كان لظهور الصحافة العربية في الهند دور كبير في صيانة اللغة العربية، وتوسيع دائرة نفوذها، وتعزيز التواصل والاحتكاك بين الهند والبلاد العربية.
مدخل:
تحتل اللغة العربية مكانة مرموقة بين لغات العالم، وهي إحدى أكثر اللغات انتشارًا
واستخدامًا في العالم، ودراستها متواصلة منذ القدم في الهند وفي سائر أرجاء
المعمورة بوجه عام. أما العلاقات الهندية العربية فليست وليدة العصر الحالي، بل هي
ضاربة في القدم؛ بدءًا من العلاقات التجارية، وحتى العلاقات السياسية والثقافية عن
طريق الرواد والقادة العسكريين.
لقد احتضنت الهند من الثقافة العربية أكثرها، ومن الحضارة الإسلامية معظمها لمئات
السنين؛ حيث نمت العلاقات العربية الهندية نموًّا كبيرًا، وكان حمل رسالة الإسلام
من أكبر ما أسهم به العرب في تطوير الهند؛ حيث أدَّى تأكيد الإسلام على وحدانية
الله تعالى، وإيمانه بالعلاقات الأخوية بين الناس؛ إلى تطوير جديد للدمقراطية في
المجتمع الإنساني[1].
حيث رأت الهند منذ طلوع شمس الإسلام على أُفقها نشاطًا ملحوظًا في اللغة العربية في
كلّ العهود: العربي والغزنوي والغوري ودولة المماليك وعهد الخليجيين التغالقة
والعهد المغولي وعصر الاحتلال الإنجليزي، والعصر الحديث.
انتشار اللغة العربية في شبه القارة الهندية
للُّغة العربية في شبه القارة الهندية أبعاد مُتعدِّدة، فلها بُعْد تاريخي وإنساني
وثقافي وفكري ولغوي وأدبي وشعري، وتُشكِّل مشهدًا محترمًا مفعمًا بفاعليات ودلالات
في العديد من قطاعات الفكر والثقافة، فضلاً عن الأبعاد الكينونية والوظيفية
والجمالية، على أن اللغة العربية لم تكن لغة الدولة أو الجماهير إلا في عصر الإمارة
العربية في منطقة السند إثر الفتح العربي للمنطقة على يد محمد بن قاسم الثقفي
(92-96ﻫ/711-715م)؛ فعندما فتح محمد بن قاسم الهند جاء معه جماعة من العلماء؛ منهم:
ربيع بن صبيح البصري السعدي، وحباب بن فضالة التابعي، ثم قامت الحكومة الغزنوية في
الهند، وتلاها حكم الغوريون عشرين سنة، فكان من أبرز علمائها: الشيخ الحسن بن محمد
بن الحسن الصغاني، واستمر عهد الخليج التغالقة بعد العهد الغوري، وقد نبغ في ذلك
العصر الشيخ نظام الدين أولياء الذي كانت خطبته العربية مشهورة في باب التصوف
والسلوك، وقد ظهر الشاعر أمير خسرو الذي لُقِّب بببغاء الهند بقصائده الغراء، وقرض
أبياتًا لا مثيل لها في العربية.
وحكم المغول الهند مدة طويلة، وكان من أعلامها: الشيخ محمد طاهر الفتني، وملا
محمود الجونفوري، وبعد نهاية عهد المغول جاء عصر الاحتلال الإنجليزي، ونبغ فيه
العلامة فيض الحسن السهارنفوري، والعلامة فضل حق الخير آبادي، والعلامة شبلي
النعماني، والعلامة حميد الدين الفراهي، والعلامة نواب صديق حسن، والعلامة عبد
الحي، وآخرون. ثم جاء العصر الحديث فكان في طليعة الأدباء الشيخ أبو الحسن علي
الندوي، والعلامة مسعود عالم الندوي، والعلامة عبد العزيز الميمني، والعلامة محمد
زكريا الكاندهلوي[2]،
وغيرهم كثيرون، وإليهم يرجع الفضل في تطوير اللغة العربية في الهند.
وقد أنجبت الهند عددًا كثيرًا من العلماء والأدباء والشعراء الذين ساهموا في إثراء
اللغة العربية والأدب العربي، وخلَّفوا آثارًا مجدية نافعة، وخرج منها صفوة من
العلماء ولفيف من رجال الفكر والقلم؛ الذين لعبوا دورًا بارزًا في مجال التصنيف
والتأليف نثرًا كان أو شعرًا، ولا يسوغ بمؤلف أن يغضّ الطرف عن هذه الآثار الخالدة
ويبخس حقها، وها أنا أذكرها هنا بالإيجاز، مع تسليط الضوء على أهم إسهامات مشاهير
الهند وأعلامهم في المجالات المتنوعة التي أدَّت دورًا حيويًّا:
الحضور الإبداعي في فن التفسير
وإذا قرأنا التاريخ -قراءة الفاحص المدقق- نجد أن لمشاهير علماء الهند دورًا بارزًا
في مجال تأليف التفاسير لكتاب الله العزيز، وأشير هنا إلى أسماء بعض الكتب المهمة
منها: «تفسير تبصير الرحمن وتيسير المنان» لصاحبه علاء الدين علي بن إبراهيم
المهائمي الكوكني الشافعي (776-835ﻫ/ 1374-1431م)، و«التفسير المحمدي» للشيخ محمد
بن أحمد ميانجي بن نصير الغجراتي (ت: 982ﻫ/ 1547م)، و«التفسير المظهري» لمؤلفه ثناء
الله البانيبتي (ت: 1225ﻫ/ 1810م)، و«شؤون المنزلات» للشيخ علي المتقي البرهانبوري
(ت: 975ﻫ/ 1568م)، و«ترجمة الكتاب» للشيخ محب الله آبادي (ت: 1058ﻫ/ 1548م)، و«فتح
الخبير بما لا بد من حفظه في علم التفسير»، للشاه ولي الله الدهلوي (1114-1176ﻫ/
1702-1762م)، و«سواطع الإلهام» لأبي الفيض فيضي بن مبارك الناجوري الأكبر آبادي
(954-1004ﻫ)، و«غيض من فيض» للشيخ عبد الأحد بن إمام علي آبادي، و«فتح البيان في
مقاصد القرآن»، للأمير صديق حسن خان القنوجي (1248-1357ﻫ/ 1832-1889م)، وكتاب «نيل
المرام في تفسير آيات الأحكام» للأمير المذكور[3].
حظ الأحاديث النبوية في مجال التأليف
أما الأحاديث النبوية الشريفة فلا نجد مجموعة مطبوعة من كتب الحديث النبوي إلا ولها
ترجمة في اللغة الأردية، فالكتب الستة مترجمة بكاملها إلى الأردية، ولـ«صحيح
البخاري» 26 ترجمة، وأشهرها الترجمات التي قام أبو الحسن لاهور (1313ﻫ)، ووحيد
الزمان الحيدر آبادي (1323ﻫ)، ومرزا حيرت الدهلوي (1323ﻫ)، ولـ«صحيح مسلم» سبع
ترجمات، أشهرها ما قام به وحيد الزمان الحيدر آبادي (1305ﻫ) وأبو داؤد راز (1385ﻫ)،
ولكل من «جامع الترمذي» و«سنن أبي داود» و«سنن النسائي» و«سنن ابن ماجه» ترجمات
أُردية عديدة عملها أفاضل هنديون من أمثال فضل أحمد دلاوري (1309ﻫ)، وعبد الأول
(1950م)، ووحيد الزمان الحيدر آبادي (1305ﻫ)، وعبد الدائم الجلالي (1355ﻫ). كما
تُرجمت مجموعات أخرى من الأحاديث النبوية الشريفة من أمثال «مشكاة المصابيح»،
و«مشارق الأنوار»، و«شرح معاني الآثار»، و«بلوغ المرام من أدلة الأحكام»، و«مسند
الإمام أبي حنيفة»، و«رياض الصالحين» للنووي، و«الشفاء» للقاضي عياض، و«موطأ الإمام
مالك»، و«مسند الإمام أحمد»[4]،
وغيرها من المجموعات.
أما مؤلفات الهنود في الحديث النبوي الشريف، والتي أنجزوها باللغة العربية، فمن
أهمها: «لمعات التنقيح على مشكاة المصابيح»، للشيخ عبد الحق بن سيف الدين الدهلوي
(958-1052ﻫ/1551-1642م)، و«الحاشية على صحيح البخاري»، لأبي الحسن السندي (ت:
1183ﻫ/ 1727م)، و«المسوى» للشاه ولي الله الدهلوي، و«المحلى» للشيخ سلام الله (ت:
1129ﻫ/ 1716م)، و«مشارق الأنوار النبوية من صحاح الأخبار المصطفوية» للإمام حسن بن
الحسن الصغاني اللاهوري (577-650ﻫ/ 1174-1262م)، و«كنز العمال من سنن الأقوال
والأفعال» للشيخ علي المتقي البرهانبوري.
مؤلفات الهنود في الفقه الإسلامي
ويجدر بنا ذِكْر أهم إسهامات علماء الهند في مجال الفقه الإسلامي؛ منها كتاب
«الإنصاف في بيان سبب الاختلاف»، و«عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد» للشاه
ولي الله الدهلوي، وكتاب «فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين» لأحمد بن عبد
العزيز بن زين الدين بن علي بن أحمد المعبري المليباري الهندي (توفي بعد 991ﻫ/
1583م). وأما الشيخ محب الله بن عبد الشكور الحنفي البهاري (ت: 1119ﻫ/ 1707م) فمن
أظهر إسهاماته كتابه «مسلم الثبوت»، والشيخ أبو حفص سراج الدين عمر بن إسحاق الهندي
(773-1371ﻫ) له كتاب «شرح المغنى»، والشيخ عبد الحي الفرنكيمحلي له حاشية على
الهداية للشيخ المرغيناني، كما اشتهرت الهند أيام المغول بالفتاوى الهندية
العالمكيرية.
إسهامات مشاهير علماء الهند في السِّير والتاريخ
مؤلفات الهنود العربية في مجال التاريخ والسِّير كثيرة، ومن أهمها: «تحفة المجاهدين
في بعض أخبار البرتغاليين» للشيخ زين الدين بن عبد العزيز بن زين الدين المعبري
(توفي بعد 991ﻫ/ 1583م)، و«ظفر الواله بمظفر واله» للشيخ عبد الله بن عمر النهروالي
المعروف بحاجي دبير (946-1540ﻫ/ 1020-1611م)، و«السيرة المحمدية» للقاضي كرامت علي
بن فاضل محمد حيات علي، و«سبحة المرجان في آثار هندوستان» للعلامة غلام علي آزاد
البلجرامي (1116-1200ﻫ)، و«سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر» للشيخ علي بن
أحمد بن المعصوم (1052-1117ﻫ)، و«نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر» للعلامة عبد
الحي الحسني اللكنوي.
في مجال علمي النحو والصرف واللغة
اشتهر في علمي النحو والصرف واللغة مؤلفون هنديون، منهم القاضي شهاب الدين بن شمس
الدين الدولت آبادي (ت 849ﻫ/ 1445م) بكتابه «إرشاد النحو»، والشيخ حسن الصغاني
اللاهوري بكتابه «التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح الجوهري»، وكتاب
«مجمع البحرين في اللغة»، و«كتاب العباب الزاخر واللباب الفاخر»، والعلامة مجد
الدين الفيروزآبادي بعمله «القاموس»، والعلامة محمد مرتضى بن محمد الحسني البلجرامي
ثم الزبيدي (1145-1205ﻫ/ 1732-1791م) بتأليفه الشهير «تاج العروس في شرح القاموس»،
ومحمد علي التهانوي (ت 1158ﻫ) بكتابه «كشاف اصطلاحات الفنون»، والشيخ محمد بن أبي
بكر الدماميني (763-828ﻫ) الذي قضى حياته الأخيرة في غجرات والدكن، واشتهر بكتابيه
«تعليق الفرائد» و«المنهل الصافي بشرح الوافي»، والفيلسوف الهندي الشهير الشيخ محمد
بن محمد الجونبوري (973-1062ﻫ) بكتابه «الفرائد»، والشيخ فيض الحسن السهارنبوري
(1232-1304ﻫ/ 1816-1887م) بكتابه «رياض الفيض»، وهو شرح للمعلقات السبع.
في الشعر
أما الشعر باللغة العربية فليس عدد مَن تصدى له من الهنود بقليل في أغراض شتَّى؛ من
المديح إلى الرثاء والغزل ووصف الطبيعة، وغيرها من الأغراض الكلاسيكية؛ فقد اشتهر
في العصر الأموي شعراء من أصل هندي، منهم المخضرم أبو عطاء السندي (ت: 180ﻫ)،
واشتهر في العصور التالية عددٌ لا بأس به من الهنديين الذين قرضوا الشعر باللغة
العربية، منهم إبراهيم بن صالح الهندي (ت: 1099ﻫ)، وله ديوان شعر في مجلد ضخم،
والحكيم محمد مؤمن بن محمد (ت: 1118ﻫ)، والشيخ غلام نقشبند اللكنوي (1226ﻫ)، والشيخ
محمد باقر بن مرتضى المدراسي (ت: 1220ﻫ)، والشاه رفيع الدين الدهلوي (ت: 1233ﻫ)،
والشيخ عبد العزيز الدهلوي (ت: 1239ﻫ)، والشيخ أوحد الدين البلجرامي (ت: 1262ﻫ)،
وسيد علي بن أحمد المعروف بابن معصوم (ت: 1227ﻫ)، وحسان الهند السيد غلام علي آزاد
البلجرامي (ت: 1200ﻫ/ 1786م) الذي اشتهر بديوانه المعروف بـ«السبع السيارة»، والشاه
ولي الله الدهلوي (ت: 1176ﻫ/ 1763م)، وفضل حق الخير آبادي (ت: 1278ﻫ)، وغيرهم،
ولمعظمهم دواوين شعرية بين المطبوع والمخطوط[5].
صيانة اللغة العربية في الهند ودور الجامعات في تحقيقها
وأما دور الجامعات والمؤسسات والمدارس الحكومية وغيرها في خدمة لغة الضاد وصيانتها
في الهند فجدير بالإشارة والذكر، فقد أُنشئت في الهند، من أدناها إلى أقصاها، مئات
المدارس الدينية، وعُرفت بدورها البالغ في نشر العلوم والثقافة الإسلامية والعربية
في مختلف أدوار التاريخ، فلا تجد مدينة أو قرية في الهند إلا وفيها مدرسة أو مدارس
تُدرّس فيها العلوم الدينية واللغة العربية على حد سواء، ويتخرّج منها رجال أُفعمت
قلوبهم بحب العروبة وثقافتها.
وتزخر الهند حاليًا بأكثر من مئتي جامعة حكومية، وتوجد في عددٍ منها أقسام للدراسات
العربية والإسلامية، ومن أهم الجامعات التي تدرس فيها اللغة العربية، والتي اشتهرت
بإسهامها في التأليف وتحقيق المؤلفات العربية ونشرها: منها جامعة عليكرة الإسلامية،
وجامعة دلهي، والجامعة الملية الإسلامية بنيودلهي، وجامعة جوهر لال نهرو بدلهي،
وجامعة إفلو بحيدر آباد، وجامعة مولانا آزاد بحيدر آباد، وجامعة لكنؤ، والجامعة
الهندوكية ببنارس، وجامعة بتنه، وجامعة كلكته، والجامعة العثمانية بحيدر آباد،
وجامعة بومباي، وجامعة كاليكوت، وجامعة كيرالا، وجامعة كشمير، وغيرها[6].
وكان لظهور الصحافة العربية في الهند دور كبير في صيانة اللغة العربية، وتوسيع
دائرة نفوذها، وتعزيز التواصل والاحتكاك بين الهند والبلاد العربية.
الخاتمة
في نهاية المطاف تُعتبر الهند منذ آلاف السنين مركز إشعاع علمي وثقافي؛ حيث كان
يدرس بها الفلسفة والدين والطب والأدب والفلك والرياضيات وعلم الاجتماع، وغيرها،
كما تلعب الهند دورًا بارزًا في تنمية اللغة العربية وتطويرها منذ ظهور نور الإسلام
على أُفق بلاد الهند وسمائها، ومنذ استقرار الثقافة الإسلامية بشكل رسمي في الأرجاء
الهندية.
وفي العصر الحاضر توسَّع نطاق اللغة العربية وآدابها في ربوع الهند، لا سيما عندما
انتشرت شبكة المدارس الإسلامية؛ إذ تضم آلافًا من المعاهد والمدارس التي تقوم
بتعليم اللغة العربية وآدابها والعلوم الإسلامية وتراثها، هذا إلى جانب الجامعات
الحكومية والمؤسسات الرسمية العديدة التي تُعنَى بالبحوث الإسلامية في شتَّى
جوانبها. لقد اهتمت هذه المدارس والجامعات اهتمامًا كبيرًا بتعليم اللغة العربية
والعلوم الإسلامية؛ فلعبت ولا تزال تلعب دورًا ملموسًا في تطوير اللغة العربية
وآدابها في الهند.
[1] واقع اللغة العربية في الهند، الدكتور معراج أحمد معراج الندوي، شبكة المدارس
الإسلامية، كانون الثاني 2019م.
[2] مراكز المسلمين الثقافية والتعليمية والدينية في الهند، عبد الحليم الندوي،
مطبعة نوري المحدودة.
[3] صيانة اللغة العربية في الهند بين شهادة التاريخ والمشهد الراهن، الدكتور محمد
ثناء الله الندوي، موقع أهل السنة والجماعة بالهند، مايو 2011م.
[4] مجلة التلميذ، الدكتور منور حسين الندوي، مساهمة مشاهير الهند وأعلامها في
تطوير اللغة العربية وآدابها، ديسمبر 2017م.
[5] رجال السند والهند إلى القرن السابع، أطهر المباركفوري القاضي، المطبعة
الحجازية، 1377ﻫ.
[6] استراتيجيات التدريس: رؤية معاصرة لطرق التعليم والتعلم، حسن حسين زيتون، ط
2003م.