وبيان جماع الآية للخير والشر؛ فلأنها جمعت الأمر بفعل أصول التقوى الثلاثة: العدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وكذلك النهي عن أصول المعاصي والآثام الثلاثة: الفحشاء والمنكر والبغي، والتقوى منحصرة في الأوامر والنواهي
أسند الإمام الطبري في تفسيره إلى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال:
«إن
أجمعَ آيةٍ في القرآنِ لخيرٍ أو لشرٍّ آيةٌ في سورة النحل: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْـمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:
90][1].
هذا الأثر المقاصدي العظيم يكاد يُطْبِق على ذِكْره وإيراده جميعُ المفسرين عند هذه
الآية؛ فقد ذكَره الثعلبي والواحدي والسمعاني والبغوي وابن الجوزي والرازي
والبيضاوي وابن جُزي وابن كثير وأبو السعود وابن عاشور، وغيرهم.
ويُستدل له بقوله -تعالى-: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:
٨٣]؛ على التفسير بأن المراد بالكتاب هنا هو القرآن[2]،
وبحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا:
«ليس
منّا مَن لم يتغن بالقرآن»[3]؛
على تفسير أن المراد بـ«التغني»
الاستغناء بالقرآن عن غيره من الأخبار[4].
وبيان جماع الآية للخير والشر؛ فلأنها جمعت الأمر بفعل أصول التقوى الثلاثة: العدل
والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وكذلك النهي عن أصول المعاصي والآثام الثلاثة: الفحشاء
والمنكر والبغي، والتقوى منحصرة في الأوامر والنواهي[5]،
«فلم
يبقَ شيء إلا دخل فيها؛ فهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكلّ مسألة مشتملة
على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى؛ فهي مما أمَر الله به، وكل مسألة مشتملة على
فحشاء أو منكر أو بغي؛ فهي مما نهى الله عنه»[6]،
فانتظَم في الآية الأمر بجميع المصالح والزجر عن جميع المفاسد[7].
والأثر بإيجازه واختصاره يغرس في قلب المسلم عظمة القرآن، وأنه جامع لكل خير وناهٍ
عن كل شرّ؛ فتزداد النفس إقبالاً على القرآن وحفاوةً به. وغرس عظمة القرآن في
النفوس من أعظم أغراض الوعظ عند السلف.
كما أن الأثر يلفت نظر المتأمل إلى ما حوى القرآن من إعجاز تشريعي؛ ففي آية منه
يُردّ إليها جميع أصول الشريعة وكلياتها؛ كما مرَّ في النقول التي نقلناها عن أئمة
التفسير، وهذا كله بالإفادة من عموميات الآية (العدل)،
(الإحسان)،
(الفحشاء)،
وغيرها.
إنَّ جمال هذه الهداية يمتدّ ليظهر أيضًا في خُلق المسلم؛ كما يقول قتادة -رحمه
الله-:
«إنه
ليس مِن خُلُق كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من
خُلُق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقَدَّم فيه»[8]؛
فهذه الأخلاق الحسنة تدخل في عموم الخير الذي ذكره ابن مسعود -رضي الله عنه- في
أثره، وكذا ذِكْره لأصول الأخلاق السيئة.
فاللهم اهدنا لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت. وقِنا سيِّئ
الأعمال وسيِّئ الأخلاق، لا يقي سَيِّئها إلا أنت.
[1] تفسير الطبري (14/337).
[2] نقل هذا التفسير عن ابن عباس في رواية عطاء. يُنظر: التفسير الوسيط، الواحدي
(2/268)، واختاره بعض المفسرين: كالسمعاني في تفسيره (2/101)، الراغب في تفسيره
(1/330)، ابن عطية في تفسيره (2/290).
[3] أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، حديث رقم (7527).
[4] يُنظر: فتح الباري، ابن حجر (9/72).
[5] يُنظر: تفسير ابن عاشور (14/254).
[6] تفسير السعدي (ص447).
[7] يُنظر: قواعد الأحكام، العز بن عبدالسلام (2/189).
[8] تفسير الطبري (14/337).