في الشهور الأخيرة، تعددت تصريحات المسئولين الأتراك والتي تنم عن هواجس وتهديدات تتعلق بالأمن القومي التركي، وذلك نتيجة استمرار حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال على أهل غزة، وامتدادها إلى لبنان.
دأب الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان، في أكثر من خطاب في الشهور الأخيرة، على التحذير من استمرار حرب الإبادة
المتواصلة التي يشنها الكيان الصهيوني في غزة ولبنان، مؤكدًا أن إسرائيل عازمة على
توسيعها لتشمل مناطق أخرى بما فيها الأناضول.
وقال في إحدى هذه
الخطابات: "لا تظنوا أن إسرائيل ستتوقف في قطاع غزة. ولا تظنوا أن مدينة رام الله
ستكون آمنة، إن هذه الدولة الشرسة دولة الإرهاب "إسرائيل"، إن لم يتم إيقافها فسوف
تبدأ في وضع أنظارها عاجلا أم آجلا على الأناضول من خلال وهم ما يسمى "الأرض
الموعودة".
وأضاف: "إسرائيل لا تهاجم
الفلسطينيين في قطاع غزة فحسب، بل هي تهاجمنا أيضًا. إن حماس في قطاع غزة هي خط
الدفاع الأمامي لمنطقة الأناضول"، وحذر قائلاً: "إذا لم
يتم إيقاف نتنياهو الذي يُعّد هتلر الحديث، فإن الحرب ستنتشر في المنطقة".
وفي خطاب آخر له يقول
أردوغان "انظروا إلى المسافة بين الحدود السورية والتركية والحدود اللبنانية، فإن
البعد بين تركيا ولبنان بالسيارة ساعتان ونصف الساعة فقط. وذلك يعني أن الاحتلال
والإرهاب والعدوانية قريبون جدًا منا".، وأضاف إن هذا ليس أمرًا
متعلقًا بالحكومة والمعارضة فقط، بل إنه يتعلق بتركيا بأكملها.
وفي لقاء جماهيري يقول
أردوغان: "إن إسرائيل، التي تتحرك بالهوى المتعلق بالأراضي الموعودة، ستتجه نحو
أراضينا بعد فلسطين ولبنان، وعلى الرغم من رغبة بعض الأشخاص في عدم رؤيتها، فإن
حكومة نتنياهو تحاول بشكل مستمر أن تحقق حلما كبيرا يشمل الأناضول، وتستمر بالكشف
عن نواياها من خلال مناسبات ومواقف مختلفة. فكل تطور حدث منذ السابع من أكتوبر يزيد
قليلا من حجم هذا التهديد".
|
أولى
هذه المخاوف هي الورقة الكردية، فهناك قسم من أكراد تركيا يطالبون بالانفصال عنها،
والالتحام جغرافيًا مع مناطق الأكراد سواء في شمال العراق أو في سوريا أو في إيران
لتكون لهم دولة. |
وقال أردوغان "نحن نراقب
بعناية هجمات إسرائيل في فلسطين ولبنان، ونرى بوضوح كيف يحاولون إنشاء هيكل صغير
كما لو كانوا دمًى متحركة في شمال العراق وسوريا باستخدام التنظيمات الانفصالية
كأداة".
هذه التصريحات الخطيرة
المتوالية في مناسبات شتى الصادرة من أردوغان، تدفعنا إلى التساؤل عن الغرض من هذا
التصعيد التركي الرسمي، هل يتعلق بتبرير عمليات الجيش التركي الأخيرة ضد
الانفصاليين الأكراد؟
أم ان الأمر هو العكس، حيث
إن تلك العمليات تأتي كمحاولة استباق لمخطط صهيوني غربي ضد تركيا؟
للإجابة على هذه الأسئلة
والوصول إلى حقيقة تلك المخاوف التركية، لابد من تحليل أمرين:
الأول تطور علاقات تركيا
مع الكيان الصهيوني، والأمر الثاني الحرب في غزة وتأثيرها على تركيا.
تركيا والكيان الصهيوني
فور قيام الكيان الصهيوني
عام 1948، صاغ رئيسه الأول بن جوريون استراتيجية شد الأطراف، والتي تقوم على مبدأ
توثيق الدولة الصهيونية لعلاقاتها مع الدول الطرفية المحاذية للعالم العربي في
الشمال والشرق والجنوب، وهي تركيا وإيران وأثيوبيا، وقد جاءت هذه الاستراتيجية من
أجل كسر العزلة التي فُرضت على دولة الاحتلال من الكتلة العربية في تلك الأوقات.
وقد كانت تركيا الأكثر
قرباً إلى الكيان، نظرا لأن نظامها السياسي والذي أتى بعد سقوط الدولة العثمانية،
عمل على محو أي صبغة إسلامية للأتراك، وحاول قطع أي وشائج قديمة كانت بين الأتراك
والمسلمين بإلحاقها بالغرب، لتكون مجرد تابع له ولتوجهاته العقدية والسياسية، حيث
دخلت تركيا في حلف بغداد وفي الحلف المركزي عام 1955، كما أنها انضمت إلى حلف شمال
الأطلسي (الناتو)، الذي يعد المظلة الاستراتيجية لدول غرب أوروبا والولايات
المتحدة.
لذلك كانت تركيا أول دولة
إسلامية تعترف بالكيان الصهيوني، وتقيم معه علاقات على المستوي السياسي والاقتصادي
والعسكري.
ولكن بعد أكثر من خمسين
سنة من العلاقات الوطيدة بين تركيا والكيان الصهيوني، والتي كانت أقرب إلى تحالف،
وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بانتخابات فاز فيها بثقة غالبية الأتراك، فحاول
أن يخرج من التبعية الغربية لترجع تركيا مرة أخرى كلاعب إقليمي له وزنه على الساحة
العالمية.
بالتدريج زادت الانتقادات
التركية للممارسات الصهيونية في فلسطين، في الوقت الذي عمقت فيه الحكومة التركية
علاقاتها مع السلطة الفلسطينية قبل الانقسام، ومع فوز حماس في الانتخابات وتشكيلها
للوزارة التي تحكم الضفة وغزة، وظفت تركيا علاقاتها الاقتصادية القوية بالكيان
لزيادة دعمها لحكومة حماس، وكان ذلك في ظل أجواء استراتيجية صفر مشاكل والتي تعمدت
فيها حكومة أردوغان أن تحيد صراعاتها مع جيرانها الإقليميين، في إطار مخطط
استراتيجي تدريجي للصعود الإقليمي والدولي.
لكن في مرحلة تالية بدأ
فصل جديد في العلاقات التركية مع دولة الاحتلال يأخذ منحى مختلفًا عما سبق يتميز
بالصدام، والذي انتهى بوقف العلاقات الاقتصادية والتعاون العسكري بين الدولتين إثر
حملة الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزة بعد طوفان الأقصى.
|
تحتوي
تلك الاستراتيجية التركية على ثلاثة عناصر رئيسة: محاولة إرجاع العلاقات مع النظام
السوري، إحياء دور الزعيم الكردي المعتقل في السجون التركية عبد الله أوجلان ،
وأخيرا زيادة الدعم العسكري والمالي للجيش التركي |
ففي حين وقفت القيادة
التركية تحاول الدافع عن المقاومة علنا وتبرئها من الإرهاب وتطالب المجتمع الدولي
بالاعتراف بها كحركة تحرير وطني، انهالت القيادات الصهيونية بالهجوم اللفظي على
أردوغان.
ومن هنا يلفت الانتباه
الباحث الصهيوني ألون ليئيل، إلى أن مستقبل العلاقات بين تركيا وإسرائيل سيبقى عرضة
للمد والجزر، في ظل وجود حقيقتين: الأولى أن القيادة السياسة التركية الحالية ستبقى
في سدة الحكم إلى فترة طويلة سواء في رئاسة الجمهورية أو البرلمان أو رئاسة
الوزراء، أما العامل الثاني فهو أن هناك روابط تجمع الحزب الحاكم في تركيا- العدالة
والتنمية، وبين المقاومة، وليس بإمكان إسرائيل أن تعول كثيراً على تباعد الموقفين
في المستقبل المنظور.
المخاوف التركية
وفي وسط الصراعات التي
يشهدها الإقليم حاليا، تتوالى المخاوف التركية.
أولى هذه المخاوف هي الورقة الكردية، فهناك قسم من أكراد تركيا يطالبون بالانفصال
عنها، والالتحام جغرافيًا مع مناطق الأكراد سواء في شمال العراق أو في سوريا أو في
إيران لتكون لهم دولة.
ولكن من الملاحظ أن تلك
المطالبات الكردية، لم تبدأ إلا بعد انهيار الدولة العثمانية الأخيرة، بعد أن كان
الأكراد طوال تاريخهم يعتبرون أنفسهم جزءًا من الشعوب الإسلامية التي تدين بالولاء
لمنظومة سياسية واحدة، مثلهم مثل القوميات الأخرى التي كانت تحتويها الأمة
الإسلامية كالزنوج والبربر والفرس والهنود والترك وغيرهم.
ولكن انهيار المظلة التي
كانت تنضوي تحتها تلك المجموعات، أدى إلى ظهور ذلك التباين القومي والعرقي المدعوم
من قبل القوى الغربية، في إطار مخطط لتفتيت الأمة الإسلامية بإثارة النعرات الوطنية
والعرقية وتفتيت الأمة، لسهولة السيطرة والهيمنة.
ولكن أكراد تركيا كانوا
الأكثر إثارة للاضطرابات في الداخل التركي، مقارنة بمجموعات الأكراد الأخرى في
الدول المجاورة، حيث استخدمتهم قوى عديدة بقصد الضغط على الأتراك وكورقة تبطئ
خطواتهم نحو الصعود الإقليمي.
ولكن استمرار الاضطرابات
في سوريا المجاورة الناتجة عن التدخل الخارجي، أقلق حكومة أردوغان، ثم جاء التدخل
الإيراني ومن بعده تدخل أمريكا وروسيا عسكريا، جعل المنطقة أشبه ببرميل بارود.
وبحجة ظهور داعش تدخلت
أمريكا جويًا ودعمت أكراد سوريا وأشركتهم في القتال البري.
ولا يقتصر الدعم الذي يأتي
للتنظيمات الكردية اليسارية على أمريكا، فهناك تاريخ من تعاون الكيان الصهيوني مع
التنظيمات الكردية المتمردة وإمدادهم بالسلاح.
وبعد ضعف داعش، نظرت تركيا
إلى الوجود الأمريكي بعين الارتياب، لأنه بعد زوال خطر داعش فلماذا البقاء
الأمريكي، خاصة أن القوات الأمريكية تسيطر على قاعدة التنف الموجودة في منطقة نائية
عند المثلث الحدودي العراقي الأردني في محافظة حمص. ووفقا للبنتاغون، يبلغ عدد
القوات الأمريكية في سوريا حاليا نحو 900 جندي.
ولا يمكن تفسير الاحتلال
الأمريكي، إلا أنه رغبة أمريكية غير معلنة أولا في الحد من ازدياد النفوذ التركي،
وثانية مناكفة أيضا في إيران وروسيا.
ثم جاء التهديد الصهيوني
الأخير بعد طوفان الأقصى باحتلال دمشق، بعد تصريحات وزير مالية حكومة الاحتلال
المتطرف بتسلئيل سموتريتش، حيث قال إن حدود القدس يجب أن تمتد حتى العاصمة السورية
دمشق.
وهنا يزداد القلق التركي،
وعلى متن طائرته عائدًا من زيارة أجراها إلى صربيا، قال أردوغان: إنه بمجرد أن تغزو
"إسرائيل" دمشق، فإنها ستصل إلى شمال سوريا، ربما يكون لدى "إسرائيل" بعض الخطط.
اتبع أردوغان استراتيجية
تهدف إلى إحباط أي مسعى من جيش الكيان لاحتلال سوريا أو الحيلولة دون التقدم إلى
الشمال السوري.
تحتوي تلك الاستراتيجية التركية على ثلاثة عناصر رئيسة: محاولة إرجاع العلاقات مع
النظام السوري، إحياء دور الزعيم الكردي المعتقل في السجون التركية عبد الله أوجلان
، وأخيرا زيادة الدعم العسكري والمالي للجيش التركي،
حتى أن الحكومة التركية قد اقترحت فرض ضريبة جديدة على بطاقات الائتمان، ورفع
الضرائب على عدد من الخدمات الحكومية بهدف تمويل قطاع الأسلحة والدفاع.
ويبدو أن المنطقة مقبلة
على تصعيد خطير قد لا يرتقي إلى حرب إقليمية، ولكن يجعل كل الأطراف متحفزة لأي
احتمال، وكل ذلك في ظل إصرار رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو على المضي في التصعيد
حتى الانتخابات الأمريكية القادمة.