• - الموافق2025/04/12م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
قصف المطارات السورية: رسائل تل أبيب إلى أنقرة

لا يمكن فهم التحركات الإسرائيلية في ضرب الداخل السوري، مطاراتها ومقارها العسكرية إلا بعد فهم ماذا الذي تمثله سوريا جيوسياسيا في المنطقة، لذلك فإن وجود لقوى إقليمية وبالأخص تركيا في سوريا يشكل تهديدا مباشرا لها.


في مشهد يعيد تشكيل خريطة النفوذ في سماء الشرق الأوسط، تشن إسرائيل ضربات جوية متكررة تستهدف البنية التحتية العسكرية السورية، وتحديدًا المطارات والقواعد الجوية، في رسائل مشفّرة لا تخلو من الوضوح موجهة إلى أنقرة، لا إلى دمشق فحسب، بل أصبحت في الآونة الأخيرة تعكس توترًا مكتومًا بين إسرائيل وتركيا، يتصاعد بوتيرة متسارعة مع كل قنبلة تسقط على مدرج أو هنجر أو مركز أبحاث عسكري، وقد بدا واضحًا من استهداف مطار "T4" العسكري في ريف حمص، وهو الموقع الذي تسعى تركيا لتحويله إلى قاعدة لطائراتها المسيرة ومقر لمنظومات دفاع جوي محتملة، إن إسرائيل تبعث برسائل استباقية، فـتل أبيب ـ كما تؤكد الصور الجوية وتحليلات الخبراء ـ تستبق الوقائع على الأرض وتبادر بتقويض أي بنية تحتية قد تمكّن خصومها، أو حتى خصوم حلفائها الظرفيين، من اكتساب موطئ قدم استراتيجي في فضاء باتت تعتبره مجالاً أمنياً خاصًا بها.

لعبة النفوذ

منذ اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، ظلت تل أبيب تراقب بعين القلق أي تموضع عسكري غير مألوف على الأراضي السورية، سواء أكان إيرانيًا أو تابعًا لحزب الله أو حتى روسيًا، غير أن دخول أنقرة مؤخرًا على الخط، خصوصًا في المناطق الوسطى من سوريا مثل حمص وتدمر، حرّك حساسية إسرائيل بدرجة لا تقل عن حساسيتها تجاه الوجود الإيراني. فتركيا ـ وإن كانت في مرحلة ما شريكًا ضمن منظومة العلاقات الغربية ويحظى أردوغان بقبول لدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ـ إلا أن مساعيها لتعزيز نفوذها داخل سوريا تُقابل إسرائيليًا بريبة متزايدة، حيث ترى إسرائيل في الخطط التركية لتحويل قاعدة "T4" إلى منشأة للطائرات المسيرة ومنظومات الدفاع الجوي تهديدًا مزدوجًا، فمن جهة؛ يمثل خطوة لتقليص حرية طيرانها فوق الأراضي السورية، ومن جهة أخرى؛ قد يؤدي إلى توازن استراتيجي جديد في المنطقة لا يخدم أهداف تل أبيب الأمنية، ولذلك فإن قصف هذه المنشآت ليس فقط ضربة مادية، بل أيضًا إعلان موقف سياسي صريح موجّه إلى أنقرة: "لن نسمح لكم بإعادة رسم معادلة القوة في سوريا دون رد".

لكن ما منح تركيا الجرأة للدخول إلى العمق السوري، ومحاولة تثبيت موطئ قدم دائم في مطاراته ومناطقه الاستراتيجية، لم يكن فقط ابتعاد اللاعبين التقليديين عن الملف السوري بعد سقوط الأسد، بل أيضًا التراجع الفعلي والميداني لنفوذهم وتأثيرهم في المنطقة.

فطهران التي كانت في السنوات الماضية الفاعل الأبرز عبر أذرعها المتعددة، تراجعت قبضتها نتيجة الضربات الإسرائيلية المتكررة، التي نزعت أنيابها من دون إثارة مواجهة شاملة. كما أن حزب الله الذي كان يُعوَّل عليه كقوة ميدانية لصالح المحور المعروف إعلاميًا بـ"محور الممانعة والمقاومة"، بات اليوم منهمكًا في حسابات داخلية معقّدة في لبنان، فضلاً عن استنزافه في المعارك التي خاضها في سوريا طوال العقد الماضي، والضربات القاسية التي تلقّاها من إسرائيل واغتيال قياداته.

 

ترى تل أبيب في القواعد الجوية المتطورة خطرًا يفوق حتى الوجود البشري للميليشيات، لأنها تشكل بيئة آمنة لانطلاق الطائرات المسيّرة، ومنصات الرصد والتشويش

كما تلاشى الدور الروسي مع سقوط الأسد، ناهيك عن انشغال موسكو بملف حربها في أوكرانيا، وتراجع قدرتها اللوجستية على إدارة توازنات دقيقة في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هذا التراجع المُركب فتح فراغًا سياديًا في قلب سوريا، لا سيما في المناطق الممتدة بين حمص وتدمر، ما جعلها مساحة مفتوحة أمام اللاعبين الجدد، وعلى رأسهم أنقرة، حيث وجدت الأخيرة في هذا الفراغ فرصة سانحة لإعادة هندسة حضورها العسكري في سوريا، بعيدًا عن المناطق الحدودية التقليدية، نحو عمق استراتيجي قادر على تغيير قواعد اللعبة.

حسابات متقاطعة

لا يمكن فهم التحركات التركية في الداخل السوري، خصوصًا في محيط قاعدة "T4"، بمعزل عن الرؤية الجيوسياسية الشاملة التي تتبناها أنقرة منذ سنوات، والتي يمكن تلخيصها في الآتي:

* تركيا تدرك أن النفوذ لا يُبنى فقط عبر الحلفاء المحليين، بل من خلال الإمساك بالبُنى التحتية الحيوية، وعلى رأسها المطارات والقواعد الجوية، وبالتالي فإن تحويل "T4" إلى منصة عسكرية تركية متعددة المهام، سواء لطائرات المراقبة المسيّرة أو أنظمة الدفاع الجوي والرادارات، ليس إجراءً تكتيكيًا مؤقتًا، بل خطوة لبناء أمر واقع استراتيجي طويل الأمد.

* ترغب تركيا في إعادة تشكيل موازين القوى داخل سوريا، مما سيمنحها ورقة تفاوض كبرى في أي تسوية قادمة، فأنقرة لا تسعى فقط لإزاحة الخصوم، بل لترسيخ حضور يجعلها شريكًا لا غنى عنه في مستقبل البلاد، وخاصة في معادلة "سوريا المفيدة" التي تتركز فيها الثروات والمواقع الحيوية.

* تسعى تركيا إلى ترسيخ نفوذ دائم يُترجم مصالحها الأمنية والاقتصادية عبر التمدد نحو العمق السوري، وذلك انطلاقًا من قناعة استراتيجية ترى في الجغرافيا السورية امتدادًا عضويًا لمجالها الحيوي جنوبًا، وهي تطمح إلى مشروع إقليمي أوسع يقوم على إعادة وصل طرق التجارة التاريخية، وتأمين ممرات الطاقة المستقبلية، والتحكّم بالعقد البرية التي تربط آسيا بأوروبا عبر بلاد الشام.

* بالنسبة لأنقرة، لا تقتصر أهمية سوريا على بعدها الأمني المرتبط بمواجهة الجماعات الكردية المسلحة فحسب، فتركيا تدرك أن الانخراط العسكري المباشر في الوسط السوري يمنحها القدرة على فرض معادلات ردع إقليمية جديدة، خصوصًا تجاه الأطراف التي تتعامل مع الشمال السوري بوصفه ساحة نفوذ دائمة لها، ولا شك أن تعمق الحضور التركي في الوسط، سيقلص الهامش الذي تتحرك فيه الأطراف الأخرى باتجاه مناطق الشمال، وهو ما يسمح لتركيا بإعادة تعريف خطوط التماس داخل سوريا مما سيخدم رؤيتها للمجال الجغرافي الآمن.

* التحرك التركي في هذا السياق لا يخلو من رسائل داخلية موجهة إلى الشعب التركي، خاصةً في هذه اللحظة الحساسة التي تعيش فيها تركيا تحولات اقتصادية معقدة، إذ تحرص القيادة التركية على تقديم نفسها بوصفها الضامن الإقليمي الوحيد القادر على حماية مصالح البلاد خارج حدودها، في ظل عالم بات مضطربًا ومتغيرًا، ومن خلال مشاريع التموضع العسكري في قلب سوريا، تسعى أنقرة إلى تصدير صورة الدولة القادرة على إدارة الأزمات الإقليمية، وفرض إيقاعها الخاص على مجريات السياسة الدولية،

من هذا المنظور، تغدو الضربات الإسرائيلية الأخيرة على المطارات والقواعد العسكرية السورية رسالة مزدوجة الدلالة: فهي من جهة تُحبط عمليًا المساعي التركية لبناء عمق لوجستي عسكري قادر على دعم قواعدها في شمال سوريا، ومن جهة أخرى تذكّر أنقرة بأن إسرائيل تحتفظ وحدها بحق الفيتو غير المعلن على التوازنات العسكرية في السماء السورية، ترى تل أبيب في القواعد الجوية المتطورة خطرًا يفوق حتى الوجود البشري للميليشيات، لأنها تشكل بيئة آمنة لانطلاق الطائرات المسيّرة، ومنصات الرصد والتشويش، والأسوأ من ذلك: أنها قد تُستخدم مستقبلاً في تقييد حريّة طيرانها، وهو ما يُعدّ، في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، خطًا أحمر لا مجال للتساهل فيه، ولا شك أن ما تسعى تركيا إليه يهدد بفقدان تل أبيب ميزتها التاريخية: التفوّق الجوي المطلق فوق الجبهات المحيطة.

تصعيد مدروس

بالرغم من الضربات، لا يبدو أن إسرائيل بصدد شن حرب مفتوحة على تركيا، كما أن أنقرة لا تسعى حتى الآن إلى مواجهة مباشرة مع تل أبيب. لكن ما يجري هو أقرب إلى حرب مواقع غير معلنة، تُدار عبر الضربات الجوية من جهة والتصريحات والتسريبات الدبلوماسية من جهة أخرى. فبينما تؤكد مصادر إسرائيلية أن الهجمات تهدف إلى منع تعقيد العمليات الجوية الإسرائيلية، تلتزم أنقرة الصمت الرسمي، مكتفية بإرسال إشارات عبر الإعلام ومراكز الدراسات بأنها لا تسعى إلى تصعيد، ولكنها تحتفظ بحقها في ترسيخ وجودها، وما يعزز هذا التصور هو غياب أي وساطة دولية فعلية بين الطرفين، على الرغم من أن كليهما عضو في تحالفات غربية تتقاطع مصالحها في سوريا. فلا واشنطن تتدخل بشكل مباشر، ولا موسكو تبدي رغبة في كبح جماح هذا التصعيد غير المعلن، ربما لأنها ترى في الاشتباك غير المباشر بين الطرفين فرصة لإعادة ترتيب توازنات القوى في سوريا لصالحها.

في عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، تُعد حرية الحركة الجوية فوق سوريا إحدى الركائز الأساسية لاستراتيجية الردع، ولذا فإن أي محاولة لفرض قيود على هذه الحرية تُقابل برد مباشر وسريع. وقد سبق أن استهدفت إسرائيل مرارًا منشآت تابعة للحرس الثوري الإيراني، ومخازن أسلحة لحزب الله، بل ومواقع روسية أحيانًا، كلما شعرت بأن هذه المنشآت تشكّل تهديدًا لهيمنتها الجوية. لكن دخول تركيا على هذا الخط يعقّد المعادلة. فتركيا ليست ميليشيا، وليست قوة معزولة، بل دولة ذات قدرات عسكرية معتبرة، وشبكة تحالفات تمتد من الناتو إلى دول العالم الإسلامي، ولذلك فإن قصف المطارات التي قد تستخدمها أنقرة يحمل مخاطرة سياسية كبرى، خاصة إذا ما ردت تركيا في لحظة معينة بطريقة مباشرة، ورغم ذلك يبدو أن تل أبيب اختارت المجازفة، لأن السماح بوجود قاعدة جوية تركية في قلب سوريا دون رد، يعني تآكلًا تدريجيًا لهيبتها وفاعلية استراتيجيتها الردعية.

الأرض لمن يفرض وجوده

السياق الزمني لهذا التصعيد الإسرائيلي ـ التركي ليس عابرًا، فالمشهد السوري يشهد تحولات كبرى منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، وبدء الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع في محاولة بسط نفوذها على البلاد، وفي ظل هذا الوضع، تتزاحم القوى الإقليمية والدولية على تثبيت قواعد جديدة للنفوذ، لا سيما وأن النظام الجديد في دمشق لم يثبت أركانه بعد، لذا فإن كل من تل أبيب وأنقرة تتصرفان وفق مبدأ "اغتنم الفرصة قبل أن تُحسم اللعبة". وبالنسبة لإسرائيل فإن عدم المبادرة الآن سيمنح تركيا الوقت الكافي لبناء بنية تحتية عسكرية يصعب استهدافها لاحقًا دون ثمن. أما تركيا، فترى أن تثبيت موطئ قدم في وسط سوريا هو جزء من استراتيجية بعيدة المدى لفرض نفوذها على خريطة ما بعد الحرب. والنتيجة هي صراع صامت، لكن شديد الحساسية، يتخذ من المدارج والمدافع والطائرات المسيّرة أدوات تفاوض خشنة.

لكن إلى أين يمكن أن تمضي الأمور؟

حتى اللحظة يبدو أن الطرفين يسيران على حبل مشدود: تل أبيب تضرب ولكنها لا تعلن الحرب، وأنقرة تحتج ضمنيًا ولكنها لا ترد، ومع غياب قناة تواصل مباشرة أو وساطة فعلية، فإن التصعيد مرشح للاستمرار، وربما الانزلاق إلى صدام مباشر إذا ما قررت تركيا المضي قدمًا في بناء قاعدة متكاملة دون الاكتراث بالضربات الإسرائيلية، أو إذا ما قررت إسرائيل توسيع دائرة أهدافها لتشمل قوات تركية على الأرض. ما هو مؤكد أن سوريا، التي كانت منذ أكثر من عقد ساحة صراع داخلي، أصبحت اليوم مسرحًا لتصادم مشاريع إقليمية كبرى مجددًا.

أعلى