في ظل التصعيد العسكري المستمر في المنطقة، يثير توسيع العمليات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية تساؤلات حول التداعيات الإقليمية المحتملة. إذ إن هذه التحركات قد تؤدي إلى تغييرات جيوسياسية، لا تقتصر على سوريا فحسب بل تمتد لتشمل توازن القوى في المنطقة بأسرها
في ظل صراعات متشابكة،
تمتد رقعة التوترات الإسرائيلية من غزة ولبنان إلى اليمن وسوريا وإيران، إذ تواصل
إسرائيل استهداف مواقع استراتيجية لتضعف نفوذ خصومها، فتلاحق "حزب الله" في الجنوب
اللبناني، وتهاجم خطوط إمداداته التي تمر عبر الأراضي السورية، ولم يكن هذا التصعيد
معزولاً عن باقي نقاط المحور المعروف بمحور المقاومة والممانعة، بل شمل ضربات في
العمق السوري واليمني، حيث استُهدفت مواقع في دير الزور، ريف القصير، والحديدة، ما
يوسع نطاق المواجهة ويعزز احتمال تورط إسرائيل في صراع متعدد الجبهات، فأي مصير
ينتظر الجبهة السورية؟
تصعيد متزايد
رغم أن الأوضاع لا تزال
متفجرة في لبنان منذ الاغتيال الإسرائيلي للأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله،
إلى جانب قادة آخرين، إلا أنه في الوقت ذاته، ضربت إسرائيل أهدافًا في سوريا،
أبرزها مناطق استراتيجية على الحدود السورية مع لبنان والعراق، واستهداف مواقع
عسكرية قرب مطار دير الزور، وذلك ضمن محاولة تقويض قدرات حزب الله، وإضعاف خطوط
الإمداد والتواصل بين حلفاء إيران في المنطقة. الهجمات الإسرائيلية لا تقتصر على
الجو، بل تشمل أيضًا عمليات برية على طول المنطقة الحدودية الشمالية مع لبنان.
وفيما انسحبت وحدات روسية من بعض مواقع المراقبة في الجنوب السوري، يبدو أن هذا
الانسحاب أتاح لإسرائيل هامشًا أوسع للتحرك في تلك المنطقة.
|
تجد سوريا نفسها اليوم في قلب ديناميات إقليمية معقدة، حيث تتقاطع مصالح قوى
إقليمية ودولية في مشهد سياسي وعسكري متشابك، يسلك النظام السوري في ظل هذه الأوضاع
مسارًا حذرًا للغاية |
يترافق هذا التصعيد مع
تحركات عسكرية إسرائيلية جديدة في هضبة الجولان، إذ أُزيلت الألغام الأرضية وأقيمت
حواجز على الحدود مع الشريط المنزوع السلاح، في خطوة تعكس نية إسرائيلية لتوسيع
عملياتها البرية لا سيما في ظل استمرار وصول التعزيزات العسكرية الإضافية إلى تلك
المنطقة، ونقلت تقارير متعددة عن مصادر أمنية أن هذه التحصينات قد تكون مقدمة
لإنشاء منطقة عازلة تمكّن الجيش الإسرائيلي من مراقبة تحركات حزب الله عن كثب ومنع
تسلل عناصره، كما توغلت القوات الإسرائيلية بعمق 200 متر داخل الأراضي السورية قرب
بلدة جباتا الخشب، مما يمثل انتهاكاً لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974م، كما قامت
إسرائيل بإنشاء خنادق وسواتر ترابية شرق خط فض الاشتباك، وهو تطور قد يشير إلى رغبة
إسرائيل في إدارة صراع طويل الأمد على الحدود السورية، رغم هذه التحركات
الإسرائيلية، ورغم هذه التطورات تسود حالة من الصمت الرسمي السوري، مع بعض
التصريحات التي تقلل من خطورة الوضع، بالرغم من أن المنطقة الجنوبية في سوريا تعيش
حالة من الاستنفار العسكري، وسط مراقبة مستمرة للتطورات على الحدود.
موقف سوري حذر
بعد أكثر من عقد على
اندلاع الصراع السوري،
تجد سوريا نفسها اليوم في قلب ديناميات إقليمية معقدة، حيث تتقاطع مصالح قوى
إقليمية ودولية في مشهد سياسي وعسكري متشابك، يسلك النظام السوري في ظل هذه الأوضاع
مسارًا حذرًا للغاية، يمكن قراءته في سياق
النقاط التالية:
* يريد النظام السوري في
المحافظة على تحالفه القوي مع إيران الذي نشأ منذ الثورة الإيرانية في عام 1979م،
وهو تحالف استراتيجي تشكّل على أساس معارضة مشتركة لخصوم إقليميين مثل إسرائيل
والعراق في عهد صدام حسين.
* خلال الثورة السورية؛
لعبت إيران دورًا حاسمًا في دعم نظام بشار الأسد، مما عزز التحالف بينهما في إطار
ما يُعرف بـ "محور المقاومة"، الذي يهدف إلى مواجهة النفوذ الإسرائيلي والغربي في
المنطقة، وهو ما دفع الحكومة السورية في المقابل إلى دعم إيران وحزب الله.
* في الوقت نفسه، تعقّدت
علاقات سوريا مع إيران وحزب الله بسبب مصالحها الإقليمية ومحاولاتها إعادة تحسين
علاقاتها مع الدول العربية، خاصةً بعدما استعادت سوريا عضويتها في جامعة الدول
العربية في مايو 2023م، وذلك بعد غياب دام 11 عامًا، مما يعكس محاولة دمشق لتنويع
تحالفاتها والخروج من عزلتها عبر إعادة بناء علاقاتها مجددًا مع بعض الدول العربية،
خاصة مع الإمارات والسعودية، في محاولة لتخفيف الضغوط الاقتصادية الناتجة عن
العقوبات الدولية.
* يُضاف إلى ذلك أن النظام
السوري لا يزال مستاءً من حركة حماس بسبب دعمها للمعارضة السورية خلال الثورة
الأخيرة، ورغم المصالحة التي تمّت بوساطة إيران وحزب الله، لا تزال العلاقات بين
الطرفين متوترة.
* النقطة الأهم تكمن في
ضعف سوريا أمام إسرائيل، فسوريا ليست في وضع يسمح لها بمواجهة إسرائيل، التي شنت
آلاف الهجمات على الأراضي السورية في السنوات الأخيرة، وتضرر بسببها الجيش السوري
بشدة، بالرغم من ذلك فإن الرد على أي تصعيد إسرائيلي قد يكون انتحاريًا.
|
نجحت طهران في تعزيز نفوذها في مناطق استراتيجية، أبرزها القنيطرة ودرعا المحاذيتان
لمرتفعات الجولان المحتلة، وهو ما يشكل تهديدًا لإسرائيل ويدفعها لتكثيف ضرباتها في
الداخل السوري |
بناءً على ما سبق فإن
استراتيجية سوريا الحالية تبدو كما هو واضح للجميع أنها قائمة على مبدأ ضبط النفس،
ففي حين يشتد الضغط على الجبهات، نتيجة تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران، مما يهدد
بانزلاق المنطقة إلى نزاع أوسع نطاقًا، تتبنى دمشق موقف الحياد الحذر، حيث تسعى
لتفادي الانجرار إلى صراع مباشر مع إسرائيل، فبالرغم من الانتقادات العلنية للغارات
الإسرائيلية، لم تُقدِم الحكومة السورية على أي تحرك عسكري ضد إسرائيل، مما يعكس
إدراكها لحساسية الوضع، فالنظام السوري المنهك بفعل الحرب الأهلية يبدو غير مستعد
لمواجهة قد تهدد بقاءه، ويفضل التركيز على استعادة مناطقه الشمالية من سيطرة تركيا
وضمان انسحاب القوات الأمريكية من الشرق السوري، وفي نفس الوقت يريد النظام السوري
الابتعاد عن اختلاق أزمات مع الدول العربية الحليفة في المنطقة التي ما لبثت
العلاقات أن عادت معها قبل أشهر.
في الوقت ذاته، يريد
النظام السوري الحفاظ على دعم غير مباشر لإيران وحزب الله ، إذ تمثل سوريا ركيزة
محورية في استراتيجية إيران الإقليمية، وتُستخدم كممر أساسي لنقل الأسلحة
والمقاتلين إلى جبهات المقاومة في لبنان. ومن خلال التنسيق مع الجيش السوري،
نجحت طهران في تعزيز نفوذها في مناطق استراتيجية، أبرزها القنيطرة ودرعا المحاذيتان
لمرتفعات الجولان المحتلة، وهو ما يشكل تهديدًا لإسرائيل ويدفعها لتكثيف ضرباتها في
الداخل السوري،
وبينما دارت لسنوات
مواجهات غير مباشرة بين إيران وإسرائيل على الأراضي السورية، شهدت الفترة الأخيرة
تصعيدًا دراماتيكيًا، مما ينذر بتداعيات خطيرة على المنطقة، وتشير التقارير إلى أن
الضغوط الإسرائيلية على النظام السوري بلغت ذروتها مع استهداف مساكن قيادات عليا،
مثل ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري، هو ما يبعث برسالة إسرائيلية واضحة: وقف تدفق
الأسلحة إلى حزب الله أو مواجهة المزيد من التصعيد.
تداعيات إقليمية
محتملة
في ظل التصعيد العسكري
المستمر في المنطقة، يثير توسيع العمليات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية تساؤلات
حول التداعيات الإقليمية المحتملة. إذ إن هذه التحركات قد تؤدي إلى تغييرات
جيوسياسية كبيرة، لا تقتصر على سوريا فحسب، بل تمتد لتشمل توازن القوى في الشرق
الأوسط بأسره، يمكن توقع ذلك عبر النقاط التالية:
* التوسع العسكري
الإسرائيلي إلى داخل الأراضي السورية قد يجر أطرافًا إقليمية أخرى إلى النزاع، فمع
استمرار الدعم الإيراني لحلفائها في المنطقة، يبقى احتمال انخراط الولايات المتحدة
واردًا، وقد تستغل روسيا وتركيا التصعيد في سوريا لتعزيز نفوذهما، سواء من خلال
الوساطة أو عبر تعميق تدخلاتهما العسكرية والسياسية في البلاد، وهو ما يجعل الساحة
السورية نقطة ارتكاز في الصراع بين محاور متضادة.
* علاوة على ذلك، يتزايد
القلق من أن فتح جبهة جديدة في الجولان قد يؤدي إلى تصعيد عسكري لا يمكن احتواؤه
بسهولة، خاصة مع وجود جماعات مسلحة قريبة من الحدود، فتدخل إسرائيل في الأراضي
السورية سيضعف النفوذ الإيراني في المنطقة، وقد يدفع إيران للرد عبر وسائل مباشرة
أو عبر وكلائها في المنطقة.
* استراتيجية إسرائيل
تتمثل في تحجيم نفوذ حزب الله عبر استهداف مسارات إمداده، لكنها تواجه معضلة التورط
في حرب أوسع قد لا تكون مستعدة لها، فعلى الرغم من التفوق العسكري، فإن تمدد
العمليات داخل سوريا يعرضها لمخاطر سياسية وعسكرية، وستجد نفسها أمام معضلة
استراتيجية بين الردع التكتيكي والتهديد الاستراتيجي، هذه التحديات تتفاقم مع
استمرار الاشتباكات مع فصائل المقاومة الفلسطينية وتصاعد التوترات في غزة، مما يضع
القيادة الإسرائيلية في مأزق يتعلق بترتيب أولوياتها الأمنية.
* توسع العمليات
الإسرائيلية قد يزيد من معاناة السكان السوريين، الذين يعيشون بالفعل في ظروف صعبة
نتيجة الحرب الأهلية، كما يعيق عمليات إعادة الإعمار التي تحتاجها البلاد بشدة،
ويزيد من الضغوط الاقتصادية على النظام السوري، وهو ما يعمّق الأزمة الإنسانية في
الداخل، وقد تتضرر دول الجوار جراء المزيد من موجات النزوح السوري إلى خارج البلاد.
نحو أي مصير؟
مع تنامي التنسيق بين
الفصائل المتحالفة مع إيران واستمرار التصعيد على جبهات متعددة، يبدو أن المنطقة
تقف على مفترق طرق حاسم. بينما تحاول القوى الدولية تجنب حرب شاملة، فإن أي تصعيد
إضافي قد يفتح الباب أمام نزاع لا تُحمد عقباه، مع تداعيات تتجاوز حدود المنطقة
لتطال الاستقرار العالمي، وفي ظل هذه التعقيدات، تظل سوريا مسرحًا مركزيًا لتداخلات
القوى الإقليمية والدولية، مما يجعل استقرارها مرهونًا بقدرة الأطراف الفاعلة ـ
خاصةً إسرائيل وإيران ـ على ضبط النفس وتجنب الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
رغم الضربات التي تعرضت
لها قواتها وحلفاؤها في لبنان وسوريا وحتى على أراضيها، لا تزال إيران تفضل تجنب
المواجهة المباشرة، وتؤكد عبر تصريحات مسؤوليها أن لن تتورع في تدمير البنية
التحتية في الكيان المحتل ردًا على أي هجوم إسرائيلي، على الجانب الآخر تواجه
إسرائيل معضلة معقدة بين تحقيق أهدافها الاستراتيجية في إضعاف خصومها وتجنب التورط
في مستنقع عسكري قد يكون مكلفًا، ويبقى السؤال مطروحًا: هل سيقود هذا التصعيد إلى
صدام شامل في سوريا، أم أن إسرائيل ستكتفي بضربات محدودة تحافظ من خلالها على ميزان
القوى دون الانزلاق إلى مواجهة أوسع؟ الأيام القادمة وحدها قد تحمل الإجابة.