جامعة القرويين والإصلاح زمن الاحتلال الفرنسي
جامع القرويين، هو تجسيد للشخصية الثقافية المغربية في بُعدها العربي الإسلامي، فهو «ليس فقط مسجداً لأداء الصلوات ولكنه جامعة علمية، لو لم يمنَّ الله بها على أهل المغرب لكان ربما يدين بدين غير الإسلام، ويتكلم بلغة غير لغة القرآن»[1] حسب عبد الهادي التازي.
عرفت القرويين عبر تاريخها مراحل إشعاع وازدهار ونشاط فكري، تقابله فترات من الجمود الفكري والتراجع في أدوارها العلمية والثقافية.
وقد شكل استعمار المغرب من طرف فرنسا هزة عميقة للبِنْيات التقليدية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والتربوية ومنها القرويين، حيث بدا عدم مسايرتها للتحولات التي عرفتها أوروبا على كافة المستويات والأصعدة، وبدا معها الإصلاح ضرورة حتمية لضمان الاستمرارية والقدرة على المسايرة والمساهمة في تطور البلاد.
في هذا الدراسة، سنحاول الوقوف عند بعض ملامح الإصلاح في جامعة القرويين بفاس زمن الحماية الفرنسية، من خلال النقاط الآتية:
القرويين التأسيس والأهمية.
القرويين وسؤال الإصلاح زمن الحماية.
عوائق إصلاح القرويين زمن الحماية.
أولاً: القرويين التأسيس والأهمية:
تأسس جامع القرويين بفاس سنة 245هـ على يد فاطمة الفهرية، وارتبط وتلازم اسمه كمؤسسة علمية بمدينة فاس مركز الثقافة الحضرية بالمغرب، إضافة إلى تميُّزه بخاصية تجعله يختلف عن باقي المؤسسات التعليمية بالمغرب ككلية ابن يوسف بمراكش، فهو ليس مؤسسة تعليمية عتيقة فقط بل مؤسسة ثقافية تختزن جزءاً مهمّاً من تاريخ المغرب، لمساهمته في العديد من الأحداث التي طبعت تاريخ المغرب، حيث وصل دوره إلى درجة إقالة ملك وتنصيب آخر (عزل المولى عبد العزيز وتنصيب المولى عبد الحفيظ بالبيعة المشروطة)، كما شكَّل عبر تاريخه قلعةً للحفاظ على الثقافة الإسلامية واللغة العربية ومد الجسور الفكرية مع الأمم الإسلامية، ومعقلاً للفقه المالكي السني بالمغرب.
وكان التعليم بجامع القرويين يركز على الشريعة والدين الإسلامي واللغة العربية، وتعتمد طريقة التدريس فيه على طريقة الإلقاء المحض مجردة من كل عمل تطبيقي أو استنتاجي من جهة التلميذ، ويتم التركيز على أسلوب الحفظ؛ إذ إن قيمة العالِم تقاس بقوة ذاكرته وحجم محفوظاته.
وقد أولى السلاطين والحكام المغاربة عبر التاريخ عناية كبيرة لجامعة القرويين؛ فمثلاً في العهد المريني، عرفت ازدهاراً مهمّاً نظراً للاهتمام الكبير الذي أولته الدولة المرينية للتعليم ومدارسه، وهو ما جعلها مقصداً للطلاب من مختلف أقطار العالم الإسلامي والإفريقي والأوروبي، ومنافساً لجامع الأزهر بحكم أساتذتها وعدد طلابها وقيمتها العلمية. وهاته الأهمية، عبَّر عنها جورج هاردي (من منظري السياسة التعليمية الفرنسية بالمغرب زمن الحماية، كما شغل منصب أول مدير للتعليم العمومي بالمغرب خلال هاته الفترة) بقوله: «جامعة القرويين التي كانت تمثل في العصر الوسيط عند العالم الإسلامي، ما كانت تمثله جامعة باريس بالنسبة للعالم»[2].
واستمر هذا الاهتمام بجامعة القرويين في العهد العلوي باعتبارها مؤسسة علمية رسمية؛ وذلك عبر رعاية الدولة لها ومراقبتها وتوجيهها وإشرافها المباشر (تعيين الأساتذة، تحديد المواد المدرسة)، ومحاولة إخراجها من وضعية الجمود الفكري، ويظهر ذلك من خلال معارضة السلطان محمد بن عبـد الله لتدريس المختصرات بها كمختصر خليل، ومحاولته إحياء تدريس الحديث، وتأليفه لمجموعة من المؤلفات منها كتاب (مساند الأئمة الأربعة) و (الفتوحات الإلهية) ولقاءاته مع علماء القرويين.
والشيء نفسه، وقف عنده السلطان المولى عبد الرحمن الذي أصدر ظهيراً[3] سنة 1261هـ، يندد فيه بسلبيات التعليم بالقرويين وعقمه وطول مدته، وعجزه عن توفير نخبة فكرية تلبي حاجيات الدولة في مختلف المجالات، وهو ما جعلها تلجأ إلى إنشاء مدارس عصرية (مدرسة المهندسين بفاس ومدرسة الألسن بطنجة)، وإرسال بعثات طلابية إلى الخارج في عهدي محمد الرابع والحسن الأول.
فحالة الجمود الفكري بجامعة القرويين هاته، ابتدأت منذ القرن 15م واستمرت إلى حدود بداية القرن 20م، حيث توقف الإبداع والاجتهاد، وغلب التقليد على التجديد، وهو ما فتح المجال لبعض المحاولات الإصلاحية خصوصاً بعد فرض الحماية وإنشائها للتعليم العصري. فما هي أهم هاته المحاولات؟ وهل استطاعت أن تدخل ملامح التجديد في هاته المؤسسة التعليمية الدينية العتيقة؟
ثانياً: القرويين وسؤال الإصلاح زمن الحماية:
شكلت القرويين قلعة المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي؛ فقد لعب علماؤها دوراً مهمّاً في تأجيج الانتفاضة الشعبية ضد فرنسا بعد توقيع معاهدة الحماية في 30 مارس 1912م، وهو ما جعل المارشال ليوطي (أول مقيم عام بالمغرب)، يصفها بالبيت المظلم ويرهن مستقبل فرنسا بالمغرب بالقضاء والتحكم في القرويين، وفي ذلك يقول: «لا أخاف على حالنا، إلا من أصحاب هذه الجلابيب والبرانس الذين يترددون على القرويين، ليتحلق الطلبة حولهم، فيبثوا فيهم من روحهم الإسلامية المتعصبة قبل أن يلقنوهم دروساً في الشريعة الإسلامية»[4]. وقال أيضاً: «إذا تم لفرنسا القضاء على القرويين فقد ضمنت لنفسها الخلود في المغرب»[5].
كانت القرويين تعيش عقماً فكرياً زمن الحماية، وقد وصف لنا الحجوي هاته الوضعية بقوله: «الطالب المتخرج من القرويين أضعف ملكة واقتداراً من الطالب المتخرج من الأزهر بمصر، وكذا جامع الزيتونة بتونس، رغم أن المتخرج من القرويين لازم الدروس ست عشرة سنة والمتخرج من الأزهر أربع سنوات، غالباً هذا كله سببه فساد النظام في الأولى وصلاحه في الثانية»[6].
شكل إحداث سلطات الحماية الفرنسية لنظام تعليمي عصري ومتنوع بالمغرب مختلفٍ تماماً عن النظام التعليمي التقليدي الذي تمثِّل القرويين قمته سواء على مستوى المواد المدرَّسة أو الطرائق البيداغوجية والتربوية، هزة عميقة لعلماء القرويين وطلبتها وجعل فكرة إصلاحها ضرورة ملحَّة وحتمية لمسايرة التحولات العلمية لكي تستعيد الجامعة نشاطها وازدهارها «فبارتقاء القرويين وانتظامها يتقدم الإسلام والثقافة والأدب، وبتأخُّرها يتأخر المغرب أدباً وثقافة وديناً حسب الحجوي.
ورغم أن وضعية الجمود الفكري الذي كانت تعيشه القرويين يخدم مصالح المستعمر، إلا أن ذلك لم يمنعه من القيام بمجموعة من المحاولات الإصلاحية منذ بداية احتلاله للبلاد، بهدف تحويل جامعة القرويين إلى مجرد مؤسسة تربوية خاضعة للإدارة، ومـن أهم هاته التدابير الإصلاحية نذكر:
قام ليوطي بمجموعة من التدابير لإصلاح القرويين بهدف مراقبتها والتحكم بها، منها: إلحاق التعليم العالي الإسلامي بوزارة الأوقـاف ومراقبتـه بشكل خفي، وفتح مجال التعاون مع العلماء الذين لم يكـونوا رافضين للتعامل مع سلطات الحماية، كما عمل على التنسيق مع المخزن[7] من خلال شخصية محمد بن الحسن الحجوي[8].
إحداث المجلس التحسيني للقرويين سنة 1913م، وعقد أزيد من 28 لقاءً، خلصت لصياغة تقرير مكون من مئة ومادتين مقسمة لعشرة أقسام.
محاولة الوزير الحجوي الإصلاحية سنة 1919م، التي فشلت بسبب معارضة فقهاء القرويين.
تكوين لجنة بتاريخ 7/ 2/ 1930م، لوضع برنامج لإصلاح الدراسة بالقرويين برئاسة الصدر الأعظم وعضوية الوزير أبو شعيب الدكالي ورئيس محكمة الاستئناف الشرعي مولاي العربي العلوي، وممثل الصدر الأعظم محمد الحجوي والفقيه المعمري كممثل للإقامة العامة.
هاته المحاولة تعرضت للانتقاد من طرف بعض العلماء لرفضهم تدخل المخزن في شؤون القرويين وإسناد مهمة إصلاحه لعلماء موظفين كعبد الحي الكتاني، في حين ساندها بعض العلماء منهم أبو شعيب الدكالي.
دخلت مقررات الإصلاح حيز التنفيذ بمقتضى ظهائر 30 مارس 1931م و 31 مارس 1933م، وتنص على تحديد مدة الدراسة في 12 سنة موزعة على ثلاث أسلاك (ابتدائي وثانوي وعالٍ)، كما قسمت المقررات إلى شعبتين: الشعبة الدينية والشعبة الأدبية، مع إدخال مواد جديدة وإجراء امتحانات عوض نظام الإجازة التقليدية، وتغيير وضعية المدرسين الذين أصبحوا مجرد موظفين براتب شهري كباقي موظفي الدولة، وبدخول العلماء في سلك النظام، أصبح الراتب همّاً أساسيّاً لدى معظمهم، وصرَفهم عن مهامهم الحقيقية، وذلك ما عبَّر عنه أحد العلماء بقوله: «لقد كنا أحراراً لا نخاف في الصدع بالحق لومة لائم، حتى حلت الحماية، وصارت تمنحنا في كل شهر حزمة من الدراهم، فإذا نزلت نازلة استحيينا من هذه الحزمة وخفنا من انفلاتها من أيدينا، فنسكت أو نفتي تبعاً لمصلحة الدرهم»[9].
ثالثاً: عوائق إصلاح القرويين زمن الحماية:
واجه إصلاح جامعة القرويين زمن الحماية عدة معيقات، منها ما هو داخلي، متعلق بفئة من علماء فاس المتشبثين بالتقليد والرافضين لأي تجديد أو إصلاح ولتدخل دولة أجنبية في الأمور الدينية ويعتبرون الإصلاح نوعاً من الخروج عن الدين.
ومنها ما هو خارجي، متعلق بالدولة الحامية التي كانت ترفـض أي إصلاح يمس بهيكلة القرويين بهدف الحيلولة دون استعادتها لأدوارها الدينية والوطنية وحيويتها، التي كـانت تتمتع بها في مراحل تاريخية سابقة وذلك تحت مبررات مختلفة كذريعة الميزانية.
فإصلاح الحجوي الأول 1914م لم يخرج لحيز الوجود، ويرى صاحبه أنه لو خرج لكان محيياً للقرويين مجدداً لهيأتها التدريسية وسجل بمرارة ذلك بقوله: «فبينما نحن نبني ونصلح ونرمم بفاس، وقد شرعوا بالهدم والتخريب في الرباط بغير فاس، وما كدنا نختم القانون المشار إليه حتى صدر أمر شريف برجوعنا»[10].
أما ظهيرا 1931 و 1932م الخاصان بتنظيم التعليم بالقرويين وتأسيس المجلس الأعلى للتعليم الإسلامي، فقد صاحبتهما احتجاجات ومظاهرات من طرف العلماء الرافضين إسناد هذه المهمة للعلماء الموظفين رغبة منهم في الحفاظ على امتيازاتهم، وهو ما نتج عنه تأجيل تطبيق جزء من هذا التنظيم حتى نهاية الأربعينات[11].
ساهمت هاته المعيقات في حفاظ التعليم في القرويين إبَّان الحماية على استمراريته بقوالبه القديمة، حيث ظل جامداً في تقاليده، فلم يدخله الإصلاح بالمعنى الحقيقي الذي يحدث تغييراً، بفعل عوامل من داخله، متمثلة في المعارضين من العلماء والأساتذة، لأي تغيير في دوره، وبفعل سياسة فرنسا القائمة على الإبقاء عليه تقليدياً جامداً حتى لا يهدد مصالحها، وكذلك كان النشاط العلمي بالقرويين محدوداً سواء من حيث الإنتاجُ العلمي ويشمل التأليف، والاكتشاف، ونشر أبحاث جديدة في التفكير[12]؛ فالقرويين في هذا المجال مصابة بعقم مزمن، أو من حيث المساهمةُ في تقدم البلاد اجتماعياً واقتصادياً.
على سبيل الختم
تبقى جامعة القرويين قلعة الوطنية المغربية التي أمدت الحركة الوطنية برجالاتها لمقاومة المستعمر الفرنسي، والمجسِّدة للشخصية الثقافية المغربية في بعديها العربي والإسلامي، إلا أنها على المستوى الفكري ظلت تمثل قلعة القديم ولم تستطع مسايرة النمط التعليمي الذي أحدثته سلطات الحماية الفرنسية، رغم عديد الإصلاحات التي استهدفتها بفعل مقاومة أنصار الفكر التقليدي المحافظ من علمائها الرافض لأي تجديد أو تغيير، وبفعل عوامل سياسية مرتبطة بالمستعمر.
فوضعية إصلاح القرويين زمن الحماية، تجعلنا نتساءل في حاضرنا عن وضعية هاته الجامعة ومعها مؤسسات التعليم الديني عموماً، وضرورة إصلاحها فكراً وطرائقَ ومناهجَ حتى تستطيع مسايرة التحديات الجديدة التي تواجه عالمنا العربي والإسلامي، من تنامي فوبيا الإسلام عبر نشر الإسلام كما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وإبراز عمق رسالة الإسلام الحضارية.
[1] التازي عبد الهادي، مرفأ الذاكرة، مجلة العربي، عدد 522، ماي 2002م.
[2] هاردي جورج، اتجاهات التعليم العمومي في العشر سنوات الأولى من الحماية ضمن ندوة (التعليم والمسألة عبر تاريخ المغرب)، ترجمة أمينة بريدعة، مجلة (أمل)، عدد مزدوج 28 - 29، 2003م، ص102.
[3] الظهير: الظهير الشريف أو الظهير الملكي، هو عبارة عن مرسوم يصدره ويوقِّعه السلطان (الملك) بنفسه بصفته أعلى سلطة بالمغرب.
[4] الدفالي محمد معروف،القرويين والصراعات السياسية في مغرب الحماية، ضمن «محطات في تاريخ التعليم
،1996الديني"،منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق الدار البيضاء، مطبعة فضالة، المحمدية، 93ص
[5] بلكبير محمد، المنهاج التربوي بالمدرسة المغربية زمن الحماية الأسس والوظائف، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى، 2003، ص 318
[6] الحجوي محمد بن الحسن، كناش الحجوي الثعالبي، الخزانة العامة، رقم 127 ح
[7] المخزن : دلالته اللغوية، هي المستودع أي المكان الذي كانت تودع فيه الذخائر المختلفة من أسلحة وزكوات وأعشار وكل ماهو موجه لبيت المال. أما مفهومه الاصطلاحي، في الأدبيات السياسية التاريخية المغربية، فيطغى عليه بغض الغموض ومختلف حسب الباحثين الا أنها تشترك في دلالته على الإدارة التقليدية للحكم بالمغرب ممثلة في النخبة الحاكمة (الملك وحاشيته وأعيانه..)، فهو جهاز إداري مركب أو الأداة الهيكلية والفكرية والاجتماعية والتصورية المسيرة للدولة المغربية.
[8] بوشعاب محمد، سياسة ليوطي الأهلية 1925-1912 ، رسالة دكتوارة مرقونة، إشراف : بوجمعة رويان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية - القنيطرة، الموسم الجامعي 2019-2018، ص 212
[9] المرجع نفسه، ص 125.
[10] بنسعيد العلوي، الاجتهاد والتحديث دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة االثانية، 2001م، ص197.
[11] آسية بنعدادة، علماء المغرب ورهانات إصلاح التعليم بجامعة القرويين، مجلة المدرسة المغربية، العدد الثاني، دجنبر 2009م، ص80.
[12] سوالم أحمد، التعليم العربي الإسلامي بتونس والمغرب، مجلة ليكسوس في التاريخ والعلوم الإنسانية، العدد العاشر، فبراير2017م، ص 117.