خلال أكثر من ثلث قرن، لم يقم أحدٌ بهذا الدور أفضل من إيران وأدواتها من المليشيات الشيعية في الدول العربية، والتي أصبح الحوثيون طليعةً متقدمةً للمشروع الإيراني الذي يتقاطع في كثيرٍ من مساراته مع المشروع الصهيوني والأمريكي
بعد الضربات التي شنَّتها الولايات المتحدة وحلفاؤها مؤخرًا على مواقع عسكرية
للحوثيين في اليمن، كإجراء عقابي عن العمليات التي تقوم بها الجماعة في البحر
الأحمر تزامنًا مع العدوان الصهيوني على قطاع غزة؛ تتصاعد التوجُّسات على المستوى
الرسمي والشعبي من احتمالية توسُّع نطاق التصعيد، وربما خروج الوضع عن السيطرة.
لكن، هل بالفعل ترغب الولايات المتحدة في الذهاب أبعد من مجرد توجيه رسالة تبرهن من
خلالها على قدرتها على الردع، إلى الدخول في صِدام حقيقي مع الحوثيين يُفْضِي
-بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- إلى تجريدهم من بواعث قوتهم، وربما التعجيل في
إزاحتهم من المشهد نهائيًّا بوصفهم خصمًا لدودًا يُهدِّد أمن الكيان الصهيوني؟ أم
أن كليهما يُقدّم خدمةً للآخر على نحوٍ ما؟
الاعتقاد المتداول حاليًّا، ولا سيما في العالم الغربي، هو أن الولايات المتحدة
وبريطانيا تريدان تقليم أظافر الحوثي وكَبْح تهديداته للملاحة البحرية في البحر
الأحمر، لكنَّ هذا لا يُمثِّل من الحقيقة سوى الجزء العائم من جبل الثلج.
هذا الاعتقاد وإن كان في جزء منه صحيحًا بحكم مقتضيات المرحلة الراهنة؛ لكن يظل
وجود الحوثي في هذا الجزء من الجغرافيا (اليمن) أمرًا مهمًّا وإستراتيجيًّا بالنسبة
للولايات المتحدة وبريطانيا ومشروعهما في المنطقة، بصرف النظر عن معادلة الفعل وردة
الفعل التي طرأت مؤخرًا كمتغيرٍ ظرفيّ لا يؤثر على الدور الوظيفي الذي يلعبه الحوثي
وفق المنحى الذي تريده القوى الغربية.
فَهْم هذه الجزئية، يستدعي الوقوف على الحيثيات التي مكَّنت الحوثي من التحوُّل إلى
متغير مُهمّ في مسرح الأحداث الدولية، ومعلوم أن العامل الحاسم الذي منَحهم قدرة
على الفعل والتأثير، يكمن في امتلاكهم للطائرات المسيرة والصواريخ البالستية، وهو
سلاح فعَّال دخَل إلى ترسانتهم بهذا الزخم بعد عام 2018م، والمتفق عليه أن الجماعة
حصلت على هذه الترسانة ضمن الدعم الإيراني على المستوى التقني والعسكري، مستغلة
سيطرتها على ميناء الحديدة منذ عام 2014م حتى الآن، وهذه النقطة يجب أن نضع تحتها
أكثر من خط، حتى نفهم دور
«القوى
العظمى»،
وخصوصًا بريطانيا تحت غطاء الأمم المتحدة، في الوقوف حجر عثرة أمام أيّ بادرة وشيكة
لانتزاع الميناء من سيطرة الحوثيين خلال الحرب الداخلية في اليمن.
بريطانيا وممانعة إبعاد الحوثي من الساحل
قبل نحو خمس سنوات دفعت بريطانيا بكل ثقلها الدبلوماسي عبر مُواطنها مارتن غريفيث
الذي كان مبعوثًا للأمم المتحدة لدى اليمن، من 2018-2021م، وهي الفترة التي
استهلّها تزامنًا مع تقدُّم القوات المشتركة (حكومية) المدعومة من التحالف العربي،
نحو مدينة الحديدة التي تعد حجر الزاوية في معركة الساحل، والسيطرة عليها تعني حسم
60% من المعركة مع الحوثيين وعزلهم نهائيًّا عن كامل الساحل اليمني، وبالتالي قطع
الشريان الذي يُغذّي قوة الجماعة بالسلاح والخبراء والتقنيات وبعثات التدريب.
وبالفعل، كاد ذلك أن يحدث بعد أصبحت القوات اليمنية المدعومة من التحالف على بعد 15
كم من الميناء فقط، لولا الضغط الذي مارسته بريطانيا عن طريق المبعوث الأممي الذي
أبلى بلاء حسنًا في تبنّي مصالح السياسة الخارجية لبلاده؛ حيث لم يدّخر جهدًا في
تحريك المجتمع الدولي -الذي أصبح راهنًا قلقًا من هجمات الحوثيين- لفرض إيقاف
تقدُّم القوات الحكومية، ثم كلّل ذلك بالضغط على الوفد اليمني لتوقيع اتفاق
ستوكهولم، الذي شرعن بقاء مدينة الحديدة ومينائها تحت سيطرة الحوثيين.
بذريعة تفادي حدوث أزمة إنسانية قد تنجم عن احتمال توقف تدفق المساعدات الإنسانية
القادمة عبر ميناء الحديدة، وهذا التبرير يبدو ساذجًا إلى حدٍّ كبير لمن يعرف حقيقة
أن الحوثيين أنفسهم مَن يعيق وصول المساعدات الإنسانية؛ ما لم تكن على شروطهم،
ويستحوذون على معظمها.
وباستمرار بقاء ميناء الحديدة في حوزة الحوثيين؛ احتفظت الجماعة بأهم منفذ تَستخدمه
لاستقبال التقنيات والخبراء والأسلحة القادمة من إيران وحزب الله، إلى جانب إرسال
عناصر من الجماعة إلى طهران وبندر عباس لتلقّي التدريب في المجال العسكري، والأمن
السيبراني، وصناعة المتفجرات، وتجميع أجزاء الصواريخ التي تُشحَن من إيران، ويتم
تجميعها في اليمن.
هذه المعلومات ليست محض افتراضات انفعالية، وإنما وردت أكثر من مرة بالدلائل
(تحريات/ شهادات/ صور) في تقارير لجنة الخبراء المكلفة من الأمم المتحدة، والتي
جمعت إثباتات كثيرة تدين إيران بشكل مباشر، وبيَّنت تفاصيل مهمة في نوع وماهية
الأسلحة التي يتم تهريبها إلى الحوثيين، باستثناء أنها كانت تغضّ الطرف -عمدًا- عن
الإشارة إلى دور ميناء الحديدة في تدفق السلاح والخبراء إلى جماعة الحوثي والذهاب
إلى برهنة أنها تصل إلى اليمن برًّا عن طريق سلطنة عمان، ثم الأراضي اليمنية عبر
مهربين، وهو منطق مُضلِّل إلى حد كبير، لكنه ضروري بالنظر إلى حسابات ومصالح
«القوى
العظمى».
الحوثيون وتقاطع المصالح مع
«الشيطان
الأكبر»
يدلّنا ذلك على أن القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا، التي
تضج الآن بالتحشيد لكَبْح تهديدات الحوثيين في البحر الأحمر، لم تكن بمنأى عن
توقُّع سيناريو تحوُّل الحوثيين إلى قلق إقليمي مزمن حين ساهمت في إبقاء أهم بوابات
تسليحهم مشرعةً أمام المدد القادم إليهم من إيران. مع الإشارة إلى أن الولايات
المتحدة غضَّت الطرف عن استيلاء الحوثيين عام 2015م على شحنة أسلحة أمريكية بقيمة
نصف مليار دولار، تتضمّن أسلحة ثقيلة من بينها مدرعات ومروحيات وطائرات بدون طيار،
كانت وزارة الدفاع الأمريكية قد قدَّمتها مساعدات للواء 22 ميكا (يمني)، الذي
أعدَّته خصيصًا لمكافحة
«الإرهاب».
بالطبع ذلك لم يكن مودةً في الحوثي أو تقرُّبًا من إيران، بقدر علاقة ذلك بالمصالح
الغربية -والأمريكية تحديدًا- في المنطقة، بما يتلاءم مع تصوُّرها الجيوسياسي في
تشكيل توازنات القوة المنطقة؛ بإيجاد مُعادِل شيعي مسلح في الخاصرة الجنوبية
للجزيرة العربية كمفردة شاذة في محيط سُنّي، لبَذْر بواعث الصراعات البينية في
المنطقة العربية، وجَعْلها كيانات متنابذة، على نحوٍ يُعزِّز التبعية -بكل أشكالها-
للقوى الإمبريالية الغربية من جهة، وإطالة عمر الكيان المحتل من جهة ثانية.
وخلال أكثر من ثلث قرن، لم يقم أحدٌ بهذا الدور أفضل من إيران وأدواتها من
المليشيات الشيعية في الدول العربية، والتي أصبح الحوثيون طليعةً متقدمةً للمشروع
الإيراني الذي يتقاطع في كثيرٍ من مساراته مع المشروع الصهيوني والأمريكي، وإن بدا
أنهما على طرفَي نقيض.
هذا التقاطع في المصالح بين خصوم العلن، غالبًا ما يُفْضِي إلى تخادم مشترك بطرق
مباشرة أو غير مباشرة وشواهد ذلك كثيرة في حرب أفغانستان والعراق والحرب على داعش.
والمثير للسخرية، أن لويد أوستن الذي يشغل حاليًّا منصب وزير الدفاع في إدارة
بايدن، سبق أن أدلى بتصريحات -قبل توليه المنصب- يحضّ فيها على إمكانية بناء علاقة
مع الحوثيين وصلاحية جعلهم حلفاء محتملين للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب.
ماذا يعني اندفاع الحوثي لنجدة غزة؟
ما قد يبدو مفارقًا للمنطق، أن يهبَّ الحوثيون بكل اندفاعهم لنجدة مليوني مسلم
مُحاصَر في غزة، وهم أنفسهم الذين يحاصرون 7 ملايين إنسان يمني في مدينة تعز منذ 9
سنوات، قتلوا منهم 17 ألف مدني، أغلبهم من الأطفال والنساء بالقنص والقذائف
والألغام. هذا في مدينة واحدة فقط!
صحيح أنه لا يمكن إنكار أن العمليات التي نفَّذها الحوثيون في المياه الإقليمية
كان لها أثر اقتصادي ملموس على الكيان الصهيوني، واستبشر واحتفى بها أبطال المقاومة
الفلسطينية في وقتٍ خذَلهم فيه القريب والبعيد، لكن يحق لأحدٍ أن يسأل: بماذا يختلف
الحوثي عن الكيان الصهيوني إذا كان يقتل الأبرياء والأطفال ويعتدي على النساء
ويفجّر البيوت والمساجد والمدارس، ويحرم مليون ونصف المليون يمني في القطاع العام
من مرتباتهم منذ ثماني سنوات، ويمارس سياسة التجويع، ونادرًا ما يخرج أحد من سجونه
بغير إعاقة مزمنة أو مرضٍ عقلي، وفوق ذلك يستمدّ شرعيته من خرافةٍ عنصرية سلالية
يَفرضها على اليمنيين عنوةً وقهرًا؟!
والحقيقة أن وَثْبَة الحوثي من أجل غزة، لم تكن سوى فرصة للاستثمار السياسي
-كعادته- في أهم قضية جامعة للعالم الإسلامي (فلسطين)، ليس لكونها قضية عادلة،
فعدالة القضية ليست معيارًا مرجعيًّا لدى الحوثي، بل لأنها جاءت على مقاس ما يريد
لحيازة شرعية المقاوم، وتقديم نفسه كـ«بطل»
يقف مع المقاومة الفلسطينية في خندق الدفاع عن مقدسات المسلمين.
أما الضربات الأمريكية، فقد تلقفها الحوثيون كهدية منتظرة، أنقذتهم من الغليان
الداخلي في اليمن ضد استبدادهم السياسي والعنصري، وأوجَد لهم الذريعة لتشديد القبضة
الأمنية، وحَشْد التأييد الشعبي وإتخام خزائنهم بأقوات اليمنيين، فبعد يوم واحد من
إعلان الحوثي دخوله على خط المواجهة، قامت حكومته الصورية في صنعاء برفع أسعار
المحروقات والخدمات وجمع الجبايات الباهظة، والذريعة: غزة وفلسطين والقدس ومقارعة
«الشيطان
الأكبر».
أما على المستوى العملياتي والتأثير على القدرات الهجومية للحوثيين، فلم تُحقّق
الضربات الأمريكية البريطانية -المموَّلة من غير جيبها- سوى الضجيج وإلهاء الرأي
العام العالمي، ولو قليلاً، عن الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في
قطاع غزة، بعد أن صدمت وحشيتها العالم.
إلا إذا أخذنا في الاعتبار وجود أبعاد أخرى، فالولايات المتحدة وبريطانيا تعلمان
أكثر من غيرهما، أن الحوثيين ليسوا جيشًا نظاميًّا أو كيانًا مؤسسيًّا، وإنما
ميليشيا تنتهج إستراتيجية حرب العصابات، كما أن الأهداف التي تم قصفها في مناطق
سيطرة الحوثي، قد سبق قصفها عشرات المرات خلال السنوات الماضية من حرب الحوثيين مع
القوات اليمنية والتحالف العربي، عدا أن الحديث على المستوى الرسمي عن توجيه ضربات
على أهداف عسكرية للحوثيين، كان سابقًا لتنفيذ العملية بأيام، ولا يمكن قراءته غير
كونه تحذيرًا تعامل معه الحوثيون بمنتهى الجد والاستعداد.
لكن في المحصلة، لا شك أن الولايات المتحدة وحلفاءها من القوى الغربية، في الفترة
الحالية المتزامنة مع الحرب في غزة، تشعر بالانزعاج من عمليات الحوثيين في المياه
الإقليمية، لكنها حُجَّة مناسبة لتدويل مضيق باب المندب، دون التخلّي عن الرهان على
الدور الجيوسياسي الذي يُمثّله الحوثي لمشاريعها ومصالحها في المنطقة على المدى
البعيد، بوصفها كيانًا وظيفيًّا يؤدّي دورًا رديفًا لدور الكيان الصهيوني في ضمان
استمرار تفكُّك العالم العربي وتشتيت طاقاته. وقد تتغير كل العطيات السابقة إذا كان
هناك تنسيق حوثي مع القوى الكبرى الصاعدة مثل روسيا؛ ليكون لها موطئ قدم في الجانب
اليمني للمضيق، وتتحول الصرخة إلى شعار ذي نكهة بوتينية.