وسط هذا الجو المشحون؛ تقدم أعضاء «الإنصاف» للترشيح كمستقلين، وقد واجهوا صعوبات جمَّة، فقد كانت الحملات الانتخابية شبه مستحيلة في الأساس؛ حيث كان على المرشحين الاختباء.
تبدو الهند ماضيةً بعزيمة فولاذية لتحقيق مشروعها الطموح ببناء إمبراطورية شاسعة
قوية، تلتهم أراضي دول الجوار وما بعد الجوار، وتقضم نفوذ دول إقليمية كبيرة،
أبرزها باكستان، التي ظلت تتعامل معها كندّ حتى أُنهكت مؤخرًا، وأطمعت نيودلهي في
مزيد من التجاسر عليها، وانتهاك سيادتها.
تصعد الهند، وتهبط باكستان، وفي طريق الصعود الدولي، نسجت نيودلهي علاقة وثيقة مع
الكيان الصهيوني، والولايات المتحدة الأمريكية، وتلاقت مصالحهم في تقويض باكستان،
وسحق فلسطين.
تمددت نيودلهي، فانخرطت في العدوان على غزة، فأمدَّت تل أبيب بجسر جويّ لأحدث
طائراتهما المسيّرة المشتركة (هيرميس 900)، وشاركت بقوة قتالية كبيرة (متطوعين
مفترضين)، قال عنهم السفير الصهيوني في الهند أواخر العام الماضي بأن «عدد
المتطوعين من الهنود للقتال في غزة يكفي لبناء جيش بأكمله»، وهم متحمّسون لقتل
المسلمين حيثما وجدوهم؛ بحسب الكاتب الأسترالي سي جاي ويرلمان. وهم يتدربون في
حقيقة الأمر على تنفيذ مخطط لتهجير مسلمي كشمير لاحقًا، مثلما قال تشاكرافورتي،
الدبلوماسي الهندي رفيع المستوى، في قناة تايمز ناو الهندية الأكثر شعبية ومشاهدة
في الهند قبل خمس سنوات: «لدينا نموذج واقعي، لا أدري لماذا لا نحذو حذوه، إنه في
الشرق الأوسط، ومادام الإسرائيليون قادرين على تطبيقه؛ فإنا قادرون على تطبيقه
كذلك».
لدى الهند رؤية وانطلاقة، ولدى باكستان انكسار وضعف وتمزق داخلي، جاءت الانتخابات
البرلمانية الأخيرة التي أُجريت في 8 فبراير الماضي لتكشفه أكثر وتجلّيه؛ حيث بدت
تلك الدولة المسلمة التي يبلغ سكانها نحو ربع مليار مسلم شديدة الهشاشة؛ إذ لا هي
صارت دولة فردية قوية مستقلة، ولا هي كانت أو أصبحت دولة ديمقراطية تحترم إرادات
ناخبيها؛ فزاحم سؤال الشرعية فيها: أسئلة الاقتصاد، والتماسك الشعبي، والسياسة
الخارجية، ودور الجيش.
وقد كانت الانتخابات الأخيرة فرصة لأن تختار باكستان حكومة قوية، وتصطف الجماهير
خلف قائد يعمل على امتلاك هذا البلد النووي إرادته واستقلاله، ويتفرغ جيشه للدفاع
عن دينه وأرضه، في وقتٍ تناوشه فيه الجارتان الهندية والإيرانية، متأهِّبتان
لاقتناص لحظات ضَعْفه للانقضاض على أراضيه وقدراته. لكن لا يبدو أن الانتخابات هذه
قد قادت إلى مثل ما كان يُرْتَجى.. فلقد انعطفت بباكستان إلى أضعف حالاتها، لقد
اتُّخذ قرار حاسم بأن لا تكون لاعبًا قويًّا في المنطقة، بل دولة وظيفية غارقة في
مشاكلها، محكومة بتأثيرات الخارج.. لقد اتُّخذ القرار فقيل: يجب ألا تنجح.
الذين لم يصوتوا لحركة الإنصاف، التي يقودها رئيس الوزراء السابق عمران خان، ليسوا
جميعًا ممن لا يرغبون في أن تُشكِّل الحركة حكومة باكستان، ولا أن يقودها عمران خان
شخصيًّا، فبعضهم لديه قناعة بأن اختيار مَن ترفضه «الدولة العميقة» سيقود حتمًا إلى
الفوضى وتعثُّر الحكومة، لا سيما في تنفيذ سياستها الاقتصادية.
مع ذلك؛ فإن معظم الباكستانيين قد صوَّتوا لحركة الإنصاف، ممثلة في مستقليها، الذين
واجهوا مجموعة من الإجراءات المتعسفة للحيلولة دون حصول الحركة على الغالبية
المطلقة، لعل أبرزها ما فشا في الإعلامين المحلي والإقليمي، بعضها قبل إجراء
الانتخابات؛ إذ كثيرًا ما فقد مرشحو الإنصاف أوراق ترشيحهم، فقد انتُزعت من أيديهم
على يد أفراد أمن غامضين، فكانت الحيلة التقليدية التي يعرفها الذين واجهوا تلك
المشكلات من قبل: إغراق مكاتب القبول بالعديد من المرشحين الأصليين والاحتياطيين؛
لعل بعضهم ينجح في اختراق الطوق الأمني! فالسلطات اختطفت مرشحين وعذَّبتهم وضغطت
عليهم للانسحاب، وكذلك بعض من حلّوا مكانهم بعد ذلك!
لأسباب لا منطقية، تعنتت المحكمة العليا، رافضة الانتخابات الداخلية في حزب حركة
الإنصاف، غير معترفة بخليفة لعمران خان، وعليه؛ فالقانون الذي يمنع خوض حزب
الانتخابات دون وجود هيكل قيادي له تم تنفيذه على الحزب؛ فمُنِعَ مِن خوض
الانتخابات كحزب.
ولسببٍ هزليّ آخر، حُرم حزب عمران خان، من التمسك برمزه الانتخابي الشهير، عصا
الكريكيت، التي تَرمز لخان، اللاعب العالمي السابق الأبرز، في هذه اللعبة، ما حرَم
الحزب من التسويق الفعّال لمرشحيه بين ناخبين، 40% منهم أميُّون، لا يهتدون إلى
مرشحيهم في أوراق الاقتراع إلا عبر رموزهم. ثم أُوعز للإعلام الرسمي ألا يجري اسم
«عمران خان» على لسان مذيعيه وضيوفه، وأن يتجاهل تمامًا وجود مرشحين من الإنصاف
يخوضون الانتخابات في طول البلاد وعرضها.
ولسببٍ مفهوم، صدر حكم ضد خان بسرعة يستبق الانتخابات؛ حيث يواجه الرجل نحو 180
اتهامًا، أعلاها التحريض على الإرهاب والفوضى، وأدناها احتفاظه بهدايا قُدِّمت إليه
كرئيس للوزراء، وهي التي أُدين بسببها حتى الآن، مرورًا باتهامه بالزواج من مطلقة
أثناء عدّتها. وهي اتهامات تقاطرت عليه فجأةً بعد لقاء مسؤولين أمريكيين وسفير
باكستان في واشنطن في مارس 2022م، هدّدوا فيه بلاده بأنه «إذا فاز خان في التصويت
على نيل الثقة؛ فإن باكستان ستواجه عواقب وخيمة»؛ بحسب شهادة السفير حينها.
وهو ما تُرجم مباشرة إلى تقديم رُشًى لأعضاء من الإنصاف، وتهديد آخرين؛ لكسب
أصواتهم في اقتراع لحجب الثقة عن رئيس الوزراء، ومِن ثَم اعتقاله، في زنزانة
متَّسخة مساحتها 3×4 أمتار، ومُلاحَقة معظم قادة حزب الإنصاف بذرائع ومزاعم مختلفة،
فاعتُقل أبرز قادة الحزب، وأُجبر عشرات القادة والكوادر على الاستقالة قبل عامين،
واعتُقل الآلاف من الأعضاء والمناصرين.
وكمثل ما تمارسه بعض الدول الإفريقية والآسيوية لتغيير الثِّقل الانتخابي لبعض
المرشحين والكتل السياسية التي لا توافق النُّظم على صعودها؛ رُسِمَت حدود الدوائر
الانتخابية لتُقلِّص من حظوظ أنصار عمران، بتضييق وتوسيع الدوائر الانتخابية
سكانيًّا، وتغيير جغرافيتها كذلك لحرمان «الإنصاف» من تحقيق أفضل النتائج في معاقله
الانتخابية.
وسط هذا الجو المشحون؛ تقدم أعضاء «الإنصاف» للترشيح كمستقلين، وقد واجهوا صعوبات
جمَّة، فقد كانت الحملات الانتخابية شبه مستحيلة في الأساس؛ حيث كان على المرشحين
الاختباء.
وفي يوم الاقتراع، قُطعت الاتصالات وخدمات الإنترنت عن مناطق شاسعة في باكستان، وتم
تغيير مواقع الاقتراع بشكل عشوائي. ووصفت وسائل الإعلام الغربية السباق بأنه انتهى،
وأنه أمر واقع بالنسبة للمرشح المفضل لدى الجيش نواز شريف.
وتأخرت المفوضية الانتخابية الرسمية في إعلان النتائج 60 ساعة، متذرّعة ببطء
الإنترنت، ثم أعلنت النتائج على النحو التالي: فوز المستقلين بـ101 من أصل 264
مقعدًا، وأغلبهم مدعومون من حزب الإنصاف. وجاء في المركز الثاني حزب الرابطة
الإسلامية: جناح نواز (رئيس الوزراء السابق نواز شريف) الذي حصد 75 مقعدًا ليصبح
الحزب الذي حصل على أكبر عدد من مقاعد البرلمان. وحل حزب الشعب في المرتبة الثالثة
بفوزه بـ 54 مقعدًا، وحصلت الحركة القومية المتحدة على 17 مقعدًا، بينما فازت بقية
القوى السياسية الأخرى بـ17 مقعدًا.
غير أن الواقع لم يكن كذلك؛ فنتائج الانتخابات المعلنة من جانب اللجان الفرعية
والإذاعات المحلية، لم تكن كذلك، فبحسب مصادر «الإنصاف»؛ فإنَّ مرشحيه (المستقلين)
قد حصدوا 202 مقعدًا، وفي أقل التقديرات، بـ173 مقعدًا؛ إذ حصل الكثير من المستقلين
على مستند ٤٥ الذي يثبت فوزهم على منافسيهم، بل أُعلن عن نجاحهم في الإذاعات
المحلية؛ إلا أن النتائج الرسمية كان لها شأن آخر.
تفجَّرت احتجاجات على تلك النتائج، ليس من حركة الإنصاف وحدها، لكن كذلك من الجماعة
الإسلامية، وجمعية علماء الإسلام، والاتحاد الديمقراطي المسيحي، والاتحاد القومي
المتحد، وغيرها؛ فالجميع أدرك أن الانتخابات قد تم تزويرها، لا سيما في إقليم السند
الذي شهد واحدة من أكبر التجاوزات. خرجت الجماهير إلى الشوارع والطرقات، وتظاهروا
في نقاط احتجاج عديدة. وأظهرت الأحزاب احتجاجها قانونيًّا أيضًا، يقول محامي حركة
الإنصاف والعضو فيه؛ تيمور ملك: «تم تقديم أكثر من 500 عريضة أمام لجنة الانتخابات
في باكستان، ومعظم هذه الالتماسات تأتي من مرشحي حزب الإنصاف»، وهو رقم كبير بلا
شكّ يلطّخ أكثر انتخابات إثارةً للجدل في تاريخ باكستان.
السلطات الأمنية بادرت على الفور بإطلاق القنابل المُسيِّلة للدموع على المحتجِّين،
وقيَّدت موقع - للتخفيف من حدة المعارضة الحادة على وسائل التواصل. اعتذر مسؤول
الانتخابات السابق في روالبندي، للجنة الانتخابات، وقال: «لقد قدّمت ادعاءات كاذبة،
أنا آسف»، لكنّ المفوضية رفضت ما قاله! ومضت متحدّية، ومعها المحكمة العليا، التي
رفضت دعوى بطلان الانتخابات، تلك الانتخابات التي ستقود حتمًا بنتائجها المريبة تلك
إلى حكومة واهنة هشَّة، واقتصادٍ واهٍ.
مصير مقلق
معظم الشعب الباكستاني لا يكاد يُصدِّق أن الانتخابات قد أُجريت بطريقة نزيهة، سواء
من مؤيدي عمران خان، أم ممَّن يرون أن سياساته -أثناء توليه منصب رئيس الوزراء- قد
تسبَّبت في مفاقمة أزمة باكستان الاقتصادية، أو أسهمت في اقتراب الولايات المتحدة
الأمريكية أكثر من الهند.
أهداب الاستشعار (الإعلام) في العواصم الغربية قد لاحظوا شعبية عمران خان لم تزل
كبيرة، ما أدَّى إلى نجاح معظم ممثليه في الانتخابات فيما أخفته مفوضية الانتخابات
والدولة العميقة، وصدرت تقارير دقيقة، تشير بجلاء إلى هذه الشعبية التي وُصفت في
كثير منها بـ«الجارفة»، «الهائلة»، «المذهلة». وبحسب مجلة إنترسيبت الأمريكية فقد
أرسل أكثر من عشرين عضوًا في الكونجرس رسالة إلى إدارة بايدن يوم الأربعاء (28
فبراير الفائت) يطالبون فيها بـ«عواقب ومساءلة في باكستان في أعقاب ما يُنظَر إليه
على نطاق واسع على أنه انتخابات مزورة هناك في وقت سابق من هذا الشهر».
وتدعو الرسالة، التي قادها النائب جريج كاسار، النائب الديمقراطي عن ولاية تكساس،
حكومة الولايات المتحدة إلى حَجْب الاعتراف بالحكومة الباكستانية الجديدة؛ ما لم
يتم إجراء مراجعة «شاملة وشفافة وذات مصداقية» لظروف انتخابات الثامن من فبراير.
على أن الموقف الأمريكي الإستراتيجي يخالف جذريًّا هذه الرسالة الدعائية؛ يقول
مايكل كوجلمان، مدير معهد جنوب آسيا في مركز ويلسون في واشنطن العاصمة قبيل إجراء
الانتخابات: «من وجهة نظر واشنطن، أي شخص سيكون أفضل من خان».
لا ترى واشنطن في خان، ماضيه «المنفتح» نسبيًّا، ولا سياساته الاقتصادية المتذبذبة،
وليست منزعجة من الأزمة الاقتصادية الباكستانية برمتها؛ بل بالعكس، هذا الضعف يُدني
القرار الباكستاني أكثر من الإرادة الأمريكية، يقول بروس ريدل، وهو مستشار سابق
لأربع رؤساء أمريكيين، ومحلل إستراتيجي سابق لـCIA:
«واشنطن لم تكن مسؤولة عن تقدُّم باكستان نحو الديمقراطية، لكنَّ إدارة أوباما، على
عكس بعض الإدارات السابقة، لم تُعرقله، وكان الرؤساء الأمريكيون في الغالب مغرمين
بالجنرالات الباكستانيين» [مقالة بالنيوزويك 20/1/2017م].
ويقول في لقاء متلفز حديثًا: «باكستان مهمة للغاية بحيث لا يمكن تجاهلها، ولكن
يمكننا رشوة الجيش الباكستاني للقيام بأشياء».
من «الأشياء» التي قال عنها ريدل آنفًا، ما ذكره الكاتب والإعلامي الأمريكي
الاستقصائي ريان جريم، في مقال له بعنوان: «لماذا أصبحت وزارة الخارجية الأمريكية
الآن في موقف صعب بشأن باكستان»: «خرج الناخبون الباكستانيون بأعداد تاريخية فاجأت
المؤسسة العسكرية. وكانت وكالة الاستخبارات الباكستانية القوية مستعدة لسرقة نتائج
الانتخابات المتقاربة، أو دفع شريف إلى فوزه الحتمي، لكنها غمرتها موجة تسونامي لم
تتوقع حدوثها. وفي خطأ فادح، سمحوا لمواقع الاقتراع الفردية بنشر إحصائيات الأصوات
الرسمية، والتي يمكن للأحزاب والمذيعين التلفزيونيين أن يقوموا بعد ذلك بإحصائها
بأنفسهم. ووفقًا لتلك البرامج الإذاعية، التي شاهدها الملايين من الناس، فاز مرشحو
حزب حركة
PTI
(أو المستقلون) بـ137 مقعدًا حسب الإحصاء الرسمي، في طريقهم إلى الأغلبية (هناك 342
مقعدًا في الجمعية الوطنية؛ ويتم شغل 266 مقعدًا عن طريق الانتخابات المباشرة). ثم
تحرّك الجيش وأغلق الموقع الإلكتروني للجنة الانتخابات، وأوقف فرز الأصوات.
واقتحمت قوات الجيش والشرطة مراكز الاقتراع. بدأ الإعلان عن أرقام خيالية، وفي بعض
الأحيان تم عكس المجاميع فقط؛ بحيث أصبح الفائز هو الخاسر. ومن الواضح أن المؤسسة
العسكرية لم تكن مستعدة لسرقة مثل هذا النصر المدوي، وأجبَر وضوح الاحتيال على
نتائج الانتخابات الساسة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، بما في ذلك وزارة
الخارجية، على التنديد به.
الذي أقلق واشنطن من خان، فعملت على الإطاحة بخان، ليس فقط ما قالته مجلة إنريسيبت
الأمريكية قبل عام، من أن واشنطن انزعجت من «حياد» رئيس الوزراء السابق حيال الأزمة
الأوكرانية، ورفضه انخراط الجيش الباكستاني في دعم أوكرانيا، واتخاذ موقف معادٍ
لروسيا. ليس هذا؛ فحسب، فهذا موقف يمكن تقبُّله لاحقًا، خصوصًا بعد أن أعرب خان عن
أمله بعلاقات جيدة مع واشنطن. خطيئة عمران الكبرى، كانت في ممارسته سياسة مستقلة عن
الدولة الحليفة الأولى لجيش بلاده، وترديده الدائم لحديث «الاستقلال»، والرغبة في
الشَّبّ عن طوق التبعية للولايات المتحدة الأمريكية.
لقد أوجد عمران خان حالةً من الشعور الديني والوطني المستقلين في باكستان، هما آخر
ما ترغب به واشنطن في هذا البلد الإسلامي الكبير، وأشعل حماس الجماهير حيال القضية
الكشميرية بشكل لم يسبق له مثيل مِن قبل، والأخطر أنه لم يقم بذلك بالتنسيق مع
الجيش الباكستاني الذي اعتاد أن يصنع رؤساء الحكومات، لا أن يُديروا سياساته.
* * *
المشكلة الأكبر الآن، أننا إزاء عدة شرعيات في باكستان شرعية الجيش الآخِذة في
التآكل شعبيًّا؛ حيث تشهد وسائل التواصل الباكستانية -بحسب ما رصدناه– ارتفاعًا في
حدة الانتقاد له بين جمهور تلك الوسائل، برغم أن الجيش لم يزل ممسكًا بزمام الأمور،
كما هو معتاد في باكستان، وشرعية عمران خان الجارفة، والتي تعاظمت بعد الانتخابات
إلى حدّ اضطرار «الدولة العميقة» للتمهيد للإفراج عنه في القضايا الملفقة ضدّه،
واستقطبت حتى بعض خصومه «الإسلاميين» (أنصار الجماعة الإسلامية وجمعية العلماء)،
وشرعية التحالف الصوري بين حزبي الرابطة والشعب اللذين يترجح أنهما سيتقاسمان
السلطة (الحكومة ورئاسة مجلس النواب لحزب الرابطة الإسلامية، ورئاسة الدولة ومجلس
الشيوخ لحزب الشعب).
تنازع الشرعية بين تلك القوى الثلاث مُفْضٍ إلى مزيد من الضعف والوهن في بنية
الدولة الباكستانية، والتي لا تعاني من الأزمة الاقتصادية الطاحنة وحدها، تلك التي
يتوقع أن تزداد انحدارًا في ظل حكومة هشَّة مقيدة، فاسدة، خاضعة لحكم أسرة شريف،
ورئيس اشتهر بالفساد والرشى وتبييض الأموال، وحُكم عليه مِن قبل في باكستان
وسويسرا، وتغلغل طائفي خبيث، واقتصاد واهٍ جعل باكستان المسلحة نوويًّا غارقة في
ديون خارجية تبلغ 140 مليار دولار، في حين يعاني الشعب من أعلى معدلات التضخم في
آسيا، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 38,5% على أساس سنويّ.
لا، بل إن ما يفوق الأزمة الاقتصادية، والهشاشة الحكومية، هو الضعف العام
الباكستاني أمام صعود الهند وتغوُّلها، وتماسك لُحمتها الهندوسية خلف قيادة يمينية
متطرفة ممسكة بزمام الأمور، وتتمتع بشعبية كبيرة، ولديها القدرة على تنفيذ مخططات
توسعية كبيرة، وطموح إمبراطوري يستند إلى قوة عسكرية نامية، واقتصاد واعد، واصطفاف
شعبي. فإذا ما مددنا الخطين، البائس هذا، لباكستان، الفتيّ للهند، على استقامتيهما
لأبصرنا من بعيد كشمير، وقد ابتُلِعَت، وأقاليم أخرى، وقد كادت.