لقد أعاد الدعم الكوري الشمالي لروسيا بالجنود إلى الأذهان شبح حرب عالمية جديدة، فما الذي يعنيه دعم كوريا الشمالية لروسيا بالجنود؟، وهل ستستمر الحرب الأوكرانية في حدودها الجغرافية الحالية، أم أن هذه التطورات تمثل بادرة لحرب عالمية متعددة الأقطاب؟
في يوم الجمعة 18 أكتوبر
2024م، أعلنت هيئة الاستخبارات الوطنية في كوريا الجنوبية أن جارتها الشمالية قررت
إرسال قوات عسكرية للقتال إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا، وفقًا للتقارير
فقد كان من المتوقع نشر ما مجموعه 12 ألف جندي كوري شمالي من 4 ألوية، بما في ذلك
القوات الخاصة، وبحسب تقارير لاحقة فقد وصل بالفعل 1500 جندي إلى روسيا على متن سفن
حربية روسية بين 8 و13 أكتوبر، وسيتمركزون في قواعد عسكرية في الشرق الأقصى؛ مثل:
فلاديفوستوك وأوسوريسك، ومن المتوقع أن ينضموا إلى الخطوط الأمامية بعد الانتهاء من
تدريبهم، ومن المتوقع أن تتم جولة ثانية من عمليات نقل الجنود قريبا، من جهته فقد
أكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي هذه المعلومات وحذّر من أن "هذه هي الخطوة
الأولى نحو الحرب العالمية"، ووفقًا لرئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية،
الجنرال كيريلو بودانوف، فإن القوات الكورية الشمالية البالغ عددها 10 آلاف جندي
والتي تخضع حاليًا للتدريب في روسيا، ستكون جاهزة للقتال في أوكرانيا في الأول من
نوفمبر.
رغم أن روسيا لم تعلّق
طويلًا على الأمر ووصفته بأنه "أخبار كاذبة"، إلا أن صور الأقمار الصناعية أظهرت
وصول الجنود الكوريين الشماليين وخضوعهم للتدريب، ومن المتوقع أن تتركز مهمة القوات
الكورية الشمالية على محاولات روسيا المستمرة لطرد القوات الأوكرانية، فأوكرانيا
سبق وأن احتلت منطقة صغيرة داخل الأراضي الروسية بعد هجوم مفاجئ عبر الحدود في
أغسطس، ولا تزال المساعي الروسية لطرد تلك القوات مستمرة، وخلال
الصيف الماضي قد شهد توقيع فلاديمير
بوتين ونظيره الكوري الشمالي كيم جونج أون على معاهدة شراكة استراتيجية شاملة تلزم
البلدين بتقديم المساعدة العسكرية لبعضهما البعض إذا تعرض أي منهما للهجوم.
|
إدخال
القوات الكورية الشمالية من شأنه أن يوفر لروسيا العديد من المزايا الاستراتيجية،
أهمها تخفيف النقص في أفراد الجيش الروسي في مختلف العمليات، حيث أن هذه الوحدات
تُعَد قوات خاصة |
تصعيد خطير
هذا تطور كبير في هذه
الحرب الواقعة في قلب أوروبا، أولاً وقبل كل شيء يشير إلى أول تدويل ملموس للصراع،
ففي حين يتلقى الجانبين المساعدة من حلفائهما - الغرب في حالة أوكرانيا؛ وإيران
وكوريا الشمالية والصين في حالة روسيا - فقد اقتصرت هذه المساعدة حتى الآن على
المعدات، لكن تدخل القوات الأجنبية هو خط لم تجرؤ أي دولة على تجاوزه بعد، لدرجة أن
مجرد ذكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في فبراير الماضي، لإمكانية إرسال مدربين
عسكريين إلى أوكرانيا في جدل حاد في أوروبا ولم يتبع التصريح أي عمل حقيقي على
الأرض، ومن شأن هذا التطور أن يدفع الصراع إلى مرحلة تصعيدية جديدة، وهناك خطر كبير
من أن يتجاوز نطاقه وحدوده الحالية، فما كان ذات يوم صراعًا أوروبيًا أصبح الآن
صراعًا آسيويًا أيضا، ويمكن قراءة ملامح هذا التصعيد كالتالي:
* بالنسبة لروسيا:
فإن
إدخال القوات الكورية الشمالية من شأنه أن يوفر لروسيا العديد من المزايا
الاستراتيجية، أهمها تخفيف النقص في أفراد الجيش الروسي في مختلف العمليات، حيث أن
هذه الوحدات تُعَد قوات خاصة، فإن هذا يجلب مهارات فريدة
إلى الصراع، كما سيخلف تأثيرًا نفسيًا سيئًا على القوات الأوكرانية والمجتمع
الدولي، مما يدل على قدرة روسيا على الاستعانة بحلفاء متنوعين.
* بالنسبة لكوريا
الشمالية:
فإن هذه الخطوة ستسفر عن
فوائد كبيرة؛ في مقدمتها التعرض المباشر للحرب الحديثة وهو ما من شأنه أن يوفر خبرة
لا تقدر بثمن للعاملين في الجيش الكوري الشمالي، إذ ستكون هذه فرصة نادرة لبيونغ
يانغ لقياس كيفية تعامل أعضاء جيشها المكون من مليون فرد مع الحرب الحقيقية مما قد
يعزز قدراتهم وتكتيكاتهم، وقد يؤدي هذا المستوى من الدعم إلى تحسين علاقة كوريا
الشمالية بروسيا بشكل كبير، مما قد يؤدي إلى زيادة التعاون الدبلوماسي والاقتصادي،
وبلا شك ستتلقى كوريا الشمالية تعويضات مالية كبيرة والوصول إلى التكنولوجيا
العسكرية الروسية المتقدمة وأهمها الخبرة الروسية في مجال الصواريخ الباليستية
العابرة للقارات والغواصات، وهي ترقيات الأجهزة التي من شأنها أن تزيد بشكل كبير من
التهديد الذي تشكله كوريا الشمالية بالفعل على جيرانها، كما أن دخول كوريا الشمالية
في صراع دولي كبير سيعزز من مكانتها ونفوذها.
ومن شأن الانخراط في تلك
الحرب أيضا أن يمكن آلة الدعاية الشمالية من الادعاء ـ مهما كان خياليًا ـ بأن
قوتها العسكرية تعادل قوة الولايات المتحدة، كما أن الدعم العسكري الذي قدمه كيم
إلى بوتين سيضمن له استعمال موسكو لحق النقض "الفيتو" ضد أي محاولة جديدة تقودها
الولايات المتحدة لفرض عقوبات جديدة على كوريا الشمالية في مجلس الأمن التابع للأمم
المتحدة وتقويض الجهود الرامية إلى فرض مزيد من العقوبات عليها، كما أن كوريا
الشمالية تتلقى النفط من روسيا بالفعل، وهو ما من شأنه أن يساعدها في الحفاظ على
موقفها المواجه تجاه الولايات المتحدة وحلفائها.
|
يبدو
أن كوريا الشمالية والجنوبية تخوضان حربًا بالوكالة في أوروبا، فبالرغم من أن الحرب
الروسية ـ الأوكرانية تقع في منطقة جغرافية ليست بالقريبة، إلا أنها باتت تعني
الكثير لكوريا الجنوبية |
* بالنسبة لأوكرانيا:
رغم أن وجود الجنود
الكوريين الشماليين سيشكل عامل ضغط قوي على الجيش الأوكراني الذي بالكاد يستطيع
مواجهة الهجوم الروسي، إلا أنه لا تزال هناك شكوك حول مدى فعاليتهم في القتال
نظرًا لافتقارهم إلى الخبرة في ساحة المعركة في تلك الأراضي البعيدة عن بيئتهم،
فالقوات الكورية الشمالية ليس لديها خبرة قتالية حديثة، مما يجعل أداءها في ساحة
المعركة المعقدة والمتقدمة تكنولوجيا في أوكرانيا غير متوقع، لا سيما وأن الصراع في
أوكرانيا يتضمن المدفعية الدقيقة، والاستخدام المكثف للطائرات بدون طيار، والمراقبة
عبر الأقمار الصناعية وأنظمة الصواريخ المتقدمة، وهي مجالات قد تفتقر فيها القوات
الكورية الشمالية إلى الخبرة.
* بالنسبة للولايات
المتحدة وحلفائها الأوروبيين:
ترى واشنطن والعواصم
الأوروبية الفاعلة أنه إذا شارك جنود من كوريا الشمالية في القتال، فمن المنطقي
اعتبارهم "أهدافًا مشروعة"، لكن هذا قد يزيد من اشتعال القتال، وسبق وأن حذّر وزير
الدفاع الأمريكي لويد أوستن، الذي يرى في هذه الدعوة للمساعدة علامة على ضعف موسكو،
من عواقب مثل هذا التدويل، ليس فقط على أوروبا، ولكن أيضًا على منطقة المحيطين
الهندي والهادئ، وهناك مخاوف غربية متزايدة بشأن دور محتمل لكوريا الشمالية في نشر
أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، وقد
تؤدي تصرفات كوريا الشمالية إلى تغيير ديناميكيات القوة في شمال شرق آسيا وخارجها،
مما قد يؤثر على استراتيجيات الولايات المتحدة ودول أوروبا.
الجارة الجنوبية
بعد سبعة عقود من انتهاء
الصراع الذي دام ثلاث سنوات بهدنة وإنشاء الحدود الأكثر تسليحًا في العالم،
يبدو أن كوريا الشمالية والجنوبية تخوضان حربًا بالوكالة في أوروبا، فبالرغم من أن
الحرب الروسية ـ الأوكرانية تقع في منطقة جغرافية ليست بالقريبة، إلا أنها باتت
تعني الكثير لكوريا الجنوبية ـ
التي تبعد عن كييف مسافة
7300 كيلومتر ــ حيث تُعَد كوريا الشمالية عدوًا لدودًا وجارةً في الوقت نفسه، لذا
سرعان ما انتشرت تصريحات لمسؤولين كوريين جنوبيين يحذرون بيونغ يانغ من التورط
المتزايد فيما وصفتها بـ "حرب الكرملين" على أوكرانيا، وحذر الرئيس الكوري الجنوبي
يون سوك يول من أن اشتراك كوريا الشمالية في هذا الصراع من شأنه أن يشكل تهديدًا
أمنيًا خطيرًا للعالم وانتهاكًا لقرارات الأمم المتحدة المتعددة التي تحظر التعاون
العسكري لأي دولة عضو مع بيونغ يانغ، متهمًا كوريا الشمالية بـ "دفع شبابها إلى حرب
غير مبررة كمرتزقة"، وبالتوازي مع ذلك قالت تقارير إن أفرادًا كوريين جنوبيين في
أوكرانيا سوف يقدمون خدمات الترجمة إذا تم القبض على جنود كوريين شماليين من قبل
القوات الأوكرانية، كما سيزودون كييف بمعلومات حول التكتيكات العسكرية والعقيدة
القتالية للجنود الكوريين الشماليين.
في حين أن كوريا الجنوبية
إحدى أكبر الدول المصدرة للأسلحة - تاسع أكبر دولة في العالم بمبيعات بلغت قيمتها
14 مليار دولار العام الماضي - إلا أنها لديها سياسة طويلة الأمد بعدم توفير
الأسلحة للدول المنخرطة في صراع، وهذا يشمل أوكرانيا، لكن نشر القوات الكورية
الشمالية هناك قد يزيد من الضغوط على سيول لرفع القيود والتغلب على العقبات
القانونية والسياسية لتسهيل التدابير المتعلقة بإمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا،
ووفقًا لاستطلاعات الرأي فإن الرغبة في سيول في الحصول على دعم أكثر قوة لأوكرانيا
آخذة في النمو، حتى لو كان ذلك يثير احتمال استخدام الأسلحة الكورية الجنوبية لقتل
جنود كوريين شماليين في حرب تدور على بعد آلاف الأميال، حيث تخشى سيول أن يكون
لتورط جارتها الشمالية في الصراع الأوكراني تداعيات على طول حدودها، حيث تتصاعد
التوترات بالفعل، وقد أعربت مرارًا عن قلقها البالغ بعد تحرك روسيا للتصديق على
معاهدة الدفاع مع كوريا الشمالية، داعية موسكو مرة أخرى إلى وقف تعاونها غير
القانوني مع بيونغ يانغ.
يقول بعض المحللين إن
كوريا الشمالية بإرسال قوات لمساعدة روسيا تحاكي المسار الذي سلكته كوريا الجنوبية
قبل عقود من الزمان، فقد عززت سيول ذات يوم تحالفها مع واشنطن من خلال إرسال ما
يقرب من 320 ألف جندي إلى حرب فيتنام، وهي أكبر فرقة أجنبية قاتلت إلى جانب القوات
الأمريكية، وفي المقابل ساعدت الولايات المتحدة في تحديث الجيش الكوري الجنوبي
المتداعي آنذاك، كما ساعدت في تحفيز النمو الاقتصادي لحليفتها من خلال المنح
والحوافز الاقتصادية.
نهاية ليست
قريبة
على الرغم من الفوائد
المحتملة لكوريا الشمالية، فإن هذه الخطوة ليست خالية من المخاطر الكبيرة بالنسبة
لها، ذلك أن الافتقار إلى الخبرة القتالية، ومشاكل الأداء المحتملة، من الممكن أن
يخلق تحديات كبيرة داخل الدولة الخاضعة لسيطرة مشددة، ففعالية القوات الخاصة
الكورية الشمالية في صراع حديث عالي الكثافة لم يتم إثباتها من قبل، وقد يؤدي
الأداء الضعيف إلى إحراج كبير للنظام.
وفي الإطار لا تزال "خطة
النصر" التي اقترحها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تواجه بلامبالاة في
العواصم الغربية، وخاصة واشنطن، مما يجعل تلك الخطة متعثرة في إجبار موسكو على
إنهاء حربها من خلال المواجهة أو المفاوضات، وبالتالي فإن الباب سيظل موصدًا أمام
الشركاء الغربيين في النظر في طلب كييف للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، خاصةً وأن
بعض الدول الأوروبية الفاعلة لا تزال مترددة في مجرد النظر في هذا الطلب حتى بعد
انتهاء الحرب، كل هذه العوامل تبشر بمزيدٍ من الانتكاسات في ساحة المعركة، وهنا
يبقى سؤال بالغ الأهمية: هل سيكون هذا الصراع الطويل مقدمة لواقع عالمي جديد، يُعيد
رسم التحالفات ويرسم حدودًا جديدة للتوازنات العسكرية والسياسية؟