فالمرأة التي اعتادت البر بأبيها وإخوتها والإحسان إليهم وخدمتهم وطاعتهم؛ لا يصعب عليها أنْ تسير مع زوجها سيرة صالحة؛ لأنَّ ذلك يدل على معانٍ صالحة في نفسها ورجاحة في عقلها وعلى تصوُّرٍ صحيح لحقيقة الحياة
ستجد عددًا من الآيات الكريمات تُفصِّل في صفات الزوجة الصالحة، ثم ستجد هذه الصفات
مُجْمَلة في آية واحدة من كتاب الله؛ حيث قال الله -تعالى-: {فَالصَّالِـحَاتُ
قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]. وقد وردت
هذه الآية في سياق الحديث عن الزواج في سورة النساء، وقد اشتملت الآية الكريمة على
صفتين للزوجة الصالحة:
الصفة الأولى: أنها قانتة:
أيْ: مُطيعة لزوجها؛ كما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وسفيان[1].
والقنوت في أصله اللغوي يعني الطاعة[2].
فلا ترغب المرأة عن طاعة زوجها، ولا تَستعلي عليه، ولا تعصي أمره؛ ما لم يكن هذا
الأمر فيه معصية لله -تعالى-، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
«إنما
الطاعة في المعروف»[3].
ومقتضى طاعة المرأة لزوجها: اجتنابها لكل ما يَكرهه أو يُؤذيه، واستئذانه في كل ما
له به علاقة، وهو كثير في حياتها، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء من
ذلك؛ فيُقَاس عليه ما يشبهه، فقال:
«لا
تصوم المرأة وبَعلها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه»[4].
فإذا كانت المرأة يجب عليها أنْ تَستأذن زوجها في نوافل العبادات التي يمكن أنْ
يفوت بها حقّ للزوج؛ فما بالك بما هو دون ذلك، كالمباحات؟!
والصفة الأخرى: أنها حافظة للغيب
فهي تحفظ الزوج في غيابه؛ في سرّه، وفي ماله، وفي نفسها، وفي علاقاتها، وفي بصرها
وسمعها، وترعى حُرمته في غيابه كما ترعاها في حضوره، قال الطبري:
«حافظات
لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهن من حق الله في
ذلك وغيره»؛
وبه قال قتادة والسدي وعطاء وسفيان وأهل التفسير[5].
ذلك أنَّ بيت الزوجية لا يحسن حاله إلا إذا كانت الزوجة حافظة لزوجها في نفسها وفي
ماله وسرّه، وأين السكن والجمال في زواجٍ لا يثق الرجل فيه بقلب زوجته أو لسانها أو
بصرها وسائر جوارحها؟!
ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الزوجة الصالحة؛ فقال:
«خير
النساء التي تسرّه إذا نظر، وتُطيعه إذا أمر، ولا تُخالفه في نفسها ولا مالها بما
يكره»[6].
وقال:
«إذا
صلَّت
المرأة
خمسها،
وصامت شهرها، وحصَّنت فرجها، وأطاعت بعلها؛ دخلت من أيّ أبواب الجنة شاءت»[7].
بيد أنَّ هذه الصفات هي صفات للزوجة الصالحة، فلا يُتصوَّر أنْ تكون إلا بعد عقد
النكاح، أما حديثنا الآن فهو مختصّ بمعايير اختيار الزوجة. فما صفات هذه الزوجة
الصالحة قبل زواجها؟ وما الصفات التي ينبغي أنْ يتأملها الخاطب في المخطوبة؟ هذا هو
السؤال.
لقد كانت قصة موسى -عليه السلام- في مدين -والتي قصَّ الله تعالى تفاصيلها-؛ كاشفةً
عن صفات وأخلاق المرأة التي تصلح أنْ تكون زوجة صالحة، فإذا رجعنا إلى تلك الآيات
فسنجد الفتاتين قد تحلَّتا بعددٍ من الصفات والأخلاق؛ هي عمود الفسطاط وجوهر
الأنوثة وروح الجمال. قال -تعالى-: {وَلَـمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ
عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ
تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ 23 فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ
فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِـمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 24 فَجَاءَتْهُ
إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ
أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا
تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ 25 قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 23 -
26].
الدُّرَّة المكنونة
إليك -أيها القارئ- تلك الصفات التي رضيها موسى -عليه السلام- في المرأة لتكون زوجة
له:
أولاً: العمل في خدمة أهلها
قال -تعالى-: {وَلَـمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ
النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا
خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ
كَبِيرٌ} [القصص: 23].
كانت المرأتان بالقرب من ماء مدين، تريدان أنْ تسقيا لأهلهما الماء، وللغنم التي
معهما كذلك، فهما مُكلّفتان بسُقْيا البيت وسُقْيا الغنم ورعيها وتربيتها، ولا يخفى
ما في تربية الماشية من المشقة والعناء، فهما تذزدان، يعني: تحبسان وتمنعان
أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس، وتخلو لهما البئر، قال الحسن: تكفَّان الغنم عن
أنْ تختلط بأغنام الناس[8].
والغنم عند أهلها هي مالهم وسبيل معاشهم، ومنها غذاؤهم ومتاعهم.
وسعي المرأة في خدمة أهلها يتفق مع فطرتها السوية وديانتها الصحيحة، فلا تأنف من
أعمال البيت، ولا تترفع عن قضاء بعض الوقت في حاجة أهلها وإصلاح معاشهم، فهي جزء من
أهل البيت وعليها واجبات تجاهه ككل أفراد البيت في القيام بواجباتهم المختلفة.
والمرأة التي أَلِفت أعمال البيت؛ من إعداد الطعام، وتنظيف المكان واللباس والفراش،
وترتيب المنزل والأمتعة؛ لن تأنف من خدمة زوجها ورعاية بيته، بل ربما استعذبت هذه
الأعمال؛ لرجاحة عَقلها وسوية فطرتها وحُسن تبعُّلها.
وقد لا يعجب بعض النساء هذه اللفظة
«خدمة»؛
فتظن فيها شيئًا من التنقص والابتذال، وهو ظنّ باطل وتصوّر خادع، شوَّهه الإعلام
المعاصر الذي ما فتئ يحقر الفتاة الصالحة العاملة في خدمة أهلها وزوجها، ويُصوّرها
بأبأس الصور وأمقتها، ويغرس في الأذهان أنها مظلومة مُستعبَدة مُهانة! بينما طبيعة
الحياة مبنية على خدمة الناس بعضهم لبعض، في البيوت والأُسَر، وفي الدوائر
والمؤسسات، وفي الجهات الحكومية والأهلية، ولا يأنفون من كلمة
«خدمة»،
بل تُوجد في بعض البلدان مؤسسات عليا في الدولة تُسمِّي نظام العمل
«الخدمة
المدنية».
وكما أنَّ المرأة تَخْدم في بيت أهلها وزوجها، فإنَّ الرجل كذلك يَخْدم في خارج
البيت، وهذا هو العقل والنَّصَف والفطرة، ولذلك قضى سيد المنصفين وإمام الرحماء بين
بنته فاطمة وخَتَنه عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنهما- حين اشتكيا إليه الخدمة؛
فحكم على
فاطمة
بالخدمة الباطنة: خدمة البيت، وحكم على عليٍّ بالخدمة الظاهرة، قال ابن حبيب:
«والخدمة
الباطنة: العجين والطبيخ والفرش وكنس البيت واستقاء الماء، وعمل البيت كله»[9].
وكما أنَّ الرجل مطلوب منه شرعًا وعقلاً وفطرةً أنْ يسعى في الأرض لمعاشه ومعاش أهل
بيته؛ خدمةً لهم وكفايةً لهم عن الخروج من البيت؛ فكذلك المرأة: مطلوب منها الخدمة
في البيت.
فإذن؛ أول وَصْف يَجْدر النظر إليه في المخطوبة -بعد الإيمان كما سبق- هو العمل في
خدمة أهلها، فإنَّ المرأة التي لا تهتم بذلك، أو لا ترفع به رأسًا أو تأنف منه لا
تصلح أنْ تكون زوجًا يسكن إليها الزوج ويأنس بها ويأوي إليها، ولا تستجلب صفاء الحب
الذي سماه الله -تعالى-
«مودة».
وكيف يجد الزوج سَكنه في بيتٍ تنتشر فيه الأوساخ والروائح الكريهة؟ وأين تلمُّس
الجمال في طعامٍ لم تُعالجه يد الزوجة؟ وكيف تعبِّئ الزوجة ملابس الزوج وأمتعته
وطعامه ببصمتها وأثرها إذا لم تكن هي مَن يقوم عليها. قالت عائشة حبيبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
«فَتلْتُ
قلائدَ
بُدْن النبي صلى الله عليه وسلم بيديَّ، ثم قلَّدَها وأشعرَها وأهداها»[10].
فهل تظن أنَّ الرواية مقتصرة على معنى الخدمة المجردة من المشاعر وحركة النفس من
داخلها!
ثانيًا: البُعد عن مجامع الرجال ومواطنهم
فإنَّ المرأة الصالحة للزواج لا تتعمد الخروج إلى مجامع الرجال؛ ما لم تُلْجِئها
الضرورة -بغضّ النظر عن ابتذال لفظة
«الضرورة»-
فضلاً عن مزاحمتهم ومخالطتهم؛ لعلمها خطورة ذلك على نفسها.
وحين اضطرت المرأتان إلى الخروج للسقي والرعي لم تختلطا بالرجال، بل كانتا في منأى
عنهما، وحبستا الغنم بعيدًا إلى حين انتهاء الرجال من السقي، وفي هذا من التعب
والجهد ما فيه، ثم إنهما صرَّحتا بعدم مخالطتهما للرجال في أعمالهما، وأنهما ما
خرجتا أصلاً من البيت إلا لعدم وجود من يكفيهما العمل من الرجال، فهي حالة اضطرار
لا اختيار، قالتا: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا
شَيْخٌ كَبِيرٌ}.
فهنا أمران ذكرتهما المرأتان في خروجهما:
1- نفي مخالطة الرجال ومزاحمتهم؛ مهما كان الظرف قاسيًا، ولأجل ذلك فإنهما لا
تسقيان إلا مِن فضلة سقيا الرجال المتبقي في الأحواض والصهاريج المجاورة للبئر بعد
انتهاء الرجال وذهابهم[11].
2- نفي وجود الرجل من أهل البيت الذي يستطيع القيام بهذا العمل؛ مما اضطرهما لفعله.
والمرأة القارَّة في البيت تعمل بالأصل والفطرة؛ فإنَّ الأصل قرار المرأة في بيتها؛
عملاً بقول الله -تعالى-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: ٣٣]؛ وألا
تخرج إلى لحاجة ماسَّة مُلْجئة، فإذا خرجت فإنها لا تخرج إلى مع بنات جنسها، دون
أنْ تذهب إلى مجامع الرجال أو تسير بين أيديهم، قال -تعالى-: {وَلا تَبَرَّجْنَ
تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: ٣٣]، قال
مجاهد:
«كانت
المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك
تبرج
الجاهلية»[12].
وعندما حانت الفرصة لإعفاء المرأتين من الخروج من البيت للعمل خارجه؛ بادرت إحداهما
باقتراح رجل يعمل أجيرًا لذلك العمل بدلاً عنهما.
وحين رأى موسى ما عليه المرأتان من النَّأي عن مجامع الرجال ومواطنهم، قَبِلَ أنْ
يتزوج بإحداهما؛ لأنَّ الزوجة الصالحة هي التي تقصر نفسها على زوجها وأهل بيتها،
ولا تختلط بالرجال.
ثالثًا: البر بالأب والخضوع لقوامته:
فالمرأة التي اعتادت البر بأبيها وإخوتها والإحسان إليهم وخدمتهم وطاعتهم؛ لا يصعب
عليها أنْ تسير مع زوجها سيرة صالحة؛ لأنَّ ذلك يدل على معانٍ صالحة في نفسها
ورجاحة في عقلها وعلى تصوُّرٍ صحيح لحقيقة الحياة، وتأمل وجود هذا الرابط في قصة
هذا البيت، فإنك تجد أنَّ بنتَي الشيخ الكبير كانتا تعملان في خدمته، ولا يخرجان عن
طاعته وأمره.
والمرأة التي لا تَبَرّ والديها وتأنف من الخضوع لقوامته وتكره خدمة ذويها لا تصلح
أنْ تكون زوجة صالحة، فإنها لم تَعتد ذلك عند أهلها، ولا ترى فضلاً لأحدٍ عليها،
وتنفر من قوامة الولي.
ومن المُفارَقات التي لا يسندها المنطق: امرأة ترفض قوامة الزوج أو الأب، ثم هي لا
تُمانع من أنْ تعمل في دائرة أو مؤسسة يُديرها رجل؛ فتُبادِر إلى طاعته وامتثال
أمره وتسارع في إرضائه! ما هذا بالنَّصَف.
رابعًا: الحياء
وقد صرَّح القرآن بوجود هذه الصفة، قال -تعالى-: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا
تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا
سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25]؛ فحين أرسلها أبوها إلى موسى ليكافئه على خدمته،
جاءته وهي مستحيية في مشيتها، ولم تكن متبخترة ولا متثنية ولا مُظهِرة زينة[13].
ومستحيية في كلامها كذلك، فكانت كلماتها مُوجَزة ليس فيها ما يُخِلّ بالأدب ولا
خروج عن مقصود الحديث، قال بكر أبو زيد -رحمه الله-:
«وفي
الآية أيضًا من الأدب والعفة والحياء، ما بلغ ابنة الشيخ مبلغًا عجيبًا في التحفظ
والتحرز؛ إذ قالت: {إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ
لَنَا}؛ فجعلت الدعوة على لسان الأب؛ ابتعادًا عن الرَّيب والرِّيبة»[14].
هذه المرأة هي التي تصلح لأنْ تكون زوجة صالحة لزوجها؛ لما فيها من سويَّة الفطرة،
وصلاح الديانة، وكمال الأنوثة، وهي التي يسكن إليها الزوج، وهي المحبَّبة إلى
الرجال الأسوياء، فحياؤها يمنعها من بذل جمال مظهرها وجمال منطقها لكل أحد، بل
تقصره على الزوج الذي آثرته بذلك على من سواه.
والمرأة التي نزعت عنها كساء الحياء إنما تنزع عنها روح الأنثى المغروسة في فطرتها
بقدر ما تنزعه من الحياء ولا بد، ويصيب فطرتها التشوّه بمَيْلها إلى أخلاق الذكور
وطباعهم المتضمّنة للجرأة والإقدام والتقحُّم، ويتضاءل فيها جوهر السكن الأنثوي
الجذاب، ويتولد لديها الاستعداد النفسي لفعل ما يُستقبح فِعْله من الزوجات؛ وذلك
أنَّ الحياء خُلُق يبعث على فعل ما يُحمَد وترك ما يُستقبَح، فهو خيرٌ كله، ولا
يمكن أنْ يتولّد عنه إلا خير. فأنَّى لامرأة قليلة الحياء أو عديمته أنْ تكون زوجة
صالحة لزوجها!
خامسًا: الحجاب والاحتشام
فالحجاب مظهر من مظاهر الحياء، ودليل على الشرف والتعفُّف، وعلامة على صيانة المرأة
وديانتها؛ فإنَّ الباعث للمرأة لأنْ تضع حجابًا بينها وبين الرجال الأجانب حياؤها
منهم، وخشية من الوقوع في الفتنة، ونأيًا بجسدها أنْ يكون سلعة تتفقده أبصار
الرجال، واحترامًا لأوليائها الذين يغارون عليها من تلك النظرات، ولذلك ذكَر أهل
التفسير أنَّ حياء المرأة التي جاءت إلى موسى -عليه السلام- ظهر في تغطيتها لوجهها،
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
«مستترة
بكُمِّ درعها، أو بكمِّ قميصها».
وقال نوف البكالي:
«قد
سترت وجهها بيديها».
وقال عمرو بن ميمون:
«واضعة
ثوبها على وجهها»[15].
والحافظ ابن كثير يقول:
«تمشي
على استحياء مشي الحرائر»[16]،
في إشارةٍ منه إلى أنَّ عادة الحرائر من النساء والكريمات منهن وذوات الشرف هي ستر
الوجه فضلاً عن سائر الجسد، بخلاف الإماء فإنهن قد يكشفن وجوههن لأجل التفريق بين
الحُرَّة والأَمَة في مجتمع الشرفاء، وبها يختلف التعامل والتواصل، وقال السعدي:
«وهذا
يدل على كرم عنصرها، وخُلقها الحسن»[17].
فالحجاب وستر الزينة شرفٌ وارتقاء في الأخلاق ومروءة في المرأة، وهو معيار مطلوب في
الزوجة الصالحة.
والمرأة التي لا تلتزم الحجاب الواجب فإنما تُبيح للرجال الأجانب النظر في محاسنها
والتلذذ بذلك وتصعيد النظر في مفاتنها؛ فتُرَخِّص نفسها من حيث لا تشعر، ويصير
جمالها مشاعًا لكل ناظر، غير مقصور على الزوج، فضلاً عن كونها تستجلب الفتنة لنفسها
ولغيرها غير عابئة بالمخاطر، فأنَّى لامرأة تفعل ذلك أنْ تكون زوجة صالحة لزوجها
مقصورة عليه، وأنَّى له أنْ يجد فيها جنته وسكنه وهناءه، ذلك أنَّ فطرة الرجل تأبى
أنْ يشاركه في زوجه أحد، ولو كان بالنظر والكلام، إلا ما يكون من محارمها، وقد جعل
الله -تعالى- في فطرته الغيرة عليها، وركَّب على ذلك استعداده الفطري لحمايتها
والذود عنها والحفاظ عليها.
جمالات فوق الجمال
حبّ الجمال أمرٌ فِطريّ جعَله الله -تعالى- في نفوس الناس، والله جميل يحب الجمال،
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لا
يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»؛
قال رجل: إنَّ الرجل يحب أنْ يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنةً، قال:
«إنَّ
الله جميل
يحب
الجمال،
الكبر بطر الحق، وغمط الناس»[18]،
فالقلوب مطبوعة على محبة الجمال واستحسانه[19].
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بتلمُّس مواطن الجمال في المخطوبة؛ لأنَّ
للجمال سلطانًا على القلوب، فإذا وجد الرجل الجمال الذي يحبه في المخطوبة -وهو جمال
نِسبيّ قد يختلف من عين إلى عين- كان أدعى للائتلاف والمودة وإدامة العشرة، وقد ورد
ذلك في عددٍ من الأحاديث، منها ما رواه المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة، فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم :
«انظر
إليها، فإنه أحرى أنْ يُؤدَم بينكما»[20].
قال القرطبي:
«الأمر
بالنظر إلى المخطوبة إنما هو على جهة الإرشاد إلى المصلحة، فإنه إذا نظر إليها
فلعله يرى منها ما يُرغِّبه في نكاحها»[21].
ورغم حبّ الجمال وأهميته في التزويج؛ إلا أنه لا ينبغي أنْ يُقدَّم على ما سبق من
المعايير القرآنية المذكورة سابقًا، فيكون النظر إلى جمال الجوهر أولاً، ثم النظر
إلى جمال المظهر ثانيًا، كما قال -تعالى-: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن
مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221].
وعن
أبي
هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«تُنكَح
المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها،
فاظفر
بذات
الدين
تربت يداك»[22]؛
فكل ما ذكَره الحديث دواعٍ طبيعية للنكاح، وهي مقبولة أيضًا بشرط ألا تكون مُقدَّمة
على داعي الإيمان والديانة والأخلاق.
وما ذُكِرَ من المعايير السابقة هي الجمال الباطن الذي أشار إليه ابن القيم، فقال:
«إنَّ
المؤمن يُعطَى مهابةً وحلاوةً بحسب إيمانه، فمن رآه هابه ومن خالطه أحبَّه، وهذا
أمر مشهود بالعيان، فإنك ترى الرجل الصالح، الحسن، ذا الأخلاق الجميلة من أحلى
الناس صورة، وإنْ كان أسودَ أو غير جميل، ولا سيما إذا رُزِق حظًّا من صلاة الليل،
فإنها تُنوِّر الوجه وتُحسِّنه. وقد كان بعض النساء تكثر صلاة الليل، فقيل لها في
ذلك، فقالت:
«إنها
تحسن الوجه، وأنا أحبّ أنْ يحسن وجهي».
ومما يدل على أنَّ الجمال الباطن أحسن من الظاهر: أنَّ القلوب لا تنفك عن تعظيم
صاحبه ومحبته والميل إليه»[23].
ومن نوازل هذا العصر: تغريب ذائقة الجمال، أعني شيوع معالم الجمال الغربية في بلاد
المسلمين، وهي معايير فرضتها المؤسسة الإعلامية الرأسمالية لأغراض متعددة؛ إذ تشترط
في نجوم الفن ونجماته معايير محددة: في الطول والوزن واللون والمنظر والتقاسيم، ثم
تُقدم هذه النجوم والنجمات بوصفهم رموزًا للحب والحياة السعيدة والزواج، ونحو ذلك.
فكان لهذه المؤسسات أثر كبير في تغريب الجمال وتغيير الذائقة الأصيلة.
وواجب أهل الإسلام ألا يبالغوا في طلب الجمال الظاهر؛ فإنَّ الكمال عزيز، وهكذا
الحال في الرجال، والمكمَّلات هنَّ اللاتي خَلقهن الرحمن بيده في الجنة.
والمقصود من تلمُّس الجمال: الجمال النسبي، وهو الحُسْن الذي لا تردّه العين، ويجد
منه الناظر في قلبه حركة، ويتولد عنه الرغبة في اتصال الأبدان.
فالحمد لله الذي بيَّن لنا وهدانا، قال -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ
لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26].
[1] جامع البيان: 6/690-692.
[2] مقاييس اللغة (ق ن ت).
[3] أخرجه البخاري: ح7145، ومسلم: ح1840.
[4] أخرجه البخاري: ح5195، ومسلم: ح1026.
[5] جامع البيان: 6/692.
[6] أخرجه النسائي: ح3231، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: ح1838.
[7] أخرجه ابن حبان: ح4163، وصححه الألباني في صحيح الجامع: ح660.
[8] معالم التنزيل: 6/199.
[9] زاد المعاد: 5/262.
[10] أخرجه البخاري: ح1696، ومسلم: ح1321.
[11] انظر جامع البيان: 18/211.
[12] تفسير القرآن العظيم: 6/410.
[13] التحرير والتنوير: 20/103.
[14] حراسة الفضيلة: ص89.
[15] الآثار في جامع البيان: 18/218.
[16] تفسير القرآن العظيم: 6/228.
[17] تيسير الكريم الرحمن: 3/1277.
[18] أخرجه مسلم: ح91.
[19] روضة المحبين: ص321.
[20] أخرجه الترمذي: ح1087، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم96.
[21] الجامع لأحكام القرآن: 14/222.
[22] أخرجه البخاري: ح5090، ومسلم: ح1466.
[23] روضة المحبين: ص320.