لم يكن الموقف الغربي من الفاشر أقلّ نفاقاً من موقفه تجاه غزة. فالدول التي هرعت لتسليح إسرائيل، هي ذاتها التي تكتفي بالبيانات “المتعاطفة” مع السودان، بينما تغضّ الطرف عن تدفّق السلاح إلى قوات الدعم السريع، وتغطي عبر الإعلام العالمي على بشاعة ما يجري
                                            
                                        
                                        
                                            
تُبثّ صور الإبادة على 
الهواء مباشرة، من غزة إلى الفاشر، دون أن يرفّ للعالم جفن أو تهتزّ له ضمائر 
قادته. تُرتكب الجرائم ذاتها، وتُستخدم المفردات نفسها: 
“عمليات 
عسكرية”، 
“استعادة 
الأمن”، 
“حرب 
على الإرهاب”، بينما 
تُباد شعوب وتُمحى مدن من الوجود، في مشهدٍ واحد تتكرر فيه المأساة بأسماءٍ مختلفة.
لقد تحوّلت العدسات التي 
تنقل صور الدمار من غزة، والصمت الذي يغطي مذابح دارفور، إلى مرآتين تعكسان انحدار 
النظام الدولي إلى مرحلةٍ من التوحّش السياسي المُمأسس.
غزة: الإبادة تحت عين 
الكاميرا
منذ عامين كاملين، والعالم 
يشاهد الإبادة الجماعية في غزة في بثٍّ مباشر، دون حاجة إلى تسريبات أو تقارير 
سرّية. فكل بيت يُقصف، وكل حيّ يُسوّى بالأرض، وكل طفل يُنتشل من تحت الركام، كان 
صورةً دامغة على انحدار النظام الدولي إلى مرحلة التوحّش المشرعن.
تحوّلت غزة إلى مختبرٍ 
للقتل الحديث، تُختبر فيه الأسلحة الذكية على أجساد الفقراء، وتُختبر فيه قوة
“السردية 
الإسرائيلية” في 
تزييف الوعي العالمي، حتى صار الضحية يُحاكم على دمائه، والمحتلّ يُكافأ على 
جرائمه.
فمنذ أكتوبر 2023، شُنّت 
على قطاع غزة واحدة من أوسع الحملات العسكرية الإسرائيلية في التاريخ الحديث، أسفرت
– 
وفق تقارير الأمم المتحدة 
– 
عن مقتل أكثر من 42 ألف فلسطيني بينهم آلاف الأطفال والنساء، وتدمير ما يزيد عن 70% 
من البنية التحتية المدنية في القطاع.
وصف مقرر الأمم المتحدة 
الخاص بالأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، ما يجري بأنه 
“إبادة 
جماعية مكتملة الأركان”، 
وأكد أن إسرائيل 
“تستخدم 
التجويع كسلاح حرب”.
لكن العالم لم يتحرك. بل 
دعمت القوى الكبرى آلة القتل بالسلاح والغطاء السياسي.
الفاشر: غزة أخرى بصمتٍ 
دولي
وفي غرب السودان، تشتعل 
الفاشر، عاصمة شمال دارفور، على نحوٍ لا يقلّ بشاعة عن غزة. فهناك، تتجدّد المذابح 
العرقية التي تمزّق الجسد السوداني. قوات الدعم السريع، التي نشأت لمكافحة 
“التمرد”، 
تمردت فتحوّلت إلى أداة تفكيكٍ للدولة، تمارس الإبادة على أسسٍ قبلية وجهوية.
تسقط المدن واحدة تلو 
الأخرى، ويُهجّر السكان جماعياً، ويُباد المدنيون، في نسخة إفريقية من التطهير الذي 
شهدته البوسنة وغزة معاً.
|  | 
حين دعمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الحرب الإسرائيلية في غزة، 
كانت تبررها بـ“حق 
إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وحين صمتت أمام المذابح في دارفور، كانت تبرر 
ذلك بأنها “صراعات محلية معقدة”. | 
تقارير هيومن رايتس ووتش 
والعفو الدولية وثّقت نمطاً من الجرائم شمل الإعدامات الميدانية، وحرق القرى، 
واغتصاب النساء على نطاق واسع، معتبرةً أن قوات الدعم السريع تنفّذ 
“استراتيجية 
تطهير عرقي” تهدف 
للسيطرة الكاملة على دارفور.
ومع ذلك، ظلّ الموقف 
الدولي باهتاً. فلا تغطية إعلامية واسعة، ولا تحركات سياسية عاجلة، لأن دارفور ليست 
على 
“خريطة 
المصالح الاستراتيجية” 
للدول الكبرى.
تشابه الجرائم... واختلاف 
الجغرافيا
بين غزة والفاشر، تتقاطع 
خطوط النار، وتلتقي خيوط السياسة. ففي كليهما، تُستخدم الذرائع نفسها لتبرير 
الإبادة، وتُوظَّف الهويات القومية والعرقية لإدامة الصراع. ويقف العالم متفرّجاً، 
يزن المواقف بميزان المصالح.
لم يكن الموقف الغربي من 
الفاشر أقلّ نفاقاً من موقفه تجاه غزة. فالدول التي هرعت لتسليح إسرائيل، هي ذاتها 
التي تكتفي بالبيانات 
“المتعاطفة” 
مع السودان، بينما تغضّ الطرف عن تدفّق السلاح إلى قوات الدعم السريع، وتغطي عبر 
الإعلام العالمي على بشاعة ما يجري.
إنها الازدواجية ذاتها 
التي جعلت الضحية في غزة 
“إرهابياً”، 
والمجرم في الفاشر 
“قوة 
استقرار”.
لقد تجاوزت الإبادة في غزة 
والفاشر بعدها الجغرافي لتكشف انحدار القيم الغربية. فحين تُقصف المدارس في غزة 
وتُغتصب النساء في دارفور، بهذه الوحشية وهذا الصمت، فلم تعد فالمشكلة هنا في 
مرتكبي الجرائم، بل في منظومةٍ كاملة فقدت قدرتها على التمييز بين القاتل والضحية.
حين دعمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الحرب الإسرائيلية في غزة، كانت 
تبررها بـ“حق 
إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وحين صمتت أمام المذابح في دارفور، 
كانت تبرر ذلك بأنها “صراعات محلية معقدة”.
لكن الوقائع تفضح النفاق 
الأخلاقي: فالقنابل التي تمزّق أجساد الأطفال في غزة هي ذاتها التي تُصدَّر إلى 
إفريقيا، والصفقات التي تموّل الجيوش النظامية هناك تُستخدم لتغذية الميليشيات 
لاحقاً.
من الفاشر إلى غزة... دم 
واحد
الإبادة ليست حدثاً، بل هي 
بنية سياسية واقتصادية تُدار بعناية في الهامش العالمي. وما يجري اليوم في غزة 
والفاشر ليس صدفةً، بل حلقة في مشروعٍ أكبر يهدف إلى تفكيك المجتمعات المقاومة، 
وترويض الشعوب المتمسكة بكرامتها.
إن من يرى في غزة 
“صراعاً 
أمنياً” سيرى في 
الفاشر 
“نزاعاً 
قبلياً”، لكنّ 
الحقيقة أنّ الدم واحد، والمظلومية واحدة، وأنّ من ينجو من الموت في دارفور إنما 
ينجو ليشاهد الموت ذاته يُعاد بثّه من غزة.
الفاشر وغزة ليستا مجرد 
مدينتين منكوبتين، بل رمزان لمعنى واحد هو إنهما ضحايا لمشروع كبير يستخدم تلك 
الأجساد الممزقة كوقود.
ففي كلتيهما يُقتل الإنسان 
لأنه ينتمي إلى هويةٍ 
“مزعجة” 
لبقاء شعب متماسك أو مستمسك بأرضه:
إنّ المأساة الكبرى ليست 
فقط في الجريمة، بل في بثّها المباشر دون عقاب. أن يشاهد العالم الجثث على الهواء 
ولا يتحرك، فذلك يعني أن الإبادة لم تعد خرقاً للقانون الدولي، بل صارت جزءاً من 
سياسته.
خاتمة: ما بعد الإبادة
إنّ ما يجري من غزة إلى 
الفاشر يعبّر عن تحوّلٍ بنيوي في العلاقات الدولية: فبدلاً من الردع، بات العالم 
يُكافئ الجناة بالشرعية والدعم، ويحوّل الضحايا إلى متهمين.
ومع استمرار هذه الصيغة، 
فإنّ الإبادة لن تبقى استثناءً في التاريخ، بل قاعدة لإدارة 
“الهامش 
البشري” في 
الجنوب العالمي.
من غزة إلى دارفور، تتوحّد 
المأساة: دمٌ واحد، وجريمةٌ واحدة، وصمتٌ دوليٌّ واحد.
وإذا كان العالم قد سمح 
بأن تُباد غزة أمام الكاميرات، فهو يسمح اليوم بأن تُباد الفاشر في الظلّ. وبين 
البثّ المباشر والصمت الإعلامي، تسيل الدماء اليوم في غزة والسودان، من قبل كانت 
اليمن وليبيا وغدا من يدري بأي دماء سيضحى على مذبح المرحلة القادمة عنوانها الكبير 
"تقسيم والمقسم وتجزأة المجزأ" وتقزيم الكبار، وتعظيم الأقزام.