• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
سياج وأسوار (1 - 2)

إن حياة المؤمن كلها ميدان للعبادة والتقرب إلى الله، سواء كانت في شعائر يُقيمها، أو في رزق يكتسبه الرجل، أو في رعاية تقدّمها المرأة، أو في غير ذلك، حتى باب الحلال من الشهوات، إذا كان كل ذلك يجري وفقًا لما رسمته الشريعة الغراء، ولم يُتعدَّ فيه حدود الله -تع


هل الإسلام يكبت غرائز الإنسان؟

هل الأحكام الشرعية تُضيِّق على الناس حياتهم؟

كلا وحاشا؛ فالإسلام لا يكبت الغرائز، وإنما يُنظّمها ويُوجّهها الوجهة الصحيحة، ويجعل منها جسرًا نحو المقاصد العلية الشريفة، والأحكام الشرعية لا تُضيِّق على الناس حياتهم، ولكنها تهديهم إلى أحسن الحياة، وتحميهم من كل ما يتسبّب في هدر طاقاتهم، ويسبّب لهم الحرج والعنت، فيحقق الزواج بهذا الوصف الحاجة الإنسانية والمقصد الشرعي في آنٍ واحد.

وبالتالي فإنَّ كتاب الله -تعالى- جاء مرشدًا للناس في حياتهم، يهديهم ويدلّهم. ومن ذلك ما كررته الآيات من تنبيه الناس ألا يتعدوا حدود الله -في سياق الحديث عن الحياة الزوجية وأحكامها-؛ منها قول الله -تعالى-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [البقرة: ٩٢٢]؛ وهذه الحدود هي الأوامر والنواهي الإلهية في موضوع الزواج والطلاق، وهذه الأحكام، كما قال القاضي ابن عطية: «هي المعالم بين الحق والباطل والطاعة والمعصية؛ فلا تتجاوزوها»[1].

ومراعاة الحدود الفاصلة بين ما يَحِل وما يَحْرُم هو الذي يرتقي بعقد النكاح، فيجعله من أجلِّ القُربات وأحسن الطاعات؛ فقد أخبر أبو ذر -رضي الله عنه- أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يُصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال صلى الله عليه وسلم : «أوليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهيٍ عن منكر صدقة، وفي بُضْعِ أحدكم صدقة». قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال صلى الله عليه وسلم : «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[2]. والشاهد هنا هو قوله صلى الله عليه وسلم : «وفي بضع أحدكم صدقة»؛ ومراده: مواقعة الرجل أهله، فإن الله -تعالى- يجعل فيها الأجر بحسب توضيح نبينا صلى الله عليه وسلم .

إن حياة المؤمن كلها ميدان للعبادة والتقرب إلى الله، سواء كانت في شعائر يُقيمها، أو في رزق يكتسبه الرجل، أو في رعاية تقدّمها المرأة، أو في غير ذلك، حتى باب الحلال من الشهوات، إذا كان كل ذلك يجري وفقًا لما رسمته الشريعة الغراء، ولم يُتعدَّ فيه حدود الله -تعالى-، قال تعالى: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].

فهلا أَجَلْنَا النظرَ في حدود الحياة الزوجية وتأمّلناها؟

في الجزء الأول هذا سنتناول حدود الله في الحياة الزوجية ذاتها. فكما أن الزواج يجعل كلًّا من الزوجين حلالًا للآخر ومحلًّا للاستمتاع؛ فإن الإسلام استثنى من كل ذلك الحلال صورًا وأنماطًا حرَّمها على الناس؛ لما فيها من المفسدة العائدة على الدين أو النفس، وأباح ما سواها وهو الأكثر، ومن أهم ما حذَّر الله -تعالى- منه:

الأول: حرّم الإسلام الجماع في نهار رمضان على الصائمين؛ لأنه خلاف مقصود الصيام الذي يعني الإمساك عن الشهوات، قال الله -تعالى-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْـخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْـخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْـمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم  إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكتُ. قال: «ما لك؟». قال: وقعتُ على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هل تجد رقبة تعتقها؟». قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟». قال: لا. فقال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟». قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينا نحن على ذلك أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم  بعَرَق فيها تمر -والعرق: المكتل- قال: «أين السائل؟». فقال: أنا. قال: «خُذها، فتصدَّق به». فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتيها -يريد: الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم  حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أَطْعِمْه أهلك»[3]. فتأمل تغليظ العقوبة والكفارة على مَن جامع وهو صائم في نهار رمضان.

الثاني: حرَّم الإسلام الجماع مدة الحيض، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْـمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْـمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: ٢٢٢].

والنصارى لا يتنزهون عن جماع الحائض، واليهود يتنزهون عن جماعها، وعن مؤاكلتها ومجالستها؛ تشديدًا على أنفسهم، فكان الإسلام وسطًا بينهما، فهو يحرم مُواقعتها، ويبيح الاستمتاع بكل شيء عداه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»؛ فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه[4].

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم  يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا حائض». وفي رواية: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم  كان يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن»[5].

وروى عروة عن ندبة قالت: «أرسلتني ميمونة بنت الحارث إلى امرأة عبد الله بن عباس، وكانت بينهما قرابة، فرأيت فراشها معتزلًا فراشه، فظننتُ أن ذلك لِهِجْران، فسألتها، فقالت: لا، ولكني حائض، فإذا حضتُ لم يقرب فراشي. فأتيت ميمونة فذكرت ذلك لها، فردتني إلى ابن عباس، فقالت: أَرغبةً عن سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  ينام مع المرأة من نسائه الحائض، وما بينهما إلا ثوب ما يجاوز الركبتين»[6].

لقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم  صورة جديدة مشرقة في المجتمع البشري لحال المرأة الحائض مع زوجها، تجمع بين التقوى المانعة من ارتكاب الحرام وبين إكرام المرأة؛ حتى وهي في حال حيضتها.

الثالث: حرَّم الإسلام الجماع في الدُّبر، وأباحه في القُبُل. ولذلك قال الله في الآية السابقة: {فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْـمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: ٢٢٢]. والجماع في القُبُل هو المقصود في قوله سبحانه: «حيث أمركم الله»؛ لأن الناس في الجاهلية كانوا يجامعون في الدبر إذا حاضت المرأة[7]، فأدَّب الله أهل الإسلام بالمنع من الجماع أثناء الحيض، والمنع من الجماع في الدُّبر مطلقًا.

والجماع في الدُّبر كبيرة من كبائر الذنوب، سواء كان ذلك في مدة الحيض أو في الطهر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ملعون من أتى امرأته في دبرها»[8]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى رجل أتَى امرأته في دبرها»[9].

وقد كان ذلك مقدمة لأفعال قوم لوط، فإنهم لم يخترعوا الفاحشة إلا بعد تساهلهم في الجماع في الدبر، فقد سُئل طاووس بن كيسان عن الرجل يأتي المرأة في دُبرها، فقال: «إنما بَدَأ قوم لوط ذاك؛ صنعه الرجال بالنساء، ثم صنعه الرجال بالرجال»[10]. ومقتضى هذا الأثر أن الجماع في الدُّبر مقدمة لعمل قوم لوط وللشذوذ الأخلاقي.

ويجب على المرأة أن تمتنع عن ذلك، وألا تطيع زوجها في انحرافه، وإلا فهي مُعاوِنة له وشريكة في هذه الكبيرة. ويجب على كل مَن قارف شيئًا من ذلك أن يتوب إلى الله توبةً صادقةً نصوحًا، فإن هذا الفعل من أعمال الجاهلين والمشركين، ومَن يتعاطاه فاسق مرتكب للكبيرة مُغيِّر للفطرة متَّبِع للشيطان.

قال ابن القيم في إشارة إلى مفاسد الجماع في الدُّبُر: «وإذا كان الله حرَّم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض -يقصد الحيض-، فما الظن بالحُشِّ -أي الدُّبُر- الذي هو محل الأذى اللازم -يقصد الفضلات-، مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل، والذريعة القريبة جدًّا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان. وأيضًا: فللمرأة حقٌّ على الرجل في الوطء، ووطؤها في دبرها يفوّت حقها ولا يقضي وطرها، ولا يحصل مقصودها. وأيضًا: فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يُخلَق له، وإنما الذي هُيِّئ له الفرج؛ فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعًا.

وأيضًا: فإن ذلك مُضِرّ بالرجل. ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم؛ لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقَن وراحة الرجل منه، والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كل المحتقن؛ لمخالفته للأمر الطبيعي. وأيضًا: فيضر من وجه آخر، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدًّا لمخالفته للطبيعة. وأيضًا: فإنه محل القذر والنجو، فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه. وأيضًا: فإنه يضر بالمرأة جدًّا، لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع، مُنافِر لها غاية المنافرة.

وأيضًا: فإنه يُحدِث الهمّ والغمّ والنفرة عن الفاعل والمفعول. وأيضًا: فإنه يُسوّد الوجه، ويُظلِم الصدر، ويطمس نور القلب، ويكسو الوجه وَحْشة تصير عليه كالسيماء يعرفها مَن له أدنى فراسة. وأيضًا: فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد. وأيضًا: فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فسادًا لا يكاد يُرجى بعده صلاح؛ إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح. وأيضًا: فإنه يذهب بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضدها؛ كما يذهب بالمودة بينهما، ويبدلهما بها تباغضًا وتلاعنًا.

وأيضًا: فإنه من أكبر أسباب زوال النعم وحلول النقم، فإنه يُوجب اللعنة والمقت من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه. فأيّ خير يرجوه بعد هذا! وأيّ شر يأمنه! وكيف حياةُ عبدٍ قد حلَّت عليه لعنة الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه، ولم ينظر إليه!

وأيضًا: فإنه يُذهب بالحياء جملةً. والحياء هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلب استحسن القبيح، واستقبح الحسن؛ وحينئذ فقد استحكم فساده. وأيضًا: فإنه يُحيل الطباع عما ركَّبها الله، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يُركّب الله عليه شيئًا من الحيوان. بل هو طبع منكوس، وإذا نُكس الطبع انتكس القلب والعمل والهدي، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والأفعال والهيئة، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره.

وأيضًا: فإنه يُورث من الوقاحة والجرأة ما لا يورثه سواه. وأيضًا: فإنه يُورث من المهانة والسفال والحقارة ما لا يورثه غيره. وأيضًا: فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء، وازدراء الناس له واحتقارهم إياه، واستصغارهم له ما هو مُشاهَد بالحس. فصلوات الله وسلامه على مَن سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به، وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به»[11].

الرابع: تحريم الرجل زوجته على نفسه. وهذا التحريم يقع بأمور، منها: الظهار، وهو أن يقول لزوجته: «أنتِ عليَّ كظهر أمي». وقد جعل الله على هذا القول عقوبة مغلظة، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ 2 وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِـمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 3 فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: ٢ - ٤]؛ فوصف الله هذا القول بأنه منكر وزور، وشدَّد عليه بالعقوبة المغلظة؛ لأن عقد الزوجية عقد مُحتَرم وميثاق غليظ يجب تعظيمه واحترامه.

ومنها: الحلف بالله ألا يجامعها مطلقًا أو ألا يجامعها مدة تزيد عن أربعة شهور، مُغاضَبةً منه، وهذا منكر عظيم، وظلم للمرأة، وتحريم لما هو مباح بغير إذن من الله -تعالى-، قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإن فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 226 وَإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226، 227]؛ قال ابن عباس: «كل يمين منعت جِماعًا فهي إيلاء». وبه قال الشعبي والنخعي ومالك وأهل الحجاز وسفيان الثوري وأهل العراق، والشافعي في القول الآخر، وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر والقاضي أبو بكر بن العربي[12]. وكفارته كفارة اليمين الواردة في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، ويُلزمه القضاء بعد أربعة شهور بالاختيار بين أمرين؛ حل اليمين والرجوع إلى جِماع الزوجة، أو الطلاق.

الخامس: مجانبة العدل بين النساء في المبيت والنفقة؛ قال تعالى: {وَإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٣]؛ قال ابن كثير: «أي: فإن خشيتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن، فيقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قَسْمٌ بينهن، ولكن يُستحب، فمن فعل فحسن، ومَن لا فلا حرج»[13].

ولا يُستثنَى من العدل بين النساء سوى ميل القلب ومفاضلة الحب؛ لأنها خارج دائرة التكليف بما يُطاق، ولا يستطيع الإنسان أن يجبر نفسه على التحكم في مستوى الحب، لكن ينبغي عليه ألا يؤثر ذلك على واجباته الزوجية وسلوك حياته؛ قال تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْـمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْـمُعَلَّقَةِ وَإن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 129]؛ قال ابن كثير: «أي لن تستطيعوا -أيها الناس- أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن حصل القسم الصوري ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم»[14]. وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»[15].

السادس: امتناع المرأة عن طلب زوجها لها في الفراش. وهو صورة من صور النشوز، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح»[16]. وفي رواية: «إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى ترجع»[17]. وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما: عبدٌ أَبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع»[18].

وكل صور النشوز محرمة؛ كخروج المرأة من بيت زوجها بغير إذنه، وكامتناعها من طاعته في أمر ليس فيه معصية، وكإهمالها له في بيته، وقد سبق الحديث عن ذلك في المقالة السابقة.

ومن صور النشوز المنتشرة اليوم: استبداد الزوجة بالدخول في مواقع التواصل الاجتماعي دون إذن الزوج أو رضاه، واعتقاد أن ذلك من خصوصياتها، وأنه لا يحق للزوج أن يتدخل في ذلك، وهذا غلط منشؤه الجهل غالبًا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم  نهى أن تُدْخِل الزوجة امرأة أو قريبًا لها إلى بيت زوجها بغير إذنه، فهذا من باب أولى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  في خطبة الوداع: «ولكم عليهن أنْ لا يُوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه»[19]. وقال صلى الله عليه وسلم : «خير النساء التي تسرّه إذا نظر، وتُطيعه إذا أمر، ولا تُخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره»[20]. وقد سبق تفصيل لهذا في مقال سابق.

السابع: جلوس المرأة مع أقارب الزوج بغير حجاب، ما عدا أباه وأبناءه، ومصافحتهم ونزع الحجاب في حضرتهم، فإنهم ليسوا ممن نص عليهم قول الله -تعالى-: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: ١٣]. وقد تظن بعض النساء أنه لا مشكلة في إخوة الزوج فتنزع حجابها، وربما صافحتهم بيدها، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم  خطورة هذا المسلك، فعن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «إياكم والدخول على النساء»، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت»[21]؛ في إشارة إلى خطره.

فهذه بعض سياج المودة وأسوار الحشمة التي ينبغي مراعاتها مِن قِبَل الأزواج، والله الهادي إلى الصراط المستقيم.


 


[1] المحرر الوجيز 1/308.

[2] أخرجه مسلم ح1006.

[3] أخرجه البخاري ح1946، ومسلم ح1111.

[4] أخرجه مسلم ح302.

[5] أخرجه البخاري ح297.

[6] أخرجه أحمد ح26819.

[7] جامع البيان 3/277.

[8] أخرجه أحمد ح9733.

[9] أخرجه النسائي ح8965.

[10] موسوعة التفسير المأثور 9/221.

[11] زاد المعاد 4/380-382.

[12] الجامع لأحكام القرآن 3/103.

[13] تفسير القرآن العظيم 2/212.

[14] تفسير القرآن العظيم 2/430.

[15] أخرجه أبو داود ح2134.

[16] أخرجه البخاري ح3237، ومسلم ح1436.

[17] أخرجه البخاري ح5194.

[18] أخرجه الحاكم ح7330، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح59.

[19] أخرجه مسلم ح1218.

[20] أخرجه النسائي ح3231.

[21] أخرجه البخاري ح5223، ومسلم ح2172.

أعلى