تكشف خطة "عربات جدعون" عجزًا ميدانيًا طال أمده، وفشلًا استخباراتيًا لم تتجاوزه تل أبيب، وأمام محاولات ترميم صورة الردع الإسرائيلي عبر استحضار سرديات الخلاص؛ يتم تغليف القتل والدمار بغلاف توراتي يجد صداه في جمهور داخلي بات يعيش حالة فقدان الثقة بالجيش والح
في خضمّ العدوان
الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، تبرز إلى السطح خطة عسكرية جديدة تُعرف باسم
"عربات جدعون"، وهي خطة مثقلة بدلالات توراتية ورمزية تشير إلى حروب شاملة وصراعات
وجودية. هذه الخطة ـ التي جرى تسريبها إلى وسائل الإعلام ـ لا تبدو مجرد مناورة
ميدانية أو تكتيكًا عابرًا لإنقاذ الأسرى الصهاينة كما تروّج له حكومة بنيامين
نتنياهو، بل تحمل مؤشرات واضحة على نوايا أوسع تتمثل في إعادة احتلال القطاع بشكل
طويل الأمد، عبر نشر عشرات الألوية من الاحتياط وتوسيع دائرة الهجوم البري بشكل غير
مسبوق، إنها خطة تتجاوز ما هو عسكري إلى ما هو سياسي، تتقاطع فيها حسابات الداخل
الإسرائيلي المرتبك، والضغط الأمريكي، وسيناريوهات اليوم التالي لحماس وغزة. فهل
تمثل "عربات جدعون" تحوّلًا جذريًا في بنية الحرب، بديلًا عن "السيوف الحديدية"؟،
هل ما يجري تحضيره هي خطة تطهير لغزة من أهلها بمباركة أمريكية؟، وما مدى واقعيتها
في ظل تزايد ضغوط الجبهة الداخلية في إسرائيل؟
جذور التسمية
التوراتية
لا شك أن اختيار اسم
"عربات جدعون" أو "مركفوت جدعون" للخطة الإسرائيلية الجديدة، لا يبدو أن الدافع محض
عسكري أو تنظيمي، بل هو تعبير عن رؤية إيديولوجية تنبع من المخيال اليهودي التوراتي
الذي طالما استُخدم كرافعة رمزية في مشاريع التوسّع والعدوان، "جدعون" في السردية
العبرية هو القائد الذي انتصر على أعداء إسرائيل بعد أن خفّض عدد جنوده، ليؤكد أن
النصر مرهون بالإيمان لا بالكثرة، أما كلمة "مركفوت"، أي "العربات"، تُعمّق هذه
الرمزية، فهي تُذكّر بأدوات الحرب الأسطورية ودبابات الميركافا الإسرائيلية
الحديثة، وهي آلات دمّرت منازل وأرواحًا مرارًا وتكرارًا في كل من غزة والضفة
الغربية،
واختيار هذا الاسم اليوم ليس عبثيًا، بل يأتي في سياق ترويج سردية في الداخل
الإسرائيلي مفادها أن ما يجري في غزة هي معركة وجودية يُستدعى فيها البعد العقائدي
لتبرير الدمار الهائل والقتل الواسع.
لكن المفارقة الكبرى أن
هذه العربات ـ التي توحي بالتحرّك السريع والحسم المفاجئ ـ تكشف عجزًا ميدانيًا طال
أمده، وفشلًا استخباراتيًا لم تتجاوزه تل أبيب رغم مرور أكثر من عام ونصف على بدء
تلك الحرب الشعواء، وأمام محاولات ترميم صورة الردع الإسرائيلي عبر استحضار سرديات
الخلاص؛ يتم تغليف القتل والدمار بغلاف توراتي يجد صداه في جمهور داخلي بات يعيش
حالة فقدان الثقة بالجيش والحكومة والمؤسسات، فـ "عربات جدعون" ليست مجرد عملية
عسكرية بحتة، بل عملية نفسية واستعراضية تهدف إلى استعادة الهيبة المتآكلة وردّ
الروح إلى صورة جيش الاحتلال الذي لطالما قدّم نفسه كـ "جيش لا يُقهر"، على النقيض؛
نجد تحليلات بعض الصحف العبرية الناقدة لسياسات نتنياهو ترى في هذه الخطة مغامرة
رمزية كما هي ميدانية، يختلط فيها الإيمان بالبارود، والتاريخ بالاستراتيجية،
واللاوعي الجمعي بالقرار العسكري، فيما تعتبرها أحزاب وقوى المعارضة محاولة يائسة
من نتنياهو وحلفائه اليمينيين لتبديل ميزان الفشل المتراكم عبر قصة خلاص توراتية
قديمة يُعاد إنتاجها على أنقاض غزة وأشلاء أطفالها.
أبعاد الخطة
العسكرية
بحسب ما تم الكشف عنه من
تسريبات؛ فإن خطة "عربات جدعون" هي خطة عسكرية ضخمة متعددة المراحل، وصفتها بعض
التقارير بأنها "الأكبر منذ الاجتياح البري للبنان عام 2006"، وتقترح هذه الخطة
تعبئة عشرات آلاف الجنود، وتوظيف معدات ثقيلة، وتكثيف الغارات الجوية والعمليات
الخاصة في قلب المناطق المكتظة، كما تتضمن دخولًا بريًا واسع النطاق يشارك فيه أكثر
من 60 ألف جندي بدعم من سلاح الجو والاستخبارات، وذلك تحت غطاء هدف معلن: استعادة
الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة، لكن وراء هذا الهدف الرسمي تختبئ أجندات
أمنية وسياسية أعمق، لا سيما أن الإعلان عن هذه الخطة ترافق مع تعثر محادثات
التهدئة، وتصاعد الضغوط الداخلية والخارجية على حكومة نتنياهو، مما يثير أسئلة حول
التوقيت والدوافع الحقيقية التي تقف وراء هذا التحول في المشهد العسكري والسياسي.
|
رغم أن خطة "عربات جدعون" تبدو محاولة لإعادة ترميم الردع الإسرائيلي، إلا
أنها ولدت في بيئة داخلية مأزومة تعاني تصدعات عميقة بين المؤسسات السياسية
والأمنية |
بعد موافقة مجلس الوزراء
الأمني
بالإجماع
على الخطة في 6 مايو، أعلن بنيامين نتنياهو عنها في رسالة فيديو دون توضيح كامل
لتفاصيلها، واكتفى بالقول: "هناك أمر واحد واضح: لن يكون هناك دخول وخروج، سنستدعي
قوات الاحتياط للمجيء، لن ندخل المنطقة ثم نخرج منها، ثم نشن غارات بعد ذلك، هذه
ليست الخطة، النية هي عكس ذلك"، من الواضح أن خطة "عربات جدعون" تعيد تدوير العقيدة
الأمنية الإسرائيلية الراسخة، تلك التي ترى أن القوة المجردة قادرة على فرض الواقع
على الأرض، بالرغم من أن هذه العقيدة اصطدمت مرارًا في غزة بحقيقة مغايرة:
فالمقاومة متجذرة، والأنفاق والمباغتات والهجمات المضادة تجعل أي اجتياح أرضي
مكلفًا إلى حد لا يُحتمل.
أعداد الجنود والآليات
التي كُشف عنها تشير إلى ما هو أبعد من ذلك، إنه اجتياح شامل قد يُفضي إلى احتلال
مناطق واسعة من قطاع غزة لفترة طويلة، مع ما يعنيه ذلك من احتمال إعادة فرض الإدارة
العسكرية أو فرض ترتيبات جديدة بغطاء أمني، وتشمل العناصر الأساسية لخطة "عربات
جدعون" ما يلي:
* التهجير الجماعي:
يُنقل جميع سكان غزة إلى الجزء الجنوبي من القطاع، إلى أن يتم بحث كيفية تهجيرهم
بشكل كامل من القطاع.
* التمركز العسكري:
ستبقى القوات الإسرائيلية في كل منطقة تسيطر عليها، متخليةً عن أي فكرة عن توغلات
محدودة أو سيطرة مؤقتة.
* المنطقة العازلة الأمنية
الدائمة:
بغض النظر عن التوصل إلى هدنة مؤقتة أو دائمة، لن تُخلي إسرائيل المنطقة العازلة
المحيطة بغزة، ويقول المسؤولون إن هذه المنطقة ضرورية لحماية التجمعات السكانية
الإسرائيلية ومنع تهريب الأسلحة إلى حماس.
* الحصار الإنساني:
لا يمكن رفع الحصار الشامل الحالي على المساعدات الإنسانية إلا بعد التهجير الكامل
لسكان غزة وتأمين المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل.
وتم بناء الحملة على ثلاث
مراحل، شكّلتها جزئيًا القيود السياسية والعملياتية مثل زيارة الرئيس ترامب للمنطقة
والاستعداد العسكري الإسرائيلي، وأيضًا لإتاحة مخارج محتملة في حال موافقة حماس على
شروط إسرائيل، هذه المراحل هي:
1- التحضير والضغط الأولي:
تتضمن هذه المرحلة تدمير البنية التحتية العسكرية والحكومية لحماس، بالإضافة إلى
تهيئة جنوب غزة لاستيعاب المدنيين النازحين وإيصال المساعدات الإنسانية بمساعدة
شركات أمريكية وبغطاء أمني إسرائيلي. وتتيح هذه المرحلة لحماس فرصة إطلاق سراح
الرهائن تدريجيًا، بموجب إطار عمل اقترحه المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، كشرط لوقف
المزيد من التصعيد.
2- تهجير السكان جنوبًا:
في هذه المرحلة، تهدف إسرائيل إلى نقل سكان غزة المدنيين إلى مناطق محددة في الجنوب
الغربي مع محاولة استبعاد عناصر المقاومة الفلسطينية.
3- التوغل البري:
في المرحلة النهائية، سيدخل جيش الاحتلال الإسرائيلي المناطق التي إخلاء السكان
منها، على أمل القضاء على من تبقى من عناصر المقاومة، مع العمل على إرساء وجود طويل
الأمد.
أزمـات وعقبات
محتملة
على الورق؛ تُعتبر الخطة
شاملة، إذ تجمع بين الضغط العسكري والدبلوماسي والنفسي لتحقيق الأهداف الخبيثة
لإسرائيل، لكن ثمة عراقيل وأزمات تواجه الخطة، حيث تجد إسرائيل نفسها أمام مفترق
بالغ التعقيد، لا يُمكن تبسيطه بشعارات نارية أو قرارات مرتجلة، ويمكن قراءة
العقبات المحتملة من خلال النقاط التالية:
أولًا: الداخل الإسرائيلي
رغم أن خطة "عربات جدعون" تبدو محاولة لإعادة ترميم الردع الإسرائيلي، إلا أنها
ولدت في بيئة داخلية مأزومة تعاني تصدعات عميقة بين المؤسسات السياسية والأمنية، فالتوتر بين قيادة
الجيش وحكومة نتنياهو بلغ ذروته، وسط اتهامات متبادلة بالتقصير في التعامل مع
تداعيات هجوم السابع من أكتوبر، ومظاهرات شعبية متواصلة تتهم نتنياهو بإقحام
المؤسسة العسكرية في مغامرات سياسية لإنقاذ مستقبله الشخصي، وليس لحماية دولة
الاحتلال، كما أن إصرار نتنياهو على الحسم العسكري يهدد أرواح الرهائن أنفسهم،
فالمعركة المفتوحة في غزة تُهدد بإخفاء مصيرهم سواء بنيران الجيش الصهيوني أو
بردّات فعل انتقامية من المقاومة.
فضلاً عن ذلك، فإن قدرة
إسرائيل على المناورة الدبلوماسية أصبحت محدودة، بينما تفتقر السيناريوهات البديلة
ـ كالهجرة الطوعية للفلسطينيين ـ إلى الواقعية السياسية والدعم الدولي، ولا تقتصر
فاتورة خطة "عربات جدعون" على الدماء، بل تشمل استنزافًا اقتصاديًا يُقدّر بمليارات
الشواكل سنويًا، خاصة تكاليف التمركز العسكري، وهو ما يأتي في ظل تراجع الناتج
المحلي وارتفاع نسب البطالة بين جنود الاحتياط.
ثانيًا: الموقف الأمريكي
الخطة لا تنفصل كذلك عن
حسابات واشنطن، خاصة في ظل الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمنطقة،
ورغم أن التصريحات الرسمية تركّز دائما على دعم إسرائيل، إلا أن بعض المؤشرات تُظهر
ترددًا أمريكيًا في منح تل أبيب شيكًا مفتوحًا لتنفيذ عملية طويلة الأمد بهذا الحجم
في غزة، لا سيما بعد التقارير التي أشارت إلى حوارات جرت مؤخرًا بين واشنطن وحركة
حماس، أسهمت في النهاية في إطلاق سراح الرهينة الأمريكي ـ الإسرائيلي عيدان
ألكسندر، وهو ما عكس رغبة أمريكية في التهدئة وليس التصعيد، ترامب نفسه وصف الوضع
في غزة بـ "المريع"، وألمح إلى نية واشنطن الدفع نحو وقفٍ نهائي لإطلاق النار، يفضي
إلى صفقة شاملة تشمل الرهائن وإعادة الإعمار، وعليه فإن أي اندفاعة إسرائيلية غير
منضبطة في تنفيذ خطة "عربات جدعون" قد تضعها في مواجهة مباشرة مع المزاج الأمريكي
المتغير، خاصة إذا بدأت العملية تؤثر على استقرار المصالح الأمريكية في المنطقة.
ثالثًا: ساحة غزة ومقاومة
حماس
على الأرض، ورغم الخسائر
التي لحقت بالبنية التحتية لحماس، فإن الحركة لم تُستأصل، بل أعادت بناء قدراتها
العسكرية عبر التجنيد المكثف، وإعادة تدوير الذخائر غير المنفجرة في صناعة عبوات
ناسفة فعّالة، كما أثبتت مرونتها في التحول من القتال الكلاسيكي إلى تكتيكات حرب
العصابات، مثل القنص، زرع العبوات، والهجمات المباغتة، وهي أساليب مرشحة للتصاعد مع
استمرار الاحتلال البري.
الشق الآخر من المعادلة هو
أن انهيار سلطة حماس بشكل كامل، دون بديل واضح، قد يؤدي إلى فوضى مفتوحة تُفاقم
المعاناة الإنسانية، وقد تغذي مقاومة أكثر قوةً، وهو ما سيشكل كابوسًا أكبر
لإسرائيل، فحركة حماس وبالرغم من التآكل الجزئي لسيطرتها، لا تزال تحتفظ بقدرة
تنظيمية وإدارية تُبقيها رقمًا صعبًا في معادلة "اليوم التالي للحرب"، وهنا تكمن
المعضلة؛ إسرائيل تسعى إلى "نزع حماس"، لكنها لا تمتلك رؤية واقعية لمن سيملأ
الفراغ.
رابعًا: المجتمع الدولي
والمبادرات البديلة
في المقابل، تزداد الضغوط
الدولية لإيجاد بديل سياسي بعيد عن التصعيد العسكري، فمثلًا نجد المبادرة المصرية،
التي تبنتها جامعة الدول العربية ورفضتها إسرائيل، قد طرحت خريطة طريق تدرجية تشمل
وقفًا فوريًا لإطلاق النار، إطلاق سراح الأسرى، تشكيل إدارة مدنية فلسطينية
تكنوقراطية بإشراف عربي، ونشر قوات أمنية مشتركة تمهيدًا لإعادة إعمار غزة، لكن هذه
المبادرة جوبهت بتعنت إسرائيلي متواصل، يرفض أي شراكة فلسطينية لا تُقصي حماس
بالكامل، ويصر على خيار الحسم العسكري، رغم فشله في تحقيق الحسم منذ أكثر من عام
ونصف من الحرب، ولكن في الوقت نفسه لا يزال المجتمع الدولي يفتقر إلى إجماع واضح
حول مستقبل غزة، ما بين دول تسعى لتقليص دور حماس عبر حلول سياسية، وأخرى تهادن
إسرائيل ولو بالصمت، ما يجعل الأفق أكثر غموضًا.
ختامًا؛ تبدو "عربات
جدعون" في مظهرها خطة عسكرية متماسكة، لكنها في حقيقتها تتحرك فوق أرض رخوة من
التناقضات، بين نظام سياسي مأزوم في تل أبيب، وضغوط أمريكية مترددة بين دعم الدمار
وكبح جماحه، وواقع فلسطيني لا يقبل حلولًا قسرية، وبين طموحات إسرائيلية في الحسم
ومقاومة فلسطينية أبيّة ترفض الرضوخ للظلم والاحتلال.