• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بيلوسي... ووجه الإمبراطورية

تكمن أهمية تايوان في موقعها الاستراتيجي الذي يربط شمال شرق آسيا بجنوبها، عبر مضيق تايوان وقناة باتشي، كما تُشكّل حلقة وصل مهمة من الجزر الاستراتيجية الممتدة من جزيرة ريوكيو اليابانية في الشمال إلى جزر الفلبين في الجنوب، فضلاً عن موقعها المُطِلّ على مضيق ت


«تايوان أخطر مكان على الأرض».

هكذا وصفت مجلة الإيكونوميست البريطانية الشهيرة منذ ما يقرب من عام تايوان؛ لما تمثله من معضلة للصين كما لأمريكا.

وبدا هذا الخطر أوضح ما يكون في بدايات هذا الشهر؛ حين أصرَّت رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بلوسي على إتمام زيارتها القصيرة إلى تايوان، رغم التهديدات السابقة مِن قِبَل الصين، والتي كانت تتمحور حول قيامها بتحويل الطائرة عن مسارها، أو إرسال طائرات مقاتلة لمرافقتها، حتى إنها وصلت إلى حد التهديد بإطلاق الصواريخ نحو الجزيرة أثناء الزيارة.

وانتهت الزيارة ولم تقم الصين بتنفيذ تهديداتها، فيما بدا بأنه نجاح الولايات المتحدة في إثبات قدرتها وهيمنتها.

ولكن هل انتهى السجال الدبلوماسي بين البلدين والتهديدات العسكرية؟ أم أنه أخذ منحًى آخر؟

فقد تواترت الأنباء عن قيام الصين بمناورات عسكرية ضخمة في مضيق تايوان، واخترقت السفن الصينية المياه الإقليمية لتايوان، كما اخترقت الطائرات المقاتلة الصينية أجواء الجزيرة، فيما أطلقت بكين عدة صواريخ مرَّت من فوقها، وردت أمريكا بإرسال حاملات طائراتها إلى المضيق التايواني... فيما يعده البعض بأنه نذير حرب بين أقوى دولتين في هذا العالم.

ويبقى السؤال: هل التصعيد بين الصين وأمريكا يدور بالفعل حول تايوان وقضية تبعيتها للصين؟

أم أن هذا النزاع بينهما يتجاوز تلك المسألة، ويتعداها إلى الصراع على مَن يريد الحفاظ على تربُّعه على قمة النظام الدولي، ويرغب في تحجيم كلّ مَن له طموح الصعود، ومَن يسعى إلى تغيير النظام الدولي ليجعله نظامًا متعدّد الأقطاب ليقفز بعدها على قمة العالم؟ وما سيناريوهات التصعيد تلك؟ وهل ستتحول إلى حرب على غرار الهجوم الروسي على أوكرانيا؟

للإجابة عن تلك الأسئلة؛ يجب علينا فَهْم أولاً كيف تكوَّنت مشكلة تايوان... ثم تحليل أهمية تلك الجزيرة بالنسبة لكلٍّ من الصين والولايات المتحدة، ومدى ارتباط تلك الأهمية بصراع القوى على النظام الدولي.

تايوان بين الجغرافيا والتاريخ

تلعب الخصائص الجغرافية لأيّ دولة أو منطقة دورًا حاسمًا في أهميتها، سواء في محيطها الإقليمي أو تأثيرها العالمي.

وتايوان جزيرة عبارة عن أرخبيل يزيد على 80 جزيرة، منها الكبير والصغير، أكبرها جزيرة تايوان التي سُمِّيت بها مجموعة الجزر من باب تسمية الكل بالجزء، تقع شرق آسيا قبالة الساحل الجنوبي الشرقي للصين وشمال الفلبين، وتسمَّى بشكل رسمي بجمهورية الصين وعاصمتها تايبيه، بينما الصين الكبرى المجاورة تسمى رسميًّا جمهورية الصين الشعبية.

ولكن نظرًا لاعتراضات الصين؛ يُطلق على تايوان اسم «تايبيه الصينية» في اللجنة الأولمبية الدولية ومنظمة التجارة العالمية.

تبلغ مساحة تايوان ما يقرب من 35 ألف كيلو متر مربع، مما يجعلها متوسطة المساحة بين مساحتي كلّ من بلجيكا وهولندا. ويحدّها بحر الصين الشرقي من الشمال، وبحر الفلبين من الشرق، ومضيق لوزون من الجنوب مباشرة، وبحر الصين الجنوبي من الجنوب الغربي، علمًا بأن هذه البحار هي جزء من المحيط الهادي.

تكمن أهمية تايوان في موقعها الاستراتيجي الذي يربط شمال شرق آسيا بجنوبها، عبر مضيق تايوان وقناة باتشي، كما تُشكّل حلقة وصل مهمة من الجزر الاستراتيجية الممتدة من جزيرة ريوكيو اليابانية في الشمال إلى جزر الفلبين في الجنوب، فضلاً عن موقعها المُطِلّ على مضيق تايوان، والذي يشرف على السَّاحل الصيني، والذي يُشكّل بحد ذاته تهديدًا للصين؛ لكونه يقيّد حركتها أثناء الأزمات، فهي تَبْعُد عن الصين بمسافة مقدارها 140 كيلو مترًا فقط.

ويبلغ عدد سكان تايوان ما يقرب من 24 مليون نسمة بحسب إحصاءات عام 2018م، وتُشكّل قومية الهان أكثر من 90% من سكانها، فضلاً عن القومية الأسترونيزية، وهم السكان الأصليون في جزيرة تايوان، ومن المعروف أن الهان يُشكّلون أكثر من 90% من الشعب الصيني في جمهورية الصين الشعبية المجاورة.

تزعم الصين أن تايوان جزء منها منذ القدم، وتَستدل على ذلك بكتاب المعجم الجغرافي للسواحل الذي تم تأليفه قبل 1700 سنة، والذي يَعتبره كثير من المؤرخين أقدم مرجع تاريخي عن تايوان، ولكن في عام 1624م احتلت هولندا جنوب تايوان، بينما احتلت إسبانيا شمالها عام 1626م، وفيما بعد قامت هولندا مقام إسبانيا في احتلال شمال تايوان عام 1642م، واستمر هذا الوضع حتى عام 1661م؛ إذ قام الصينيون بالتقدُّم نحو تايوان وطرد المستعمرين الهولنديين منها.

وفي عام 1894م شنّت اليابان حربًا ضد الصين استطاعت خلالها احتلال تايوان، وإخضاعها لإدارتها بموجب معاهدة شيمونوسيكي الموقَّعة بين الصين واليابان عام 1895م، والتي تنازلت الصين فيها عن تايوان لصالح اليابان.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، انسحب الجيش الياباني من الصين بعد استسلام الإمبراطور الياباني بأيام قليلة للأمريكان، ونتيجةً للمقاومة الصينية الشرسة.

ولكن دخلت البلاد في حرب أهلية مريرة، دارت بين الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ، وبين الحزب القومي الصيني بقيادة تشانغ كاي تشيك انتهت بانتصار الشيوعيين وتأسيس جمهورية الصين الشعبية وعاصمتها بكين عام 1949م، في حين لجأ تشانغ وأنصاره إلى تايوان وأعلنوا عن قيام جمهورية الصين وعاصمتها تايبيه.

النظرة الاستراتيجية الصينية تجاه تايوان

لا تعترف كلٌّ من تايوان (جمهورية الصين)، والصين (جمهورية الصين الشعبية) ببعضهما، بالرغم من أن هناك علاقات اقتصادية بين الجمهوريتين، ولكنّ حكومة جمهورية الصين الشعبية تقاطع أي دولة تعترف بجمهورية الصين (تايوان). لذلك تفضّل أغلبية دول العالم تبادل بعثات اقتصادية مع تايوان بدلاً من بعثات ديبلوماسية رسمية، مع العلم بأن تايوان واحدة من النمور الآسيوية الأربعة، ويحتلّ اقتصادها المركز السادس والعشرين على مستوى العالم.

منذ ثمانينيات القرن الماضي رفع الحزب الشيوعي الصيني شعار «دولة واحدة ونظامان»، وعبر هذا الشعار يسعى الحزب لضم تايوان إلى الصين؛ باعتبار أن الشعبين في كل من البلدين لهما نفس القومية، ويرتبطان بجزء من التاريخ المشترك، فضلاً عن الجوار الجغرافي، ولكنَّ النظام السياسي في كليهما مختلف؛ فبينما النظام السياسي التايواني ديمقراطي، ويتم فيه تداول السلطة ويتمتع الناس في ظله بحرية سياسية، نجد العكس في الصين الشعبية؛ حيث تسود ثقافة الحزب الواحد، ويتعرّض الناس للقمع والتنكيل كلما أرادوا أن يُعبِّروا عن رأي مختلف.

ولكن هل للصين طموح لتكون قوة عالمية تتربع على عرش النظام العالمي؟ وما موقع تايوان من ذلك الطموح؟

في كتابه الذي أصدره في عام 2010م تحت عنوان (الحلم الصيني) الذي نُشر باللغة الصينية؛ دعا العقيد في الجيش الصيني (ليو مبينغ) -وهو أستاذ في جامعة الدفاع الوطني ويدرّب الضباط الشبان في جيش الصين- إلى أن تتخلى الصين عن تواضعها فيما يتعلق بأهدافها على الساحة العالمية، وأن تتحدَّى الولايات المتحدة على الزعامة العالمية. وكتب ليو: «إن هدف الصين الكبير في القرن الحادي والعشرين أن تصبح رقم واحد في العالم (القوة العليا)». وأضاف: «إذا لم تتمكن الصين في القرن الحادي والعشرين من أن تكون رقم واحد في العالم؛ أي أن تكون القوة العليا فإنها ستصبح -حتمًا- مُهمَّشة».

ولكنَّ الصين مثل أي دولة تمتلك إمكانيات ذاتية والطموح لتكون دولة كبرى تسير في مسار وخطوات الصعود، وهي كالتالي: تجهيز الداخل وإحكام النظام السياسي لهذا الصعود، وتتعامل مع الخارج بسياسة يمكن تسميتها بصفر مشكلات، وبعدها تنتهز أيّ فراغ عالمي لتملأه وتوجد فيه، وأخيرًا تجيء لحظة التصادم لتفرض نفسها مع أو على القوى الأخرى العالمية، مع ملاحظة أن هذه المسارات قد تكون متوازية أو متعاقبة، ولكنَّ المسار الأخير وهو لحظة التصادم لا تنتقل إليها إلا بعد أن تكون قد أحكمت المسارات السابقة.

ولعل الاستراتيجي الصيني (دينغ سياوبينغ) قد عبَّر عن تلك المسارات بمقولته: علينا أن نراقب بروية، وأن نُحصِّن موقعنا ونتعامل مع الأحداث بهدوء، وأن نُخفي طاقتنا وننتظر وقتنا، ونكون جيدين في المحافظة على البقاء بعيدًا عن الأضواء، وألَّا ندّعي القيادة مطلقًا.

في البداية وفي عام 1978م استخدم المسؤولون الصينيون، مفهوم التطور السلمي للقوة الصينية، ولكن بعد ذلك بـ25 عامًا جرى وصف النهوض الصيني لأول مرة بالصعود السلمي، وهو في جوهره يعني الانتقال تدريجيًّا إلى مرتبة لاعب أساسي في العلاقات الدولية، ولكن دون تهديد أمن واستقرار النظام الدولي، وهو ما صرَّح به عام 2003م، رئيس وزراء الصين (وين جياباو) خلال زيارته الرسمية للولايات المتحدة حينها قائلاً: الصعود الصيني هو صعود سلميّ؛ لأن الصين تتطوّر بالاعتماد على قواها الخاصة، وفي مستوى العلاقات الخارجية أيَّدنا دائمًا علاقات التعاون والصداقة بين الدول المختلفة التي نعدّها دائمًا مثل إخوتنا وأخواتنا.

ولكن تُواجه الصين مشكلة كبيرة في طريق صعودها العالمي؛ وهي العلاقة والتوازن بين الساحل الصيني حيث الثروات، وبين الداخل الفقير، بين الخوف من الغزو الخارجي والذي يقتضي الانغلاق، وبين حيازة الثروات والتي تقتضي الانفتاح.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية غلّب زعيم الصين التاريخي ماو تسي تونغ سياسة الانغلاق على الذات، لكن جاء خليفته ماو دينغ تشاو بينغ فكان له رأي آخر، فهو الذي فتح الصين على العالم، ويعود الفضل له لما وصلت إليه الصين حاليًا، ويحاول الزعيم الحالي شي جينبينغ، التوفيق بين الانغلاق والانفتاح؛ من خلال اعتماد أيديولوجية وسطية تزاوج بين الشيوعية واقتصاد السوق. وقد أُطلق على هذه المقاربة الأيديولوجية اسم (الازدهار المُشترك). ففيها يُؤخَذ من الغني، لكن من دون تأميم ثروته، ويُعطَى المحروم مؤقتًا، وذلك بانتظار أن ينهض ليلحق بالرَّكْب.

ومع سياسة الانفتاح الخارجي استغلت الصين بُعْدَين جغرافيين استراتيجيين للسيطرة والهيمنة العالمية:

البُعد الأول هو بحر الصين الجنوبي: وهو بحر متفرّع من المحيط الهادئ، وتأتي أهميته بأنه يقع في نقطة التقاء طرق المواصلات البحرية الأكثر كثافة، بحركة السفن في العالم؛ كونه أقصر الطرق التي تصل بين المحيطين الهادئ والهندي؛ إذ إن نصف ناقلات النفط العالمية تمر عبر هذا البحر، وأغلبية هذه الناقلات تحمل المواد الأولية؛ كالنفط الآتي من الخليج العربي إلى دول جنوب شرق آسيا، وهو ما جعل بحر الصين الجنوبي يحظى باهتمام الدول الكبرى كما هو الحال مع الصين التي ترى ضرورة حماية هذا البحر من أيّ قوة أخرى، إقليميةً كانت أم دوليةً، يمكن أن تتسبب في تعطيل حركة الملاحة فيه؛ لارتباط ذلك بإمكان الضرر باقتصادها واقتصاد المنطقة عمومًا. وتمر عبر بحر الصين الجنوبي بضائع تجارية تُقدَّر قيمتها بـ3.5 تريليون دولار بينما تقدرها مصادر أخرى بما يقرب من 7 تريليونات دولار.

أما البُعد الجغرافي الثاني فهو طريق الحرير أو ما تُطلق عليه الصين مبادرة الحزام والطريق، وهو مشروع صيني عملاق تريد الصين من خلاله تسريع وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية بما في ذلك آسيا وأوروبا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية والوسطى، وهذا الطريق بالفعل تحاول به الصين السيطرة على طرق التجارة الدولية؛ حيث تصبح عبر هذه المبادرة شريكًا رئيسيًّا لحوالي 65 دولة يمر بها الطريق من خلال ازدهار الأسواق الناشئة، وتطوير إطار عمل البنية الأساسية الحديثة للنقل والطاقة والتكنولوجيا.

كما يعمل هذا المشروع على تمكين الصين من توريد البضائع بشكل أسرع وأرخص من ذي قبل، وهو ما سيُصعّب المنافسة في الكثير من المجالات، ويسمح للتجارة الصينية بتجاوز آثار الضرائب التي تفرضها عليها بين حين وآخر دول أخرى؛ خاصةً الولايات المتحدة.

هذان البُعْدان الجغرافيان يرتبطان بشكل وثيق بتايوان وموقعها الجغرافي، سواء بسواحلها التي تطل على بحر الصين الجنوبي أو مرور طريق الحرير، ولا تستطيع الصين التَّحكُّم في هذين البُعْدين إلا من خلال إعادة السيطرة على تايوان، أو على الأقل بَسْط نفوذها عليها.

أمريكا وتايوان

النظرة الأمريكية لأهمية تايوان قديمة؛ ففي عام 1954م وقَّعت الولايات المتحدة مع سلطات تايوان معاهدة الدفاع المشترك، وبمقتضاها وضعت أمريكا تايوان تحت حمايتها، وقد تسبَّبت تلك الخطوة بتوتُّر في العلاقات الصينية-الأمريكية وصلت عام 1957م إلى حدّ اقتحام الأسطول السابع الأمريكي لمضيق تايوان، ودخول الفرقة الجوية الثالثة عشرة للقوات الأمريكية تايوان والمرابطة فيها.

ولكن لاحتواء خطر الاتحاد السوفييتي عند اشتداد الحرب الباردة؛ سعت أمريكا لتحسين علاقتها بالصين؛ فكانت زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون إلى الصين في عام 1972م، والذي صدر عنها ما يُعرَف بالبيان المشترك الأول، والذي تم بموجبه التأكيد على أن الصين هي الحكومة الشرعية الوحيدة، وأن تايوان هي مقاطعة تابعة لها، وأن إعادتها إلى الصين هو شأن داخلي صينيّ لا يحقّ لأيّ دولة أخرى التدخل فيه، وفي عام 1978م، صدر البيان المشترك الثاني، وتم بموجبه اعتراف الولايات المتحدة بالصين بوصفها الدولة الشرعية الوحيدة للصينيين، وأنها ستحافظ على علاقات غير رسمية ثقافية وتجارية وغيرها فقط مع تايوان، وستقوم الصين والولايات المتحدة بتبادل السفراء وفتح السفارات.

إلا أن تلك العودة لتلك العلاقات لم تَدُمْ طويلاً، فبعد عام واحد سرعان ما أصدرت الولايات المتحدة قانون العلاقات مع تايوان، الذي ألغى بموجبه جميع ما جاء في البيان المشترك الأول والذي واصلت الحكومة الأمريكية استنادًا له بيع الأسلحة إلى تايوان.

وعقب تولّي الرئيس الأمريكي بايدن مقاليد السياسة الأمريكية في يناير 2021م، أعلنت إدارته ما عُرِفَ بوثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقَّت للأمن القومي الأمريكي، وهي تمثل أجندة الأولويات الاستراتيجية لتلك الإدارة، وتتألف الوثيقة التي تُغطّي جوانب أمنية عديدة من 24 صفحة تُشكّل التوجيه الرسمي العلني الأول الذي يصدر عن إدارة بايدن في هذا الشأن.

كانت أبرز التحديات التي تعرَّضت لها تلك الوثيقة: تداعيات جائحة كورونا، والانكماش الاقتصادي الحادّ، والتغييرات المناخية، والمنافسة مع روسيا والصين، والثورة التكنولوجية.

ونصَّت تلك الوثيقة على أن الولايات المتحدة يجب أن تُشكِّل مستقبل النظام العالمي؛ كون ذلك ضرورة مُلِحَّة الآن، كما ذكرت أن أمريكا لن تتردد في استخدام القوة عند الحاجة لذلك من أجل الدفاع عن مصالحها.

ولكنَّ المُلاحَظ في تلك الوثيقة والتي تقع في 24 صفحة، أنها تعكس أوزان اهتمام إدارة بايدن بما تُشكّله روسيا والصين من تحديات أمام تلك الإدارة، فقد جاء ذِكْر الصين فيها بشكل مباشر 18 مرة، في حين ذُكِرَت روسيا ستّ مرات، وهذا بلا شك يعكس أن أولوية تلك الإدارة هي التعامل مع الصين كأخطر تهديد للزعامة الأمريكية العالمية.

تاريخيًّا اتخذ أعداء الصين من تايوان قاعدة عسكرية لمهاجمتها، بدءًا من الأُسَر الصينية القديمة المتصارعة، وصولاً إلى الهجوم الياباني إبَّان الحرب العالمية الثانية، فلماذا لا تكون تلك الجزيرة ورقة أمريكا الأقوى في صراعها لتحجيم الصين، وتثبيط دوافعها للصعود والهيمنة؟

وهنا يُثَار السؤال الأهم: إذا كانت مجابهة التهديد الصيني أولوية لدى تلك الإدارة، لماذا صعّدت أمريكا صراعها مع روسيا في أوكرانيا؟ ألم يكن لها من الأنسب أن تسمح بتهدئة التوتر مع روسيا لتركز على ما حدّدته أنه الأخطر؟ لماذا تجابه الولايات المتحدة أعداءها مرة واحدة في نفس الوقت؟

يطرح الكاتبان الأمريكيان ليونارد ومايكل هوشبيرغ في موقع (ذي هيل) نفس هذا التساؤل، ويقولان: هل تستطيع أمريكا مواجهة حرب على أربع جبهات يشنّها محور الدول المستبدَّة؟

وبعد أن يستعرض الكاتبان بالتفصيل ما يمثّله التهديد الصيني والروسي والكوري الشمالي والإيراني على المصالح والهيمنة الأمريكية، يحددان أنه يجب على خبراء الأمن القومي تقييم سيناريو يقوم فيه أعداء الولايات المتحدة بفتح حرب على أربع جبهات: ضد أوكرانيا وتايوان وإسرائيل، ومهاجمة كوريا الشمالية جارتها الجنوبية من خلال استخدام السلاح النووي، فيما تقوم إيران بإغلاق مضيق هرمز. وستُرْفَق الهجمات العسكرية هذه بهجمات إلكترونية على البنى المالية في الولايات المتحدة. والسؤال: إن كانت الولايات المتحدة جاهزة لهذه الحروب المتتابعة، فهل ستستخدم السلاح النووي للدفاع عن حلفائها؟ وإن كان عليها اتخاذ قرارات حول أولوية النزاع الذي ستدخله، فأيّ منها ستختار أولًا؟

ويُختَم المقال بأنه لا مفرّ بأن تزيد أمريكا من قدراتها العسكرية، وخاصة حاملات الطائرات التي تجوب المحيطات، وتكون قادرة على توجيه ضربات صاروخية وجوية للدفاع عن حلفائها؛ حتى تحتفظ بمصداقيتها وهيمنتها.

مستقبل التنافس الأمريكي الصيني

هناك أسباب كثيرة تُرجّح كفة أنه لن تندلع حرب وشيكة بين أمريكا والصين:

أولاً: حجم وكثافة العلاقات التجارية والاقتصادية بينهما، والتي تخطت قيمتها 700 مليار دولار في عام 2020م، كما أن اقتصاد كلا البلدين يعاني من أزمات ضخمة.

ثانيًا: إن الصين لا تزال تأخذ مسار سُلّم الصعود للهيمنة بالتدريج الهادئ، ولم تتجاوز بعدُ إلى لحظة الصدام قبل أن تصل إلى النقطة المناسبة، وأعتقد أنها قد حدّدتها عندما تكون القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وهذا ما يتوقّعه الخبراء أنه سيحدث في حدود 2030، أي بعد 8 سنوات.

وبالرغم من ذلك؛ فإن خطوة بيلوسي لم تكن عشوائية أو تحرّك مسؤولة أمريكية عُرِفَ عنها العناد والصِّدام، ولكنْ أتت في إطار استراتيجية أمريكية لاحتواء الخطر الصيني على الزعامة العالمية الأمريكية، وإثبات أن أمريكا لا تزال هي القوة الأكبر على الساحة الدولية.

أعلى