إن مما لا يختلف فيه اثنان أن الهند قد أنجبت عددًا كبيرًا من العلماء والفصحاء في شتى فنون العلم؛ حيث كان الكثير منهم أوحد زمانهم في الفن الذي هو متضلع فيه
تمهيد:
إن للهند مكانة مرموقة لا تُجْحَد في مجال العلم والمعرفة والحكمة والثقافة على مدى
القرون الغابرة حتى في هذه الأيام الجارية، كما أن لها مكانة مخصوصة في بعض
الأشياء. ولما أتى حين من الدهر ازدهرت الهند وأرصفتها بازدهار حكام المسلمين الذين
بنوا مجدًا شاهقًا وتراثًا حضاريًّا وبنيانًا تاريخيًّا؛ حيث قال المؤرخ العلامة
الشيخ علي الطنطاوي في تأليفه (رجال من التاريخ):
«نحن
الآن في الهند. في القارة التي حكمناها ألف سنة, في الدنيا التي كانت لنا وحدنا،
وكنا نحن سادتها في الفردوس الإسلامي المفقود، حقًّا: ولئن كانت لنا في إسبانيا
أندلس فيهـا عشرون مليونًا، فلقد كان لنا هاهنا أندلس أكبر، فيها اليوم أربعمائة
مليون؛ خُمس سكان الأرض، ولئن تركنا في الأندلس من بقايا شهدائنا، ودماء أبطالنا،
ولئن خلّفنا فيها مسجد قرطبة والحمراء؛ فإن لنا في كل شبر من هذه القارة دمًا
زكيًّا، وحضارة خيّرة وُشِيَت جنباتها، وطُرِّزت حـواشـيهـا، بالعلم والعدل
والمكرمات والبطولات، وإن لنا فيها معاهد ومدارس، كم أثارت عقولاً! وفتحت للحق
قلوبًا! ولا تزال تفتح القلوب وتنير العقول، وإن لنا فيها آثارًا تفوق بجمالها
وجلالها الحمراء، وحسبكم (تاج محل) أجمل بناء على ظهر الأرض»[1].
ولقد كانت مشهورة ببعض إنتاجاتها ومحاصيلها التي سارت بها الركبان حتى في العصور
الجاهلية؛ حيث تتضح تلك الصور في أشعارهم وقصائدهم. ولا يخفى على أحد له أقل نظرة
في الأدب العربي أن امرئ القيس الشاعر المشهور أحد عباقرة رجال الأدب وصاحب
المُعلّقة يقول فيها:
ترى بعر الأرام في عرصاتها
وقيعانها كأنها حب فلفل[2]
ومنها أيضًا قول عنترة المعروف:
الساق منها مثل ساق نعامة
والشعر منها مثل حب الفلفل
كان هذا الحَبّ -الفلفل بالخصوص- أحد أشهر المستنتجات الصادرة من الهند إلى البلدان
الأجنبية منذ القِدَم.
العلم والثقافة في ديار الهند
إن مما لا يختلف فيه اثنان أن الهند قد أنجبت عددًا كبيرًا من العلماء والفصحاء في
شتى فنون العلم؛ حيث كان الكثير منهم أوحد زمانهم في الفن الذي هو متضلع فيه.
وعددهم لا يُحْصَى، وتركاتهم العلمية ملأت مكتبات المدارس والجامعات، وكان من بينهم
أمثال الشيخ أبي الحسن الندوي الذي ليس بعيدًا عن زماننا الذي نحن فيه، وهو من هو
في أوصافه وعلومه.
ولقد كان للعلماء مكانة مرموقة في الدولة والحكم والقضاء؛ كما يقول الطنطاوي:
«وكان
للعلماء في دولة المماليك دولة أكبر منها، وكان لهم سلطان أكبر من سلطان الملوك،
ولقد روى أخونا أبو الحسن علي الحسني الندوي أن السلطان شمس الدين الألتمش الذي
دانت له البلاد كلها -وكان في القرن السابع الهجري-، وخضع له ملوك الهند جميعًا,
كان يستأذن على الشيخ بختيار الكعكي, فيدخل زاريته ويُسلّم عليه تسليم الملوك على
الملك، ولا يزال يكبس رجليه ويخدمه ويذرف الدموع على قدميه حتى يدعو له الشيخ
ويأمره بالانصراف»[3].
وهكذا الكثير منهم قد قاموا بأمور دعوية من تأليف وتصنيف ووعظ وإرشاد وإصلاح أمور
الدين، وما إلى ذلك؛ ومنهم الرجل العالِم الذي لا يزال على قيد الحياة -متَّعنا
الله به والعالم الإسلامي- رجل الدين، وناشر الوسطية والأكاديمي النابغ والثقافي
الماهر، والذي طبَّق منهجًا جديدًا لطلبة العلم على وجه بسيط وجميل. وشعار هذا
المنهج
«دين
لا يعطّل الدنيا، ودنيا لا تعطل الدين»؛
العالم الهندي الأول الذي تم انتخابه عضوًا تنفيذيًّا لرابطة الجامعات الإسلامية،
ألا وهو الشيخ عبد الحكيم الفيضي الهندي المليباري.
طفل يتيم وتوفيق الله العليم
وُلِدَ عبد الحكيم في قرية من قرى المليبار الواقعة في الجنوب الهندي لأب عالِم وأم
تقية ذات نَسَب، ولكنَّ أباه انتقل إلى رحمة الله تعالى قبل مولده بأشهر، وأمَّا
أُمّه فلم يَدُم ظلها طويلاً؛ حيث أصبح طفلاً يتيمًا يكاد أن يذوق طعم العدمين؛
اليُتْم والفقدان. ولقد كانت له عمة شفيقة رؤوفة به، كفلته وربّته تربية حسنة ورعته
كابنها الرحيم. وفي أثناء هذه الأيام ذهبت العمة به إلى سيدٍ جليل القدر -السيد
أحمد فوكويا[4]-؛
كي تطلب منه أن يدعو لهذا الطفل اليتيم فدعا له دعاءً يبارك له فيه.
وقد أنشدتُ عن هذا الموقف أبياتًا ومنها:
ما ودّعك رب الضحى في اليتم إذ
أمّا أبا كفٌّ العمومة ربّت
“يا
رب بارك في الصبيّ”
دعا له
السيّد المفضال قائدُ أمّة[5]
عودة إلى دعوة
بعد ما كان الشيخ عبد الحكيم في شبابه ومبادئ كهولته عاملاً في الخليج العربي؛ عاد
إلى بلدته تاركًا وراءه أعماله، عازمًا على حمل رسالة الدعوة إلى الله تعالى. وبعد
الوصول كانت نشاطاته الدعوية تبهر الجميع بالفعل على توفيق من الله تعالى، وكانت
الأمة المسلمة في ديار مليبار متطلعة للعلم شغوفة بأهله من العلماء العاملين
الأجلاء، ولكنهم كانوا يعانون من عدم تطبيق المناهج الجديدة المطابقة للعصر التي تم
تطبيقها في الأماكن الأخرى.
والشيخ عبد الحكيم الفيضي، منذ نعومة أظفاره في المساعي الدعوية قام بتكوين منهج
جديد يتمكن من تعلُّم العلوم الدينية والعلوم المادية العصرية تحت سقف واحد، وشعاره
«دين
لا يعطل دنيا، ودنيا لا تعطل الدين».
وبفضل الله العظيم وبتوفيقه أصبح هذا المنهج مدرسة دعوية تتفرع فروعها من كلية إلى
كليات، حتى كادت أن تتم مائة كلية عالية الجودة في مختلف الأماكن والمقاطعات
والمناطق في جنوب الهند.
المنهج الجديد ونهضة جديدة
بلدةُ الهند -خصوصًا في أقطارها الجنوبية- لم تكن تختلف عن البلدان الأخرى؛ حيث لم
يكن طلاب العلم يعتنون بعلوم الدين كما يهتمون بالعلوم المادية، وأكثر الشباب
والفتيات كانوا لا يلقون أنظارهم ولا يصرفون انتباههم إلى تعاليم دين الإسلام
ودروسه كما ينبغي النظر إليها.
فبفضل تطبيق هذا المنهج العلمي والتعليمي الجديد؛ أقبل الفتيان والفتيات على
الالتحاق بهذا المنهج، وازداد عدد المتقدّمين إليه من كل حدب وصوب. هؤلاء الشبان
الذين إن لم يحصلوا على هذا سيكونون أصحاب قِمار ومخدّرات وميسِر؛ أصبحوا يتعلمون
علوم الدين والدنيا تحت مظلة واحدة، يدعون الله تعالى ويعبدونه وحده في عشيهم
وضحاهم.
يا حبذا هذا المنظر الجميل!، والفضل كله لله أولاً، ثمّ لهذا العالم الجليل -عبد
الحكيم الفيضي- الذي كان يبيت في لياليه ساهرًا يفكر في تجديد المنهج وتحديثه
مطابقًا للعصر الراهن.
وسُمِّي هذا المنهج بلقب
«الوافي»
للبنين و«الوفية»
للبنات تحت تنسيق الكليات الإسلامية.
مائة كلية وشعارها
«الوسطية»
والشيخ عبد الحكيم الفيضي -كمنسّق لتنسيق الكليات الاسلامية- يقوم بأداء دوره في
الدعوة الإسلامية على وجهها الصحيح السليم من العيوب والتُّهَم؛ حتى تنتشر رسالة
الوسطية الإسلامية تطبيقًا للآية الكريمة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا لِتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا} [سورة البقرة: 143].
ولا شك أن مَن يمعن النظر في تاريخ جنوب الهند، وولاية مليبار بالخصوص، يتبين له
حقًّا أن هذا المنهج لا يوجد له مثيل يشمل مزاياه وأوصافه وسماته. وفوق ذلك, فإن
أكثر من ستة آلاف طالب وطالبة لا يزالون يطلبون العلم خلال المرحلة الثانوية العليا
وأقبلوا على البحث العلمي في مرحلتي البكالوريوس والماجستير على مستوى درجاتهم
ومراتبهم. وشعارهم جميعًا هي الوسطية التي جعل الله تعالى هذه الأمة عليها.
إن الآلاف الذين تخرّجوا من هذه الكليات حرصوا على حمل رسالة الإسلام إلى مختلف
البقاع داعين إليها عالمين بها. منهم الدكاترة والأكاديميون والكُتّاب والمصنّفون
والمحامون والأدباء والمترجمون. حصل العديد منهم على الدكتوراه من جامعة الأزهر،
وتخرجوا دعاة إلى الإسلام، وقام بعضهم بترجمة كتب عالمية مشهورة بأقلام المتخرجين
في مجال الأدب والعلم والتاريخ، ومن بعضها ترجمة الحكم العطائية لابن عطاء الله
السكندري إلى اللغة الإنجليزية، قام بها الباحث عبد النافع الوافي. وكتاب صور من
حياة التابعين لعبد الرحمن رأفت باشا من أصل لغتها إلى اللغة المليبارية ترجمها
الباحث رفيق الوافي، وروايات أخرى مليبارية (مشهورة من أصل لغتها إلى العربية) ومن
العربية كتاب
«ساق
البامبو»
إلى الملبيارية، وغيرها.
أسلوب بناء جيل علمي جديد
هناك آلاف الطلاب والطالبات لا يزالون يحرصون على تلقي العلم النافع وسلوك طريق
الرشاد، ويطبّقون معالم الدين في حياتهم الفردية والاجتماعية. وهذا المنهج مع ما
فيه من مزايا وخصائص يهدف إلى إخراج أمة بُنيت على الإحسان، وتأسيس جماعة مسلمة على
أسس الأمن والإيمان خلافًا للعصبية والتشدد والعنف، وإنما يتمثلون بدين سمح بسيط.
هذا الأسلوب الذي استخدمه الشيخ عبد الحكيم مُركّزًا على تثقيف الشباب وبناء جيل
المستقبل، هو الذي يحتاجه الناس في العصر الراهن، وتطلبه المجتمعات المعاصرة؛ فهو
أسلوب العلم التطبيقي الجامع بين علوم الدين والدنيا في نمط واحد تحت مظلة واحدة؛
حيث يجمع صاحبها بين القديم الصالح والقديم النافع وبين معارف الوحي والعلوم
الإنسانية.
من جهة أخرى فإن هذه الكليات الإسلامية ارتبطت بالمنابر الإسلامية العالمية كجامعة
الأزهر الشريف وجامعة القاهرة، وغيرها من الجامعات الأجنبية الدولية.
خاتمة
هذه المساعي الدعوية الجبارة التي أدت إلى نشأة الكليات الإسلامية ووصولها إلى
قرابة مائة كلية خلال نيف وعشرين سنة، في زمن اشتدت حاجة الراغبين إليها في ميدان
العلم والمعرفة والحكمة، إنها مسعى عظيم وعمل موفق عميم، والله تعالى نعم المولى
ونعم النصير.
المراجع والصور
1- موقع تنسيق الكليات الإسلامية:
http://wafycic.com/
2-
ÇáÔíÎ
ÚÈÏ
الحكيم الفيضي
3- الحرم الوافي - تنسيق الكليات الإسلامية:
4- الشيخ عبد الحكيم الفيضي في أحد المؤتمرات الدولية.
5- في مقر رابطة الجامعات الإسلامية
[1] رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي: ص16.
[2] من المعلقات السبع، امرؤ القيس.
[3] رجال من التاريخ للطنطاوي، ص19.
[4] السيد أحمد فوكويا كان أحد الأعلام والسادات والزعيم الروحي لمسلمي جنوب الهند.
وأبناؤه السادات هم الزعماء الروحيون للمسلمين الآن.
[5] هذه الأبيات قرضتها حين تم انتخابه عضوًا تنفيذيًّا في رابطة الجامعات.