• - الموافق2024/11/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
محنة إمام أهل السنة

محنة إمام أهل السنة


كثيرة هي المحن التي تعرَّض لها العلماء عبر القرون، إلا أن أشد محنة على الإطلاق، هي محنة إجبار العلماء على القول بخلق القرآن، وذلك من عدة حيثيات نُجْمِلها فيما يلي:

الحيثية الأولى (النوع): حيث إنها محنة عقدية، متعلقة بكلام الله تعالى، وكتابه الخالد، وقرآنه المجيد، ودستور الأمة التليد.

الحيثية الثانية (الزمان): حيث استمرت أربعة عشر عاماً تقريباً، وتعاقب عليها أربعة أمراء؛ إذ ابتدأت في نهاية عهد المأمون سنة ثماني عشرة ومائتين، واستمرت حتى عهد المتوكل سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.

الحيثية الثالثة (القائمون عليها): حيث قام عليها وتبنَّاها وأشرف عليها فرقة دينية حاقدة مارقة عن منهج السلف، مسخِّرة كافة أجهزة الدولة وإمكانياتها، مستخدمة كافة أساليب الترغيب والترهيب في سبيلها، حيث استخدم في هذه المحنة مع المستجيبين لها العطايا والترقيات، ومع المتوقفين فيها والرافضين لها المنع والتضيق وقطع الأرزاق، بل وصـل بهم الحد أن سلطوا على الرافضين لها جميع صنوف التعذيب، كالسجن والضرب حتى الموت، كما اعترف بذلك أحد الجلادين الذين شاركوا في تعذيب الإمام أحمد؛ إذ قال: «ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطاً لو ضربته فيلاً لهدمته»[1].

الحيثية الرابعة (الشمول): أنها شملت جميع العلماء والقضاة والصلحاء، والرجال والنساء، حتى أنها في عهد الواثق شملت أسرى المسلمين لدى الروم؛ فمن قال منهم بخلق القرآن فك أسره، ودفع ديته، ومن رفض تركه أسيراً لدى الروم[2].

الحيثية الخامسة (المآل): إذ إن مآل القول بخلق القرآن يوصل إلى مزالق خطيرة، ومالآت فاسدة، ومن ذلك ما يلي:

1- رد نصوص الكتاب والسنة الدالة على أنه كلام الله، والاعتراض عليها، وتأويلها على غير مراد الله، وفهمها فهماً خاطئاً لم يسبق إليه أحد من أصحاب القرون الثلاثة المفضلة.

2- سوء الأدب مع الله، وذلك بمشابهته بمخلوقاته، وأنه يعتريه ما يعتري المخلوق من النقص والعيب، وحاشاه سبحانه وتعالى.

3- القَدْح في القرآن والطعن في كونه وحياً من الله أوحاه إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم  بواسطة جبريل عليه السلام.

4- التهوين من شأن القرآن، وعدم اعتقاد عصمته من التحريف والزيادة والنقصان، ونزع سمة الإعجاز عنه، وأنه لا مانع من نقده، واختلاف وجهات النظر فيه، وهذا ما صرَّح به بعض المفكرين المنحرفين في العصر الحاضر.

ولهذه الحيثيات وغيرها نجد أن هذه المحنة لاقت اهتماماً بالغاً لدى العامة والخاصة؛ إذ صنف فيها بعض العلماء كتباً مستقلة، وأفردها علماء التاريخ والسير والتراجم بأبواب مستقلة في مصنفاتهم.

وبناء عليه فإن الحديث عنها لن يفيَ به كتاب مستقل، فضلاً عن مقالة يكتبها كـاتب على عجـالة، ولذلك فقد خصصت الحديث عن هذه المحنة عن أشهر عالِم تعرض، ولاقى في سبيلها كافة صنوف التعذيب، ولكنه صمد فيها صمود الجبال الشامخة، وخرج منها صافياً نقياً ذهباً خالصاً من جميع الشوائب؛ حاله كما وصفه بشر الحافي بقوله: «أدخل أحمد الكير فخرج ذهباً أحمر»[3]، ثم علت منزلته وارتفعت مكانته بعدها عند الله وعند خلقه من العامة والخاصة، وصار بعد هذه المحنة يلقَّب بإمام أهل السنة.

وسيكون حديثي عن محنته عبارة عن خيوط عامة أنسجها عن محنته، مشيراً إلى بعض مواقفها من البداية حتى النهاية، مراعياً في الحديث عنها الترتيب الزمني للأمراء الذين تداولـوا عليها، وماهية المحنة التي تعرض لها الإمام أحمد في عهد كل أمير، ثم أختم الحديث عنها بمخلص عن نهايات هذه المحنة، فأقول وبالله وحده أستعين:

أولاً: عهد عبد الله بن هارون الرشيد:

يعتبر «عبد الله بن هارون الرشيد» الملقب بالمأمون أولَ أمير من أمراء بني أمية وبني العباس يزيغ عن مذهب السلف، قال البيهقي: «لم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم»[4].

وقال ابن الجوزي: «لم يزل الناس على قانون السلف، وقولهم: إن القرآن كلام الله غير مَخلوق؛ حتى نَبغت المعتزلة فقالت بخلق القرآن، وكانت تَستر ذلك... فلما تُوفي الرشيدُ كان الأمر كذلك في زمن الأمين»[5].

والسبب في زيغه عن مذهب السلف استحواذ جماعة من المعتزلة عليه، قال ابن كثير: «استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن، ونفي الصفات عن الله عز وجل»[6].

وقد كان في بداية الأمر متردداً في حمل الناسِ على ذلك، ثم قَوي عزمه على ذلك في آخر سنة من ولايته؛ فقد أصدر مرسوماً إلى نائبه في بغداد: «إسحاق بن إبراهيم» يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، فمن أجاب شهر أمـره بين الناس، ومن أبى يرسله إلى المأمون، وقد جاء في المرسوم الذي أصدره: «اجْمَع من بحضرتك من القضـاة واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليك، فابدأ بامتحـانهم فيمـا يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ولا واثق في من قلده واستحفظه من رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقرُّوا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمُرْهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع عن توقيعها عنده، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين، والإخلاص للتوحيد»[7].

فلما وصل الكتاب إلى نائبه سارع باستدعاء القضاة والمحدِّثين وكل من تصدى للفتوى والتعليم والإرشاد فاختبرهم وامتحنهم؛ فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق، فأجاب أغلبهم، إلا أربعةً أصرُّوا على موقفهم، وهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريري، وسجادة، فأمر النائب بشد وثاقهم، وتكبيلهم بالحديد، وباتوا ليلتهم مقيدين، فلما كان الغد أجاب سجادة إسحاق فيما يدعو إليه، فخلوا عنه وفكوا قيوده، واستمر الباقون على حالهم.

وفي اليوم التالي أعيد السؤال عليهم وطلب الجواب إليهم، فخارت نفس القـواريري وأجابهم إلى ما طلبوا ففكوا قيوده.

وبقي محمد بن نوح وأحمد بن حنبل مصممين، فسيقا في الحديد ليلتقيا بالمأمون في طرسوس، إلا أن محمد بن نوح توفي في الطريق[8].

وفي أثناء مسير الإمام مقيداً إلى المأمون في طرسوس جاء الى الإمام أحمد رجل وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه، ويقول: «يعز عليَّ يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم  لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف»[9].

فلما سمع الإمام أحمد هذه الكلمات توجه بالدعاء إلى الله تعالى أن لا يجمع بينه وبينه، فاستجاب الله دعاءه فجاءهم الصارخ بموت المأمون قبل وصول الإمام أحمد إليه[10]، فلله الحمد والمنة.

فرُدَّ الإمام أحمد إلى بغداد فسجن هناك أكثر من ثمانية وعشرين شهراً[11].

ففي عهد المأمـون كانت بداية محنته، وفي هذه الفترة حيث تم استجوابه ثم تقييده بالقيود والسلاسل، ثم سجنه في بغداد ثمانية عشر شهراً.

ثانياً: محمد بن هارون الرشيد:

لم تنقطع المحنة بموت المأمون، بل استمرت أشد مما كانت عليه من قبل؛ ذلك أن المأمون قبل موته أوصى محمد بن هارون الرشيد الملقب بالمعتصم بإشراك رأس الفتنة ابن أبي دؤاد معه في أمره[12]، والاستمرارِ بالقوْل بخلْق القرآن، فنفَّذ المعتصم وصية المأمون، وقام بدوره في المحنة، حيث عقد مجلساً حضـره ابن أبي دؤاد، ثم استدعى الإمام أحمد من السجن، وأحضر المعتصم له الفقهاء من المتكلمين فناظروه بحضرته مدة ثلاثة أيام، وهو يناظرهم، ويظهر عليهم بالحجج القاطعة، ويقول: «أنا رجل علمت علماً، ولم أعلم فيه بهذا، أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم  حتى أقول به»[13].

ولما انقطعت حججهم، وأيسوا من إجابته لهم جعلوا يحرضون المعتصم عليه، قائلين: يا أمير المؤمنين! هذا كافر ضالٌّ مضلٌّ.

وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين! ليس من تدبير الخلافة أن نخلي سبيله ويغلب خليفتين!

حينها اشتد غضب المعتصم، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء، قال الإمام أحمد: فعند ذلك قال لي: لعنك الله طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واخلعوه، واسحبوه.

قال الإمام أحمد: فأُخذت وسُحبت، وخُلعت وجيء بالعاقبين والسياط، وأنا أنظر... فقلـت: يا أميـر المؤمنين! اللهَ اللهَ؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث...»[14] وتلوت الحديث، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم»[15].

فبم تستحلُّ دمي، ولم آتِ شيئاً من هذا؟

يا أمير المؤمنين! اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك! فكأنه أمسك.

ثم لم يزالوا يقولـون له: يا أميـر المؤمنين! إنه ضالٌّ مضلٌّ كافر!

ثم جيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضرب الإمام أحمد سوطين، والمعتصم يقول للجلاد: شدَّ قطع الله يديك، ثم يجيء الآخر فيضربه سوطين، ثمَّ الآخر كذلك، فضربوه أسواطاً حتى أغمي عليه، وذهب عقله[16]، فلما سكن الضرب عاد إليه عقله، فأعادوا عليه الضرب، حتى صار لم يحس بالضرب، حتى أن أحد جلاديه قال: «والله الذي لا إله إلاَّ هو! لقد جلدتُ الإمام أحمد بن حنبل جلْداً لو جلدتُه بعيراً لَـمَات».

فلما رأى المعتصم شدة الضرب، وسيلان دم الإمام أحمد على الأرض هاله الأمر، وأصيب بالرعب، وخشي أن الإمام أحمد قد مات فأمر بإطلاق سراحه، قال الإمام أحمد: «لم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي»[17].

وأمر المعتصم عم الإمام إسحاق بن حنبل أن يشيع في الناس أن الإمام بخير، قال الذهبي: «كأنه خاف أن يموت من الضرب، فتخرج عليه العامة ولو خرج عليه عامة بغداد لربما عجز عنهم»[18].

ولَـمَّا رجع الإمام أحمد إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحماً ميتاً من جسده، وجعل يداويه، والنائب في كلِّ وقت يسأل عنه؛ وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندماً كثيراً، وجعل يسأل النائب عنه، والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد[19]. ففي عهده كانت محنته الترغيب والترهيب، والاستجواب والتعذيب حتى الموت!

ثالثاً: عهد هارون بن المعتصم:

بعد موت المعتصم تولى الإمارة بعده ابنه هارون بن المعتصم الملقب بالواثق، إلا أنه لم يتعرض للإمام، حيث رأى أن التعذيب لا يفيد مع الإمام أحمد، وأنه عرف فيه أنه عن الحق لن يحيد، ورأى أتباعه في مزيد، فأمر أن يكون الإمام تحت الإقامة الجبرية في بيته، وأن لا يجتمع بالناس، ولا يساكنه بأرض ولا مدينة هو فيها[20].

ففي عهد الواثق كانت محنـة الإمام أحمد الإقامة الجبرية، حيث بقي الإمام أحمد ممنوعاً من لقاء طلبة العلم وعامة الناس، وتعليم الناس، وإلقاء الدروس، فبقي مختفياً، حتى مات الواثق.

رابعاً: عهد جعفر بن المعتصم:

بعد موت (الواثق) تولى بعده جعفر بن المعتصم الملقب بالمتوكل، فحصل للناس خير كثير؛ فقد انتصر أهل الحق، واندحر أهل البدع؛ إذ «أطفأ المتوكل نيران البدعة، وأوقد مصابيح السنة»[21].

وقد عظمت مكـانة الإمام أحمد لدى الخليفة المتوكل؛ فكان لا يولي أحداً إلا بمشورته، قال ابن كثير: «مكث إلى سنة وفاته وكل يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها، ويستشيره في أشياء تقع له»[22].

وفي عهد المتوكل ازداد الإمام أحمد رفعة، حيث أكرم المتوكل الإمام أحمد، وأرسل إليه العطايا، ولكن الإمام رفض قبول عطـايا الخليفة، معتبراً أن محنة السراء لا تقل خطراً عن محنة الضراء التي تعرض لها في عهد الخلفاء السابقين.

ذلك أن الصمود أمام محنة السراء نادر إلا على من وفقه الله، قال عبد الرحمن بن عوف: «ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر»[23].

وأيضاً انهال عليه سيل من عبارات المديح والإعجاب والثناء من قبل العامة والخاصة، فصمد أمام هذه المحنة، ولم يعجَب بذلك، ولم يلقِ لها بالاً.

وفي نهاية هذه الخيوط العامة عن محنة إمام أهل السنة نستخلص من ذلك أموراً عدة، منها:

الأمر الأول: تعرض الإمام أحمد لمحنتين عظيمتين:

الأولى: محنة الضراء: وذلك نهـاية عهد المأمون، مروراً بعهد المعتصم، ثم الواثق، حيث مورس ضده جميع صنوف التعذيب.

الثانية: محنة السراء: وذلك في عهد المتوكل، حيث ارتفعت المحنة، وعلت السنة، وقُمعَت البدعة، وبسطت الدنيا بين يديه، وعلت مكانته لدى العامة والخاصة، حتى وصل الأمر بالواثق أنه كان لا يقدِم على أمر حتى يستشيرَه فيه، ويعرضه عليه حتى يبدي رأيه فيه.

وقد أشار إلى هاتين المحنتين أبو البركات الآلوسي بقـوله: «وقد تداولته أربعة خلفاء: بعضهم بالضراء، وبعضهم بالسراء، فكان فيها معتصماً بالله عز وجل. تداوله المأمون، والمعتصم، والواثق بعضهم بالضرب والحبس، وبعضهم بالإخافة والترهيب، فما كان في هذه الحال إلا سليم الدين، غير تارك له من أجل ضرب ولا حبس. ثم امتحن أيام المتوكل بالتكرم والتعظيم، وبسطت الدنيا عليه فما ركن إليها، ولا انتقل عن حالته الأولى رغبة في الدنيا»[24].

الأمر الثاني: موقف أهل الحق وموقف أهل الباطل في هذه المحنة: فقد ثبت إمام أهل السنة ومعه آخرون ثباتاً فريداً، على الرغم من كل وسائل الإغراء والترهيب التي واجهها، متحليّاً بالشجاعة والثبات على الحق، متمسكاً بأدبيات الشريعة في زمن المحن، فكان رحمه الله في محنة الضراء صابراً راضياً بقضاء الله وقدره، محتسباً الأجر، مبتغياً بذلك وجه الله وحده، حتى أنه عفا وصفح عمَّن كانوا سبباً في محنته وتعذيبه، قال ابن كثير: «وجعل كلَّ مَن آذاه في حِلٍّ إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قـوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}  [النور: ٢٢]، وكان يقول: «ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وقد قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: ٠٤] [25].

وفي محنة السراء كان رحمه الله شاكراً لله، مثنياً عليه، زاهداً في الدنيا ومناصبها.

وفي مقـابل ذلك كان أهل الباطل ثابتين علـى باطلهم، مظهرين له في قالب الحق، مستخدمين كافة وسائل القمع في حق المخالفين لهم، ومسخرين كافة الإمكانات في سبيل ذلك.

الأمر الثالث: مآل ونهاية وعاقبة أهل السنة وأهل البدعة: لقد انتهت هذه المحنة بعاقبة حسنة لأهل السنة، حيث نُصرَت السنة، وقمعت البدعة بفضل الله ثم بفضل ثبات إمام أهل السنة، حيث نجح الإمام أحمد نجاحاً فريداً في هـاتين المنحتين في حين فشل فيهما خلق كثير؛ ففي محنة الضراء ثبت ولم يتراجع، ولم يتقهقر، ولم يحِد قيد أنملة، ولم يتسخط، بل كان في قمـة الشجاعة والصبر والرضا والطمأنينة، وفي محنة السراء لم يعجب ولم يغتر بثناء الجماهير عليه، بل كان حاله في هاتين المحنتين موافقاً للشرع، ومن ثَمَّ فقد خرج منهما نقياً صافياً كالمذهبة، كما قال بِشْر الحافي بعد ما ضرب أحمد بن حنبل: «أُدخل أحمد الكير فخرج ذهباً أحمر»[26].

وقد سطرت لنا كتب التـاريخ والسير والتراجم مكانة الإمام أحمد في حياته وبعد وفاته، أما في حياته فذلك مما يصعب بيانه في هذه الصفحات، وأما بعد وفاته فإن الناس لَـمَّا بلغهم وفاته تجمع حول بيته من الرجال والنساء ما لا يعلم عددهم إلا الله، وسدوا جميع الشوارع المحيطة والمؤدية إلى بيته، وشاركوا في الصلاة عليه، وشيعوه إلى قبره... قال عبد الوهاب الوراق: «ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية والإسلام كان أكثر من الجمع على جنازة أبي عبدالله»[27].

وقد رآه بعض العلماء في المنام بعد موته في هيئة حسنة، ونعيم مقيم، ومن ذلك: قال أحمد بن محمد الكندي: «رأيتُ أحمد ابن حنبل في المنام، فقلت: يا أبا عبد الله! ما صنع الله بك؟ قال: غَفر لي، وقال لي: يا أحمـد، ضُربْتَ فِيَّ قال: قلت: نعم يا رب، قال: هذا وَجهي فانظر إليه، فقد أبَحْتُكَ النظر إليه»[28].

وقال أبو يحيى السمسار البغدادي: «رأيتُ أحمد بن حنبل في المنام وعلى رأسه تاجٌ مُرَصَّع بالجَوهر، وإذا هو يَخطر خَطرة لم أعرفها له في دار الدنيا، فقلتُ له: يا أبا عبد الله! ما فَعـل الله بك؟ قال: غفر لي وأدناني وتَوَّجني التاج، فقال: هذا بقولك: القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذه مشيةُ الخدام في دار السلام»[29]. وهو في قبره تصله دعوات المؤمنين بالرحمة والمغفرة.

وأما مآل ونهاية وعاقبة أهل البدعة فكانت الذلة والصغار، والخزي والعار، وخاصة أولئك الذين تسببوا في محنته؛ فقد عاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة، فأحمد بن أبي دؤاد الذي أفتى بضرب العلماء وسجنهم وقتلهم، فقد عاقبه الله بالفالج (أي الشلل)، فمكث أربع سنوات قبل موته طريحاً في فراشه، وعزله المتوكل من وظيفته، بل أمر المتوكل بمصادرة جميع أمواله.

وأما نهاية الجلادين، فقد أصيب أبو ذر بالبرص والمرض، وتقطع جسمه، وأهلكه الله بسوء عمله.

وأما أبو العروق فمكث خمسة وأربعين يوماً ينبح كما ينبح الكلب، ابتلاه الله بمرض فصار ينبح كالكلاب[30].

وهم في قبورهم تصلهم لعنات المؤمنين، واللهَ أرجو أن يذيقهم النكال والعذاب الوبيل في الآخرة.

 


 


[1] «المنهج الأحمد»، لأبي اليمن العليمي: 1/36.

[2] ينظر: «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/336- 337، والجوهرة، للتلمساني: 1/457، وتاريخ الرسل والملوك، لابن جرير الطبري: 9/139.

[3] «مناقب الإمام أحمد»، لابن الجوزي، ص: 157.

[4] «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/365.

[5] «مناقب الإمام أحمد»، لابن الجوزي، ص: 416 - 417.

[6] «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/365.

[7] «تاريخ بغداد»، لأبي الفضل ابن طيفور، ص: 182 - 183، و «طبقات الشافعية الكبرى»، للسبكي: 2/39

[8] «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/366، و «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم»، لابن الجوزي: 11/24، و «سير أعلام النبلاء»، للذهبي: 10/288، و «طبقات الشافعية الكبرى»، للسبكي: 2/42

[9] «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/366

[10] ينظر: «سير أعلام النبلاء»، للذهبي: 11/241، و «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/366

[11] ينظر: «مناقب الإمام أحمد»، لابن الجوزي، ص: 427 - 431، و «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/366، و «سير أعلام النبلاء»، للذهبي: 11/252

[12] ينظر: «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/366، و «سيرة الإمام أحمد بن حنبل»، لصالح ابن الإمام أحمد، ص: 52

[13] «طبقات الشافعية الكبرى»، للسبكي: 2/48، و «سير أعلام النبلاء»، للذهبي: 11/246، و «سيرة الإمام أحمد بن حنبل»، لصالح بن الإمام أحمد، ص: 55، و «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/367

[14] رواه البخاري ومسلم.

[15] رواه البخاري ومسلم.

[16] «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/348، و «سير أعلام النبلاء»: 11/251 - 252 .

[17] «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/348، و «سير أعلام النبلاء»، للذهبي: 11/251 - 252، و «مناقب الإمام أحمد»، لابن الجوزي، ص: 431.

[18] «سير أعلام النبلاء»، للذهبي: 11/260.

[19] «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/369.

[20] ينظر: «سير أعلام النبلاء»، للذهبي: 11/264، و «مناقب الإمام أحمد»، لابن الجوزي، ص: 472.

[21] «مناقب الإمام أحمد»، لابن الجوزي، ص: 483 - 484.

[22] ينظر: «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/374.

[23] «سنن الترمذي»: 4/ 455، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن».

[24] «جلاء العينين»، لأبي البركات خير الدين الآلوسي، ص: 215.

[25] «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/369.

[26] «مناقب الإمام أحمد»، لابن الجوزي، ص: 157.

[27] ينظر: «سير أعلام النبلاء»، للذهبي: 11/332 - 334، و «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/375 - 356.

[28] «مناقب الإمام أحمد»، لابن الجوزي، ص: 593.

[29] «مناقب الإمام أحمد»، لابن الجوزي، ص: 586 - 587، و «البداية والنهاية»، لابن كثير: 10/377.

[30] ينظر: «المنهج الأحمد»، لأبي اليمن العليمي: 1/39 - 40.

 

  


أعلى