة الروسية في الدونباس، مع محطة كورسك النووية الروسية.
وهناك مَن يطرح أبعادًا أخرى تتعلق بالانتخابات الأمريكية خلف هذا الهجوم، أو خلف توقيته على الأقل؛ فإذ تحدث ترامب عدة مرات عن خطأ ارتكبه بايدن حين دفَع أوكرانيا للحرب -وهو وصل إلى درجة الحديث صراحةً عن أن أوكرانيا لن تستطيع هزيمة الروس الذين هزموا نابليون وهتلر-فإن الرئيس الأوكراني قد أرسل هدية للحزب الديمقراطي والإدارة الديمقراطية الحاكمة، مفادها أن بالإمكان الرد العملي على ترامب بأن الجيش الأوكراني قادر على تحقيق النصر، وأن أموال الدعم الأمريكي -التي اعتبرها ترامب أموالاً مهدرة- قد أنتجت تحولاً في المعارك إلى درجة احتلال مناطق في روسيا.
وكان طبيعيًّا أن يقال: إن الرئيس زيلينسكي استعاد قدرًا من المشروعية الداخلية التي اهتزت تحت وقع فشل هجوم الربيع، وتتالي الانتصارات الروسية في معارك الدونباس وخاركيف، بما يؤدي لخفوت الأصوات المُطالِبة بالذهاب إلى انتخابات جديدة.
مصير الهجوم ومخاطره
بقَدْر ما مثَّل الهجوم تحولاً نوعيًّا في وضع أوكرانيا سياسيًّا وعسكريًّا؛ فقد أثار قدرًا من المخاوف لدى بعض الخبراء الذين أشاروا بقلق لاحتمال أن يتحوَّل هذا الهجوم إلى كارثة عسكرية، وأن تأتي النتائج السياسية بما هو أسوأ على الموقف الأوكراني.
على الصعيد العسكري فقد لاحَظ المتابعون أن القوات الروسية المُهاجِمة في إقليم الدونباس قد سرَّعت من وتائر انتصاراتها وسيطرتها على القرى والمدن الأوكرانية، وأن الهجوم الذي تعرَّضت له كورسك لم يؤدِّ إلى سحب القيادة الروسية جانبًا من قواتها من الدونباس للتصدي لهذا الهجوم.
وتُجمع التقارير العسكرية على أن الهجوم على كورسك قد نتج عنه حدوث اختلال في وضع الدفاعات الأوكرانية في الدونباس؛ اذ جرى سحب قطاعات من تلك القوات المدافعة من الدونباس للقيام بالهجوم في كورسك.
كما لاحَظ المتابعون لسير المعارك أن القوات الروسية المُدافعة عن كورسك، اعتمدت إستراتيجية غير تقليدية في التصدي للهجوم الأوكراني، وكأنها كانت في انتظار هذا الهجوم. لم تدخل القوات الروسية الدبابات والمدرعات للمعركة على نحوٍ يتناسب مع واقعة الغزو، ولم تتحرك لإقامة خطوط دفاع تقليدية، بل اكتفت باستخدام سلاح المسيرات، واعتمدت أسلوب الأكمنة للمدرعات والدبابات الأوكرانية، واستخدمت أسلحة الجو في التعامل مع القوات المُهاجِمة، وكأن القوات الروسية اعتمدت خطة استنزاف للقوات المهاجمة.
لم يلحظِ المتابعون اهتمام القوات الروسية بالتمسك بالأرض في المنطقة التي حدث فيها الاختراق الأوكراني على النحو المعتاد أو الطبيعي في مثل تلك الحالات، بل اكتفت بالقيام بهجمات جزئية لامتصاص زخم الهجوم، وإيقاع أكبر الخسائر بالقوات المهاجمة، مع العمل على قطع خطوط الإمداد والتموين على القوات المتوغلة عبر تكثيف القصف الجوي والصاروخي لمقاطعة سومي.
وقد بدا واضحًا أن القيادة الروسية تتعامل مع الهجوم برؤية أنه تحرُّك بلا رصيد إستراتيجي في القوات أو المعدات، وأن بالإمكان إفشال الاختراق دون تغيير في الخطط الروسية الجارية لحسم معركة السيطرة على الدونباس أو في خطط الهجوم الجاري للسيطرة على الجزء الشمالي من خاركيف.
وهو ما دفَع المعلقين الغربيين لإبداء تخوُّفات من أن يتحول الهجوم الأوكراني إلى مصيدة، وأن يسهم في تعزيز الانتصارات الروسية في الدونباس، بما يُعجّل من إنهاء مهامها هناك، لتتحول إلى الهجوم الكاسح في كورسك.
مصير الحرب
لا يبدو حتى الآن أن تبدُّلًا جوهريًّا قد حدث بعد هجوم كورسك، إلى درجة القول بأنه قد يُغيِّر سيناريوهات نهاية الحرب.
ويمكن الإشارة هنا إلى أن احتمال حدوث تغييرات بشأن مصير الحرب متوقف على ما سيجري في الانتخابات الأمريكية من جهةٍ، وعلى التحركات الجارية أمريكيًّا وروسيًّا وصينيًّا لتوسيع وتعميق التحالفات الصراعية، بأكثر مما يرتبط بهجوم كورسك من جهةٍ أخرى.
وكذا يمكن الإشارة إلى أن تطور الأحداث على جبهة الصراع الروسي الأوكراني تبدو مقيَّدة في انتظار الصراع الجاري في الشرق الأوسط؛ فلم تَعُد الحرب على أوكرانيا وحدها على الساحة الدولية، فقد زاحمتها الأزمة الإقليمية والدولية الناشبة في الشرق الأوسط ما بعد طوفان الأقصى، وباتت الحسابات في تطوير أو تصعيد الحرب الأوكرانية مرتهنة ومقيَّدة باحتمالات تطور الحرب الجارية الآن في الشرق الأوسط.
لكنَّ نجاح الهجوم الأوكراني في اختراق مقاطعة روسية واستمرار السيطرة على مساحة تقارب 800 كيلو متر، يظل علامة فارقة في العمليات القتالية في هذه الحرب، ليس فقط لأن أوكرانيا نجحت في بناء خطتها على استغلال الإشكالية الإستراتيجية الروسية المتمثلة في اتساع المساحة الجغرافية –فروسيا أكبر بلاد العالم جغرافيًّا، مع قلة عدد السكان-، بل لأن الجيش الأوكراني قد تمكَّن من اختراق الحدود الروسية واحتلالها في زمن الحرب.
والأهم والأخطر، أن دخلت الحرب مرحلة التأثير على محطة ثانية لتوليد الطاقة النووية. فلم تَعُد محطة زباروجيا النووية الأوكرانية محل التهديد وحدها، بل كذلك أصبحت محطة كورسك النووية الروسية، وهو ما يُشيع مناخًا من الخوف والرهاب النووي.