ما يحدث في مخيم جباليا تحديدا يمثل عملية إبادة ممنهجة في ظل صمت دولي مريب، ولا يجابه عملية التصفية هذه إلا ثبات وصبر أهالي المخيم، ولكن يشهد مخيم جباليا كل هذه الانتهاكات وما علاقة ما يجري فيه بخطة الجنرالات؟
ثلاثة أسابيع والحملة
العسكرية الصهيونية على شمال قطاع غزة وخاصة على مخيم جباليا متواصلة. فالطائرات
والمدافع تدك المنازل والبيوت ويتم تسوية مربعات سكانية بالأرض، حتى أن المتحدث
باسم وزارة الصحة في غزة د. خليل الدقران، صرح بأن هناك عددًا كبيرًا من الشهداء
داخل مستشفى كمال عدوان لا يستطيعون إخراجهم ودفنهم.
ويرتبط القصف والاجتياح
بالتجويع ومنع دخول أي مساعدات إنسانية، وتشديد الحصار على المستشفيات ومراكز
الإيواء والمدارس، ودعوة سكان الشمال إلى ترك بيوتهم والنزوح عنها، وما يلبث أن
تقوم قوات الاحتلال باعتقال الرجال، وترك النساء والأطفال مشردين لا يعرفون أين
يتجهون، وإلى أي مكان يتحركون.
ويرى البعض أن ما يرتكبه
الاحتلال في شمال غزة هو بداية تطبيق ما يُعرف إعلاميًا بخطة الجنرالات، بينما دأبت
القيادات الصهيونية على نفي أنهم يطبقون تلك الخطة.
ولكن وكالة أسوشيتد برس
للأنباء أجرت تحقيقًا صحفيًا ذكرت فيه: أنه لم يتخذ أي قرار من قبل الحكومة لتنفيذ
خطة الجنرالات بالكامل.
ولكن نقلت الوكالة عن
مسؤول في حكومة الاحتلال، قالت إنه على دراية بالأمر، أن أجزاءً من الخطة يجري
تنفيذها بالفعل، دون الإشارة إلى أي شق فيها بالتحديد.
وأشار مسؤول إسرائيلي ثانٍ
للوكالة، رفض أيضًا الكشف عن هويته، إلى أن نتنياهو قرأ ودرس الخطة مثل العديد من
الخطط التي وصلت إليه طوال الحرب، لكنه لم يوضح ما إذا كان قد تم اعتماد أي جزء
منها.
بدورها، أشارت هيئة
الإذاعة البريطانية بي بي سي إلى أنه بينما يبقى من غير الواضح ما إذا كان الجيش
الإسرائيلي قد تبنى هذه الخطة جزئيا أو كليا، تشير الأدلة الظرفية إلى أنها على
الأقل تؤثر بقوة على التكتيكات المستخدمة ضد السكان.
واكتفت وحدة المتحدثين
التابعة للجيش الإسرائيلي بالقول: لن نتطرق إلى الخطط العملياتية، الجيش الإسرائيلي
يتصرف وفقًا لقرارات المستوى السياسي.
وبعيدا عن هذا الجدال
العقيم، لكن هل ستفلح هذه الخطة وتصل إلى مبتغاها بهزيمة المقاومة الفلسطينية
واقتلاعها من غزة؟
وإذا كان ما يرتكبه جيش
الاحتلال من مجازر بالفعل هي خطة الجنرالات، لماذا جباليا بالذات التي تم البدء
بها؟
للإجابة على هذا الأسئلة
ينبغي في البداية تفصيل خطة الجنرالات تلك وتوضيح ماهيتها، واحتمالات نجاحها،
ومركزية جباليا في تلك الخطة، وما اتخذته المقاومة من تدابير لإفشالها.
خطة
الجنرالات
منذ الشهر الماضي أي شهر
سبتمبر، تم تداول ما يعرف باسم خطة الجنرالات، وهو مخطط أشرف على وضعه الجنرال
السابق في الجيش الصهيوني غيورا آيلاند، ثم عرضه على عدد من الجنرالات الصهاينة
السابقين، فيخرج بصورة نهائية، ليتم وضعه أمام رئيس وزراء حكومة الاحتلال
نتانياهو
ليطبقه في الوقت المناسب.
ولكن ما هي تلك الخطة؟
|
السبب
الأبرز ببدء تطبيق خطة الجنرالات بهذه البقعة من غزة، هو أن سكان هذا المخيم هم أشد
ثباتا ومراسا من بين سكان غزة، ففضلا عن أنهم في الأصل لاجئين منذ عام 48، فهم أيضا
تعرضوا للترحيل القسري على مدار السنوات |
تتضمن تلك الخطة خلاصة فكر
الجنرال آيلاند طوال عشرين عاما، منذ أن كان يرأس المجلس الأمن القومي الصهيوني وقت
أن كان أريل شارون رئيسا لوزراء الكيان، حيث عرض آيلاند على شارون وقتها خطة لتهجير
الفلسطينيين من غزة والضفة وإحلال المستوطنين اليهود مكانهم للقضاء على المشكلة
الديموغرافية المتوقعة في فلسطين، حيث قدرت الإحصائيات الصهيونية أن نسبة
الفلسطينيين ستفوق نسبة اليهود على كامل دولة فلسطين خلال عقد من هذا التوقيت أي من
عام 2005، وهو ما تحقق بالفعل في آخر إحصاء تم في عام 2020، حيث فاقت نسبة
الفلسطينيين لأول مرة اليهود.
واقترح آيلاند وقتها
استخدام الحصار والتجويع والقتل لتهجير الفلسطينيين من غزة، ولكن شارون وقتها رفض
تلك الخطة، ومن ثم شرع في فصل غزة عن بقية فلسطين، وانسحب الجيش منها وتم تفكيك
المستوطنات وأبقاها في حالة حصار دائم.
وعندما جاء طوفان الأقصى،
قرّب نتانياهو آيلاند مرة أخرى منه، حتى أنه اقترح في بداية الحرب علنًا مرة أخرى
تجويع وقتل أهل غزة لإجبارهم على التهجير إلى سيناء من خلال معبر رفح، ولكن وقوف
الجيش المصري على الحدود، أوقف تلك الخطة.
وبعد دخول الجيش الصهيوني
محور فيلادلفيا واستيلائه على معبر رفح، وتوجه نتانياهو في الإبقاء على حالة الحرب
والإبادة في غزة منتظرا نتائج الانتخابات الأمريكية، أملا في تحسين شروط الصفقة مع
المقاومة الفلسطينية، جاءت خطة الجنرالات بمثابة حبل الإنقاذ له لتمديد أمد الحرب.
وتقضي هذه الخطة بتقسيم
غزة إلى كانتونات صغيرة ولتكن المحافظات الخمس التي يتكون منها القطاع، وهي شمال
غزة، وغزة، والمحافظة والوسطى، وخان يونس، ورفح.
وفي كل قسم من الأقسام
الخمسة يتم التركيز عليه بالقصف والهجوم البري وحصاره كاملا، ومنع الغذاء والماء
عنه، وهدم أي رعاية طبية فيه، لإجبار الناس على ترك منازلهم، وإن رفض هؤلاء التهجير
سيتم اعتبارهم متمردين ويتم قتلهم وتصفيتهم سواء كانوا رجالا أو نساءً أو أطفالا،
وهكذا عندما يتم تطهير كل منطقة من سكانها ومن المقاومة، سيجري الانتقال إلى
المنطقة التي تليها، ومن ثم يتم القضاء على المقاومة وداعميها من المدنيين، تمهيدا
لرجوع المستوطنين وإنشاء مساكن ومناطق خاصة بهم في القطاع.
ولكن لماذا كان البدء
بمخيم جباليا؟
حرب جباليا
تقع جباليا في منطقة السهل
الساحلي إلى شمال شرق مدينة غزة، ويحيطها من الشمال مدينتا بيت لاهيا وبيت حانون،
ومن الجنوب مدينة غزة، ومن الشرق الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ومن الغرب
البحر الأبيض المتوسط حيث يبلغ طول شريطها الساحلي على البحر الأبيض المتوسط قرابة
1.5 كم، ومساحتها تقارب 18كم.
ومدينة جباليا نفسها هي
مدينة قديمة لها تاريخ يمتد من احتلال الرومان في القرن الرابع الماضي، مرورًا
بالعهد العثماني والذي بقيت آثاره حتى اليوم.
تتكون جباليا من ثماني
تجمعات سكنية هي: مخيم جباليا، مدينة جباليا، النزلة، تل الزعتر، حي الكرامة، حي
عباد الرحمن، حي الزهراء، مشروع العلمي.
ويبلغ عدد سكانها 220 ألف
نسمة، قرابة نصفهم من اللاجئين الفلسطينيين الذين تهجروا من مدنهم وقراهم المحتلة
عام 1948م وأقاموا مخيمًا لهم على أراضي المدينة أطلق عليه مخيم جباليا، والذي
يعتبر أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة.
لذلك حديثنا سيتركز عن
مخيم جباليا وهو الذي كان الهجوم الصهيوني الأخير موجها له بالخصوص والاجتياح البري
الحالي كبداية لتطبيق خطة الجنرالات.
يقع مخيم جباليا في الشمال
الشرقي لقطاع غزة بمحاذاة مدينة جباليا، وعلى مسافة كيلومتر واحد عن الطريق
الرئيسية غزة-يافا. تحده من الشمال قرية بيت لاهيا ومن الجنوب والغرب مدينة جباليا
وقرية النزلة ومن الشرق بساتين الحمضيات.
يرتفع المخيم على سطح
البحر حوالي 30 قدما، ويبعد عن مدينة جباليا مسافة كيلومتر تقريبا، وهو من أقرب
المخيمات إلى معبر إيريز المنفذ الوحيد لسكان غزة إلى إسرائيل،
ومن هنا تأتي أهميته الجغرافيا وأحد أسباب بدء تطبيق خطة الجنرالات عليه.
وقد شهد قطاع غزة عام 1950
شتاء قارصا وعاصفا أدى إلى اقتلاع جميع الخيام وتشريد العائلات النازحة، فاستعاضت
الأونروا -التي شرعت في عملها في العام نفسه- عن الخيام ببيوت صغيرة من طابق واحد
مبنية من الإسمنت وألواح الزينكو، وكانت الوحدات السكنية متكدسة ومتقاربة لا تفصلها
سوى أزقة ضيقة تتحول إلى طرقات موحلة في فصل الشتاء، وهذا سبب آخر يجعل منه المنطقة
الأصعب عسكريا في الهجوم عليه، فالانتهاء منه والسيطرة عليه سيجعل بقية غزة أكثر
سهولة في السيطرة عليها.
في عام 2023، كشف الموقع
الرسمي للأونروا أن عدد سكان المخيم بلغ 116.011 نسمة، يتوزعون على مساحة لا تتجاوز
1.4 كيلومتر مربع.
ولكن
السبب الأبرز ببدء تطبيق خطة الجنرالات بهذه البقعة من غزة، هو أن سكان هذا المخيم
هم أشد ثباتا ومراسا من بين سكان غزة، ففضلا عن أنهم في الأصل لاجئين منذ عام 48،
فهم أيضا تعرضوا للترحيل القسري على مدار السنوات، ففي عام 1970 رحّلت
إسرائيل حوالي 975 عائلة من سكان المخيم إلى مشروع بيت لاهيا والنزلة المتاخم لحدود
المخيم، وفي عام 1971 عملت على هدم وإزالة ما يزيد عن 3600 غرفة تسكنها 1173 عائلة،
بدعوى توسيع أزقة وطرقات المخيم حتى تتمكن سيارات جنود الاحتلال العسكرية من دخول
المخيم وتعقب عناصر المقاومة.
لذلك انطلقت
شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى من
مخيم جباليا في ديسمبر من عام 1987، عندما دهس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من
العمال الفلسطينيين في حاجز إيريز، مما أسفر عن استشهاد 4 عمال وجرح 7 آخرين.
وتحولت جنازة الضحايا إلى مظاهرات كبيرة سرعان ما انتشرت في جميع أنحاء قطاع غزة
والضفة الغربية.
وعلى طول العقود شهد
المخيم على أيدي قوات الاحتلال العديد من المجازر وحوادث الاغتيال ما لم يُعد ولا
يحصى، وبعد الطوفان شهد المخيم أكثر من ست مجازر كبرى، قبل الهجوم الأخير، كما شهد
ثلاث اجتياحات برية.
مستقبل خطة
الجنرالات
من الواضح أنه حتى الآن،
وبالرغم من قصف المخيم على مدار 24 ساعة لمدة ما يقرب من شهر وتقدم المدرعات
والآليات داخل المخيم، واستشهاد ما يقرب من 1000 من أهالي المخيم في الأسابيع
السابقة فقط، حتى أن الاحتلال استخدم ضد المدنيين -في هذه المنطقة الجغرافية
الصغيرة- أسلحة محرمة دوليا كالفوسفور الأبيض والقنابل
الكيميائية والفراغية والصواريخ المجنحة، إضافة إلى التجويع والعقوبات الجماعية
المحرمة دوليا.
فإن أهل المخيم يرفضون بشدة التهجير، كما أن عمليات المقاومة
متواصلة بنجاح، وقد كبدت قوات الاحتلال خسائر فادحة كان آخرها مقتل إحسان دقسة قائد
اللواء 401، وهو أكبر قائد صهيوني يتم قتله منذ الطوفان.
لذا فإن ثبات أهالي المخيم
سيضعف من خطة الجنرالات، ويقوض أهداف نتنياهو.