الملاحظة الوحيدة في حالة التعطيل القائمة الآن هي أنه لا أحد يريد الانسحاب مجددًا، وفي نفس الوقت لا أحد يريد العودة للاتفاق دون تحقيق كل مطالبه، فلا أحد يريد أن يخسر، بالرغم من أنه لا أحد سيربح في ظل استمرار الوضع الراهن.
في عام 2015م، وبعد مفاوضات وُصِفَت بالماراثونية كانت قد بدأت في الأساس منذ عام
2006م، بين القوى الدولية (مجموعة 5+1) وإيران؛ خرج الرئيس الأمريكي الأسبق باراك
أوباما ليقول: إن الاتفاق النووي المعروف بخطة العمل المشتركة الشاملة
«يقطع
أيّ طريق أمام إيران للحصول على أسلحة نووية».
. حينها وصف نظيره الإيراني، حسن روحاني، الاتفاق بأنه يفتح
«فصلًا
جديدًا في علاقات إيران مع العالم»؛
إذ ستتمكن إيران من التعافي بعد رفع العقوبات الاقتصادية تدريجيًّا عنها، لكن لم
تمر سوى 3 سنوات حتى خرج دونالد ترامب معلنًا عن انسحاب بلاده من الاتفاق في 2018م،
وهو الأمر الذي دفَع إيران إلى التراجع عن التزاماتها المنصوص عليها في الاتفاق.
كان على العالم أن ينتظر حتى يأتي رئيس جديد إلى البيت الأبيض، حينها يمكن التفكير
جديًّا في العودة إلى الاتفاق بصيغته القديمة، أو حتى إدخال تعديلات عليه لتتلاءم
مع الأوضاع الجديدة، وهو ما حدث بالفعل مع قدوم جو بايدن إلى السلطة، ورغم أن
محاولات إنقاذ الاتفاق النووي لا تزال مستمرة، يتمترس كل طرف برأيه المدعوم بمطالب
يرفضها الطرف الآخر، كانت المفاوضات متوقفة منذ عدة أشهر؛ حيث يلقي كلا الجانبين
باللوم على الآخر في عرقلة الأمور.
الملاحظة الوحيدة في حالة التعطيل القائمة الآن هي أنه لا أحد يريد الانسحاب
مجددًا، وفي نفس الوقت لا أحد يريد العودة للاتفاق دون تحقيق كل مطالبه، فلا أحد
يريد أن يخسر، بالرغم من أنه لا أحد سيربح في ظل استمرار الوضع الراهن.
خـلفـيـة تـاريخـيـة
كان اتفاق 2015م التاريخي هو الإنجاز المميز في السياسة الخارجية لأوباما، لكن
عندما جاء ترامب إلى الحكم، كان له رأي آخر؛ إذ كان يرى الاتفاق
«معيبًا
في جوهره»،
وحذّر من أنه
«إذا
لم نفعل شيئًا خلال فترة قصيرة؛ فإن الدولة الراعية للإرهاب في العالم ستكون على
وشك الحصول على أخطر أسلحة في العالم».
هرع ترامب إلى فرض عقوبات صارمة على إيران؛ على أمل إجبارها على إعادة التفاوض من
أجل صفقة أفضل من وجهة نظره، وأملى وزير خارجيته، مايك بومبيو، 12 مطلبًا على
الإيرانيين بعد أسبوعين من انسحاب بلاده من الاتفاق؛ حيث أكد أن العقوبات ستظل
ماضية في التوسع ما لم يلتزم الإيرانيون بتنفيذ هذه المطالب.
لكنَّ الرد الإيراني كان مختلفًا؛ إذ قامت طهران بتخصيب اليورانيوم بشكل كبير بما
يتجاوز الحدود المنصوص عليها في الاتفاق، وضربت بمطالب بومبيو عرض الحائط، فهي لم
تتوقف عن تطوير أنظمة الصواريخ ذات القدرة النووية، ولم تُلْقِ بالًا لإنهاء الدعم
للجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط، أو تسحب جميع القوات التي تعمل تحت قيادتها من
سوريا، أو تُنهي سلوكها التهديدي ضد جيرانها، لم تَمتثل لهذه أو غيرها من المطالب
الاثني عشر، حاولت إدارة ترامب الإشارة إلى جدّيتها من خلال اغتيال اللواء قاسم
سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، في يناير 2020م، لكنَّ هذا لم يُغيِّر من الوضع
كثيرًا.
مع قدوم بايدن إلى السلطة قرّر أن يعود الاتفاق الذي تم إنجازه حينما كان نائبًا
للرئيس. وضعت المحادثات في فيينا خارطة طريق لهذه الجهود على الرغم من استمرار
التحديات؛ إذ تريد إيران من الولايات المتحدة رفع العقوبات أولًا، بينما تريد
الولايات المتحدة عودة إيران إلى الامتثال إلى قيود الاتفاق أولًا، وبين هاتين
الرغبتين ضاع الكثير من الوقت، وكان الجانبان يتبادلان الاتهامات والانتقادات.
كان بايدن يحاول إصلاح الضرر الذي تسبب فيه ترامب؛ لذا بذَل المزيد من الجهد
لاسترضاء الصقور المناهضين لإيران في الكونغرس أكثر مما بذل في المحادثات مع نظام
الرئيس الإيراني الإصلاحي حسن روحاني، وهو الرجل الذي وقَّع الاتفاق في الأصل؛ إلا
أن بايدن كان يعلم أن رئاسة روحاني لم يتبقَّ منها سوى 6 أشهر، وأنه من المرجَّح أن
يتبعه المتشدّد إبراهيم رئيسي؛ بالرغم من ذلك فإن بايدن تحرَّك لاستئناف المفاوضات
الجادة، وبعد أن حلّ
«رئيسي»
محل روحاني كما كان متوقعًا في بداية أغسطس من العام الماضي، اتفقت واشنطن وطهران
على مهلة مدتها 5 أشهر، بزعم منح إدارة
«رئيسي»
الجديدة الوقت للاستعداد للإسراع في هذه القضية، لتبدأ بعدها جولات جديدة من
المحادثات غير المباشرة والمباشرة.
تطوير إيراني مستمر
من الواضح أن إيران ليست في عجلة من أمرها لبناء أسلحة نووية فعلية، ولا أحد يكسب
بالتخلي عن المحادثات تمامًا؛ لذا فإن الإيرانيين قرّروا المواءمة بين الاستمرار في
تطوير برنامجهم النووي، والاستمرار في المحادثات مع الدول الغربية.
في يوليو الماضي، قال كمال خرازي، أحد كبار مستشاري المرشد علي خامنئي:
«إن
بلاده لديها الآن القدرة التقنية على إنتاج قنبلة ذرية»؛
نفس التصريحات كرّرها قبل أيام قليلة، محمد إسلامي، رئيس هيئة الطاقة الذرية
الإيرانية.
قد تكون هذه التصريحات صحيحة في ظل تقارير تتحدث عن تكديس طهران لمخزون من
اليورانيوم عالي التخصيب، وفي ظل هذا التقدّم المطرد في المعرفة التقنية الإيرانية،
يَعتبر كثيرون إيران الآن
«دولة
على العتبة النووية»،
أي دولة قادرة على صُنع قنبلة نووية إذا رغبت في ذلك، على الرغم من أن طهران تنفي
أيّ نية للقيام بهذا الأمر، إلا أن هذه الأنباء -بغض النظر عن دقتها- توفّر لإيران
نفوذًا كبيرًا، ويمكن أن تشجّع هذه الحالة دولًا أخرى تسعى لامتلاك أسلحة نووية،
مما يؤدي في النهاية إلى تمزيق معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية التي يبلغ عمرها
الآن 52 عامًا.
لا تكتفي إيران بالتصريحات؛ فقد بدأت في تنفيذ خطوات عملية؛ إذ منعت مفتشي الوكالة
الدولية للطاقة الذرية من الوصول إلى كاميرات المراقبة المثبَّتة في مواقعها
النووية، إلى جانب تفعيل المئات من أجهزة الطرد المركزي الجديدة والمتقدمة التي سبق
تركيبها في موقع نووي تحت الأرض في نطنز، هذه الأجهزة ستسمح لهم بتخصيب اليورانيوم
بنسبة تصل إلى 90 في المائة، وهو ما يكفي للرؤوس الحربية النووية، هذه الأجهزة
أيضًا قابلة للتعديل يمكن تبديلها بسهولة بين مستويات التخصيب المختلفة، تقول
إيران: إنها مُعدَّة حاليًا بنسبة نقاء 20 في المائة، بالرغم من أن الاتفاق النووي
قد حدّد الحد الأقصى للتخصيب المسموح به عند 3.67 في المائة، بمعنى آخر لقد تجاوزت
إيران الحد الأقصى بالفعل. وهذا يتماشى مع تصريحات المدير العام للوكالة الدولية
للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، الذي قال: إن إيران ماضية قُدمًا في برنامجها النووي
بحيث يصعب مراقبة أيّ نشاط لها، حتى لو تم التوصل إلى اتفاق جديد، مؤكدًا بأن لديهم
برنامجًا نوويًّا طموحًا للغاية، وأنه يمضي قُدُمًا بسرعة كبيرة جدًّا.
خصـوم الاتـفـاق
بينما يترقب كثيرون إعلان انتهاء المفاوضات والتوصل إلى اتفاق؛ ثمة مَن يطرح خيارات
معقدة حول ما يجب القيام به قبل ذلك، وبالرغم من وَفْرة التعهدات الموجودة بالصفقة
الجديدة، إلا أن هناك مَن يعارض كل ذلك.. إسرائيل تأتي في المقدمة؛ حيث ترى أن
الاتفاق لن يجدي نفعًا في منع إيران من امتلاك قنبلتها النووية، ولا يملّ القادة
الصهاينة من تكرار تصريحاتهم بأنهم سيفعلون كل ما هو ضروري لمنع إيران من امتلاك
القدرات النووية، يرغب الإسرائيليون في التوصل إلى خطة مشتركة مع الأمريكيين لزيادة
الضغط على إيران وتشديد العقوبات عليها، مع استمرار حربها المتزايدة لاستنزاف
الإيرانيين، بل وحتى توجيه ضربات عسكرية محددة في العمق الإيراني إذا استدعى الأمر
من أجل إفشال البرنامج النووي الإيراني تمامًا.
المساعي الإسرائيلية لتحقيق ذلك متواصلة؛ ففي منتصف يوليو الماضي، وقَّع بايدن
ورئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، إعلانًا مشتركًا ينصّ على أن الولايات
المتحدة ستستخدم جميع عناصر قوتها الوطنية لحرمان إيران من القدرة على تسليح نفسها
بأسلحة نووية، كما فرضت إدارة بايدن -بدعم من اللوبيات اليهودية في أمريكا- مزيدًا
من العقوبات على إيران، مستهدفةً بعض الشركات التي تربطها علاقات وثيقة بالبرنامج
النووي الإيراني.
في إيران نفسها، هناك معارضة شديدة أيضًا للعودة إلى الاتفاق؛ فالمرشد الأعلى علي
خامنئي يرى فيه وثيقة استسلام، وبالتأكيد لن يوقّع
«رئيسي»
على هذا الاتفاق دون مباركة
«خامنئي»،
لم يعلن خامنئي عن موافقته أو رفضه الاتفاق من قبل، لكنه كان دائم التعبير عن دعمه
للمفاوضين النوويين الإيرانيين، لكن من منطلق أن خامنئي هو صاحب القول الفصل في
جميع شؤون الدولة، ومنها البرنامج النووي؛ فإن الاتفاق السابق لم يكن ليُبْرَم دون
موافقة خامنئي الشخصية خلال المفاوضات، وبالتالي فإن مجرد التلميح بالمعارضة
للاتفاق الحالي يعني أن إتمامه قد يكون أمرًا مستحيلًا، وسبق أن وصف المتحدث باسم
الخارجية الإيرانية، ناصر كناني، المفاوضات بشأن الاتفاق الجديد بأنها
«مناقشة
وتبادل وجهات نظر»،
وهو ما يعني أن الأمر قد لا يغدو مجرد استنزاف للوقت، أو مطاوعة للرأي العام
العالمي الغاضب من تعنُّت الإيرانيين حيال التفاوض.
تردُّد بين الانسحاب والعودة
بغضّ النظر عن الرغبة والنوايا الحقيقية لجميع الأطراف بشأن العودة لإنجاز اتفاق
جديد، فإن الجميع مُطالَبون بالحفاظ على التظاهر بأن الاتفاق النووي -الذي مات
فعليًّا- لا يزال من الممكن إحياؤه؛ لأنه إذا تم الاعتراف بفشل المفاوضات، فسيتعين
على الدول الغربية وضع استراتيجية بديلة لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، هذه
الاستراتيجية ببساطة لن تعتمد على العمل الدبلوماسي، أو حتى العقوبات فقط، وبالتالي
سيكون الخيار الآخر الوحيد هو شنّ ضربات عسكرية أمريكية أو إسرائيلية، لكن من غير
المرجَّح أن تقضي على المنشآت النووية الإيرانية شديدة التحصين، كما أن آخر شيء
يحتاجه العالم في ظل الظروف الراهنة هي حرب أخرى، فالغرب بحاجة إلى التركيز على
مواجهة نفوذ الصين وهزيمة روسيا وليس إيران.
في ظل هذا الوضع تواصل القوى الأوروبية ضغوطها على إيران للتوقيع على اتفاق نووي
محدّث عن صيغته لعام 2015م، محذرةً مِن أن ما هو مطروح على الطاولة الآن هو أفضل ما
يمكن الوصول إليه.. تصريحات القادة الأوروبيين تعكس مخاوف متزايدة من أن الوقت ينفد
لإنقاذ الاتفاق، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى احتمالية أن تأتي الانتخابات النصفية في
الولايات المتحدة بكونغرس جمهوري يعود مجددًا إلى تنفيذ أجندة ترامب الرافضة
للاتفاق.
جوزيف بوريل، منسّق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، صرّح قبل فترة بأن
«مساحة
التنازلات المهمة قد استُنْفِدَت، النص المطروح الآن يُمثّل أفضل صفقة ممكنة في
متناول اليد».
أما وزيرة الخارجية الفرنسية، كاثرين كولونا، فقالت: إن
«العودة
إلى الامتثال الكامل للاتفاق ما زالت ممكنة، ولكن هناك حاجة إلى ردّ إيجابي من
إيران في أسرع وقت ممكن»؛
إلا أن رد الإيرانيين لا يأتي سريعًا، وفي الغالب يأتي دون أي إيجابية تُذْكَر؛
فطهران لديها تحفُّظاتها الخاصة بشأن المفاوضات، وبشأن الاتفاق عمومًا.
في المقابل قد ينظر القادة في طهران بتفاؤل إلى الانتعاش الاقتصادي المُرتَقب إذا
ما تم رفع العقوبات وتحرير أصولها المالية، فلا شك أن إنتاج وتصدير المزيد من
الطاقة من الدولة التي تمتلك ثاني احتياطيات الغاز الطبيعي عالميًّا، ورابع
احتياطيات النفط؛ سيكون له عظيم الأثر على اقتصادٍ عانَى لسنوات طويلة من التقشف
والعقوبات القاسية، لكنْ على الجانب الآخر ثمة خيار صعب، سيكون على إيران أن
تتخلَّى عن مكاسبها النووية، وهو ما يعني التضحية بالنفوذ التفاوضي الذي تراكَم على
مدى سنوات.
في النهاية على كل الأطراف الاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ؛ إما الانسحاب نهائيًّا
من الاتفاق، أو العودة إليه.