وذكر المفسِّرون عند قول الله تعالى ذِكْره: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم}[النحل:47]، تنقيب عمر -رضي الله عنه- عن معنى التخوُّف؛ حيث أرسل إلى الأمصار يسأل عن معنى التخوُّف، حتى سمع فتى من العرب، قال له: «يا أمير المؤ
تُعدُّ الكلمة العربية وحدة بناء الكلام العربي، ومعلوم أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، وأنه جرى على وفق سَنَن العرب، وقانون تعبيرهم، فلهذا تُعدُّ الكلمة القرآنيَّة ركيزةً مهمَّةً في المسلك اللُّغوي عند فهم القرآن الكريم، وهي مفتاحه وركيزته المهمة.
أسند الإمام الطَّبريُّ في تفسيره عند قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام:125]؛ أنَّ عمر قرأ هذه الآية فقال -رضي الله عنه-: «ابْغُونِي رَجُلاً مِنْ كِنَانَةَ، وَاجْعَلُوهُ رَاعِيًا، وَلْيَكُنْ مُدْلَجِيًّا، قَالَ: فَأَتَوْهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا فَتًى، مَا الْحَرَجَةُ؟ قَالَ: الْحَرَجَةُ فِينَا: الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ الَّتِي لَا تَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وَحْشِيَّةٌ وَلَا شَيْءٌ. فَقَالَ عُمَرُ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ»[1].
فهذا الأثر العظيم يدل على اعتناءٍ ظاهرٍ بالتنقيب اللغوي عن مشكل القرآن من خلال الرجوع لأهل الاختصاص، ويُلحَظ فيه العناية العُمريَّة ببيان غريب القرآن وفق سنن العرب وألسنتهم، ومِن ثَمَّ الانطلاق من معناها اللُّغوي البديع إلى الهداية المؤثرة؛ «كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيءٌ من الخير»، وفي هذا الأثر بيانٌ للمورد الأول من موارد التَّنقيب عن مشكل القرآن لدى السَّلف، وهي لُغَات العرب ولهجاتهم.
وذكر المفسِّرون عند قول الله تعالى ذِكْره: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم}[النحل:47]، تنقيب عمر -رضي الله عنه- عن معنى التخوُّف؛ حيث أرسل إلى الأمصار يسأل عن معنى التخوُّف، حتى سمع فتى من العرب، قال له: «يا أمير المؤمنين: إن أبي يتخوَّفني مالي، فقال عمر: الله أكبر! ثم ذكر الآية»[2].
وفي هذا الأثر تأكيدٌ مهمٌ لأهل القرآن بتدبُّر معاني الآيات المشكلة، والتنقيب عنها عند أهل الاختصاص؛ فالقرآن نزل بلسانٍ عربي مبين، وينبغي لطالب فَهْم القرآن أن يكون دائم التَّنقيب في كتب اللُّغة؛ إذ هي العمدة بعد انقضاء عصر الاحتجاج اللُّغوي.
ومنه كذلك ما أسنده الطبري عند قوله -تعالى ذِكْره-: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر}[المدثر:4] إلى قتادة [ت: 117]، قال: «هي كلمةٌ من العربيَّة، كانت العرب تقولها: طهِّر ثيابك: أي من الذَّنب»[3]. وزاد في «الدُّر المنثور»: «كانت العرب إذا نكث الرَّجل ولم يُوفِ بعهده قالوا: إن فلانًا لَدَنِس الثياب، وإذا أوفَى وأصلح قالوا: إن فلانًا لَطَاهر الثياب»[4].
وهنا يبرز الرجوع إلى لسان العرب واعتماده في المعنى، وأخذ هذه الهداية العظيمة من دلالته عند العرب، وقد تضمَّن الأثر هدايةً قلبيَّة يلمسها المتدبِّر بقلبه، فإنَّ تمثيل الذنوب بأنها كالثياب أبلغُ ما يكون في التَّنفير عن الذُّنوب.
ومِمَّن ورد هذا المورد في التنقيب عن مشكل القرآن الحسن البصري [ت: 110]، كما في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان:63]؛ قال: «الهون في كلام العرَب: اللِّين والسَّكينة والوقار»؛ {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا}[الفرقان:63]؛ قال: «حلماء لا يجهلون، وإِن جُهل عَلَيْهِم حلِموا»[5].
وقد ابتدأ -رحمه الله- ببيان الغريب في الآية، ثم انتزع الهداية التدبرية، وهذا فيه منهجية للمتعلمين بضرورة العناية بالمشكل اللُّغوي؛ إذ إنه أول خُطوات ومراحل التدبُّر، وما بعده يُبنَى عليه، ولا يَخفى مكانة الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في اللُّغة.
وتنبع أهمية التَّنقيب اللُّغوي للمتدبِّر من كون اللُّغة هي الوسيلة للوصول إلى أسرار الكتاب وأنوار مواعظه، ولهذا علا مقامها؛ كونها وعاءً لمعاني القرآن وظرفًا لهداياته، ولهذا كتب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- يُوصيه بالتَّفقُّه في العربيَّة: «أمَّا بعد: فتفقَّهوا في السُّنة، وتفَّقهوا في العربيَّة، وأعربوا القرآن فإنَّه عربي»[6].
جاء في تعليل ذلك قول ابن تيمية [ت: 728]: «لأن الدَّين فيه أقوال وأعمال، ففِقْه العربيَّة هو الطريق إلى فقه أقواله»[7].
والتدبُّر هو القدح المعلَّى في فَهْم أقوال الدين، فلا يتأتى تدبُّرٌ بلا فَهْم، وهذا شرطٌ بَدهيٌّ في التَّدبُّر، وهذا الفهم موقوفٌ على فقه العربيَّة ومعرفة أسرارها بالقَدْر المطلوب الذي يتأتَّى معه الفهم السليم والعمل الصحيح.
[1] تفسير الطبري (9/544).
[2] تفسير مكي بن أبي طالب (6/4004).
[3] تفسير الطبري (23/407).
[4] الدر المنثور، السيوطي (8/325).
[5] الدر المنثور، السيوطي (6/274).
[6] مصنف ابن أبي شيبة، كتاب فضائل القرآن، ما جاء في إعراب القرآن (6/116).
[7] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ابن تيمية (1/528).