منذ الأيام الأولى على الحرب على غزة، ظهر مصطلح ما يعرف بوحدة الساحات وهو يشير إلى عملية إسناد من أذرع إيران وعلى رأسها حزب الله للمقاومة في غزة، دون الدخول المباشر، لكن أضعف الإيمان هذا بات اليوم على المحك
السؤال الذي يتم طرحه هذه
الأيام عن حقيقة تخلي حزب الله عن موقفه المعلن، بربط توقفه عن القتال واشتباكاته
مع قوات الاحتلال بإيقاف الحرب في غزة، بالرغم من استمرار الحزب في القتال عقب
الضربات التي تلقاها من جيش دولة الكيان، والتي أسفرت عن اختراق أجهزة الاتصالات في
أيدي كوادر الحزب، وتلاها اغتيال أغلب القيادات السياسية والعسكرية.
فهناك إشارات متناقضة صدرت
عن حزب الله في الآونة الأخيرة، تتعلق بمدى استمراريته فيما يعرف بجبهة إسناد غزة،
وهل الحزب على وشك فك الارتباط بين الجبهة اللبنانية والحرب الدائرة في غزة؟
فمنذ عدة أيام خرج الشيخ
نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله بخطاب تم بثه عبر جميع الفضائيات ذات
التوجهات المتعارضة.
حاول قاسم أن يبرز إن
إمكانيات الحزب العسكرية وأنها لا تزال بخير، وأن منظومته القيادية تواصل العمل،
بالرغم من مقتل تسلسل قياداته التنفيذية بدءًا من الأمين العام لحزب الله حسن نصر
الله ثم رئيس مكتب الحزب التنفيذي صفي الدين هاشم والذي كان يعتبر المرشح الأول
لخلافة نصر الله ثم المرشح بعده في التسلسل القيادي نبيل قاووق، مثل ما ذكر
نتانياهو في خطابه من استهداف الكيان لخليفة نصر الله وخليفة خليفته دون ذكر
الأسماء.
|
القتال
والتصعيد مع إيران وذراعه حزب الله، بمثابة ذريعة لنتانياهو لمد أجل الحرب، وانتظار
نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية واحتمالات فوز ترامب، والذي سيحسن فرص
نتانياهو في التفاوض
|
وأكد نعيم قاسم لجمهور
الحزب أن بيئة المقاومة متماسكة حسب زعمه، ثم وجه كلامه للنازحين بقوله: "ترون
إنجازاتنا الكبيرة... نحن ثابتون وسننتصر، وأنتم بنزوحكم تدفعون ثمناً مشابهاً
للثمن الذي تدفعه المقاومة".
ولكن أخطر الرسائل التي
حواها خطاب نعيم قاسم، وربما خرج بالتحديد في هذا التوقيت ليرسلها، هو عندما أعاد
تذكير نتنياهو بأنه لا عودة لمستوطنين الشمال إلا بوقف العدوان، قال بالحرف "سيكون
نتنياهو حالما بعودة المستوطنين إلى الشمال دون وقف لإطلاق النار، وإن الاستنزاف
الذي جرى على مدى عام سيزداد وسيكون أكبر".
خطاب قاسم بالرغم من تضمنه
ضرورة وقف إطلاق النار إلا أنه لم يذكر فيه مطلقًا غزة أو حتى الهدنة المنتظرة
فيها، الأمر الذي فسره الكثيرون أن قاسم لم يعد يربط وقف القتال من جانب الحزب بوقف
الحرب التي يشنها جيش الاحتلال على غزة. وهذا ضمنيًا يعني وقف ما يعرف بوحدة
الساحات.
ومما يؤكد كلام نعيم قاسم
برغبته بوقف إطلاق النار على لبنان وحدها. ليس بوقفه في غزة، ذكره رئيس مجلس النواب
وزعيم حركة أمل الشيعية نبيه بري، ووصفه الأخ الأكبر الذي لا يمكن أن يتخطاه أحد،
وتأكيده أن الحزب يؤيد الحراك السياسي الذي يقوم به بري.
ومن المعروف أن مبادرة بري
تتضمن وقف إطلاق النار، مقابل توقف الحزب عن إسناد غزة، وهو ما يحقق هدف نتنياهو
بعودة سكان الشمال، وانهاء الأزمة مع لبنان.
ولكن بعد تصريحات قاسم
تلك، صدر بيان تم توقيعه باسم غرفة عمليات المقاومة الإسلامية في لبنان، ذكر فيه
أنهم على العهد والوعد "لن نتخلى عن الدعم والإسناد للشعب الفلسطيني الصامد في قطاع
غزة ومقاومته الشريفة" كما يزعم البيان أن هذه وصية حسن نصر الله، " فهي أمانة في
أعناقنا" على حد مزاعمهم.
ولكن يعود أحد القيادات
السياسية لحزب الله النائب في البرلمان اللبناني حسين الحاج حسن، ليؤكد على موافقة
الحزب على المبادرة الأمريكية الفرنسية، والتي تنص على وقف إطلاق النار في لبنان
فقط بين الأطراف المتحاربة، وتفصل عنها مسار غزة.
وفي حواره مع قناة
الجزيرة، أكد حسين على أنّ الأولوية اليوم هي لوقف إطلاق النار في لبنان، أما موضوع
ربط الساحات فهو مطروح للبحث لاحقاً.
وبعدها بيومين يخرج نفس
القيادي ليقول كلامًا يناقض كلامه الأول، يذكر فيه أن الحزب لا يزال في موقف
الإسناد لغزة.
فهل هذا التناقض لعبة
سياسية للحصول على أكبر مكاسب ممكنة؟ أم هو يعبر عن ارتباك في التعاطي مع هذه
الأزمة خاصة بعد أن فقد الحزب العقل المفكر له المتمثل في غالبية قياداته التاريخية
السياسية والعسكرية؟ أم أن هذا التناقض هو حصيلة خلافات بين تيارين في الحزب كما
تقول بعض الصحف اللبنانية: بين تيار يريد استمرار القتال واستعادة الردع الذي فقده
الحزب باختراق الكيان ومن ثم اغتيال قياداته، وفريق آخر يرى أن التهدئة هي الخيار
الأنسب لتجميع صفوف الحزب بعد الضربة القاتلة التي وجهها له الكيان؟
ويبدو أن الحزب هو أكثر
ميلا للهدنة، ولكن يجب أن تكون بمخرج مشرف وبشكل لا يبدو فيه مهزوما، أو أن يظهر
بأنه قد خان قضيته وتخلى عنها.
وبعد كلمة نعيم قاسم
بساعات، يخرج رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتانياهو في كلمة له متلفزة وكأنه
يرد على نعيم قاسم، برفض تلك المبادرة وكل جهد لوقف إطلاق النار، وهذا يعني أن
الحزب سيستكمل مضطرا القتال في ظل ظروفه الصعبة التي يعيشها عقب الاغتيالات
وتفجيرات أجهزة اتصالاته الشخصية.
ولكن لماذا يريد نتانياهو
الاستمرار في القتال مع حزب الله؟
يقول الصحفي الصهيوني في
صحيفة هآرتس رفيف دروكر، إن عملية برية في لبنان تستمر أسابيع تصب في مصلحة
نتنياهو، فهي بالنسبة إليه أمر مطلوب.
فهي تسمح له بالبقاء، ولا
يجري خلالها تشكيل لجنة تحقيق رسمية، بينما جنودنا (على حد تعبير الصحفي الصهيوني)
في الجنوب اللبناني، وطبعاً، سيأتي طلب إقالة محامي الدفاع عنه من المحكمة
الإقليمية في القدس، فكيف يمكنه تقديم شهادته في ذروة حرب شديدة؟ كما أن رداً
كبيراً على إيران يزيد في تصعيد الوضع يصب في مصلحته أيضاً. في المقابل، بالنسبة
إلى الجمهور، من الممكن استخدام رافعة الرد على إيران وضُعف حزب الله من أجل محاولة
التوصل الآن إلى اتفاق وقف إطلاق نار يقطع الصلة بين غزة ولبنان، ويُبعد حزب الله،
ويطالب بوصول قوة دولية أكثر فعالية إلى المنطقة.
ففي النهاية فإن نتانياهو
لا يريد وقف الحرب لعدة أسباب:
أولا: أن استمرار القتال
سيتيح للكيان الصهيوني استثمار النجاحات التي حققها الجيش الصهيوني واستخباراته،
سواء في قتل التسلسل القيادي للحزب، واختراقه أمنيا وتكنولوجيا على مستوى كوادر
الحزب، فهذه الحرب فرصة لقص أجنحة إيران في لبنان وتهذيبها، والتوقف هو تضييع لتلك
الفرصة.
ثانيا:
القتال والتصعيد مع إيران وذراعه حزب الله، بمثابة ذريعة لنتانياهو لمد أجل الحرب،
وانتظار نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية واحتمالات فوز ترامب، والذي سيحسن فرص
نتانياهو في التفاوض
وهو يدرك جيدا أنه في
النهاية ستنتهي هذه الحرب بهدنة، فهو يريد التوجه إلى ذلك الاتفاق أو الصفقة في
ظروف أفضل وشروط لصالح الكيان، خاصة أن إدارة بايدن تمارس ضغوطا هائلة على نتانياهو
وحكومته للوصول إلى هدنة وصفقة مع المقاومة الفلسطينية، وتوقف القتال مصلحة للحزب
الديموقراطي ومرشحته كاميلا هاريس، حيث أظهرت آخر استطلاعات للرأي تراجع هاريس في
الشعبية للتعادل مع ترامب، ومن هنا يبرز دور الأمريكيين العرب وأهمية أصواتهم
القليلة في حسم الانتخابات، خاصة أنهم يضغطون باتجاه وقف الحرب على الأقل، ويهددون
بمقاطعة التصويت للديمقراطيين أو الانتخابات عموما.
وكان قد تردد في صحافة
دولة الكيان الصهيونية والصحف الغربية أيضا، أن هناك اتفاقًا بين ترامب ونتانياهو
قد تم إبرامه في لقائه به أثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، حيث طلب ترامب من
نتانياهو تأجيل قبول الصفقة، حتى يتم الإعلان عن فوزه في الانتخابات، وإعادة
انتخابه رئيسا مجددا، في مقابل الاعتراف الأمريكي بسيادة الكيان الصهيوني على الضفة
الغربية، واعتبارها جزءًا من الدولة الصهيونية، وإذا تمت هذه الصفقة، فإن نتانياهو
يستطيع تقديم هذا الإنجاز للجمهور الصهيوني، يعوضه عن فشله في توقع اندلاع طوفان
الأقصى، ويبعده عن التحقيقات والتي يمكن أن تدينه في قضايا فساد متوقعة.
وفي النهاية فإن حزب الله
خاضع لتوجهات إيران وذراع من أذرعها في المنطقة، وتبدو إيران في هذه الأيام أكثر
حرصًا على الظهور أمام العالم، بأنها دولة ترغب في وقف القتال في لبنان، خاصة وهي
تعاني من القلق والانتظار، وتتوجس من الرد الصهيوني القادم.