أمريكا نحو بناء حزام ناري حول الصين
سرعت الولايات المتحدة الأمريكية خطواتها وتحركاتها، لتفعيل وإنفاذ جوانب متعددة من خطتها الإستراتيجية بعيدة المدى، التي تستهدف وقف اندفاع الصين الطَّمُوح للوصول إلى موقع الدولة الإمبراطورية الأولى، على حساب انفراد الولايات المتحدة بقيادة وإدارة النظام الدولي لتحقيق مصالحها الاستعمارية.
تسرِّع الولايات المتحدة الخطى في الفترة الأخيرة، للتصعيد في مواجهة الصين؛ حتى بدت وكأنها تضع المواجهة مع الصين على رأس أولوياتها الدولية، وأنها قررت الخروج من حالة الصراع على جبهات دولية واسعة ومتعددة، والتركيزَ على مواجهة الصين؛ بل يمكن القول بأن سلوك الولايات المتحدة الأمريكية بات يشي بوجود تقديرات إستراتيجية لديها، تقول بأن الحفاظ على موقعها دولةً مهيمنةً على النظام الدولي اقتصاديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً وديبلوماسياً وماليّاً، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق والانتقال إلى نظام القطب الواحد، بات مرهوناً بتحقيق الفوز الإستراتيجي على الصين، وهو ما يعني أن العالم سيعيش حالة صراعية مفتوحة على تطورات واسعة المدى زمنيّاً.
آخر الخطوات الأمريكية، ضمن تلك الإستراتيجية المتسارعة، كان الإعلان الصريح والمباشر عن نشر صواريخ أمريكية متوسطة المدى في مواجهة الصين، أو لإحاطة الصين بحزامِ نارٍ صاروخي، يحقق للولايات المتحدة فارقاً زمنيّاً في استخدام السلاح الصاروخي لمصلحتها؛ إذ يبدو صعباً أو مستحيلاً أن تنشر الصين صواريخ متوسطة المدى في دول محيط الولايات المتحدة، كما جرى خلال الستينيات من القرن الماضي حين نشرت روسيا صواريخها في كوبا.
تلك الخطوة الأمريكية - على خطورتها - لا ينظَر إليها على أنها خطوة عسكرية محضه؛ بل في بعدها الإستراتيجي الأوسع والأشمل؛ إذ جاء الإعلان عن نشر الصواريخ، دفعاً وتطويراً للعملية الأمريكية الجارية منذ عدة سنوات لإثارة النزاعات بين الصين ومحيطها لإنهاكها ووقف توسعها الدولي. لقد بذلت الولايات المتحدة جهـوداً واضحةً لدفع اليـابان لتطـوير قدراتها العسكرية (الهجومية) وتغيير دستورها بما يمكِّن الجيش الياباني من تغيير عقيدته القتالية الدفاعية ولتحقيق الارتباط بالخطط الأمريكية في المنطقة والعالم، ولعبت في ذلك على ورقة الخلافات (اليابانية - الصينية) حول إحدى الجزر المتنازع عليها وعلى إرث الصراع (الصيني - الياباني). كما بذلت الولايات المتحدة جهوداً كثيفة لدفع الدول الثمانية (المتشاطئة) مع الصين في بحر الصين الجنوبي مثل فيتنام وإندونيسيا والفلبين... إلخ، للصراع العسكري مع الصين حول الجزر والمرور في هذا البحر الذي تنظر له الصين على أنه حائط أمان إستراتيجي لها. ومؤخراً قررت الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب، الذي يصف نفسه بمبعوث الرب للمواجهة مع الصين، إنفاذَ صفقة تسليح مع تايوان، تمنحها 66 طائرة حديثة كانت الإدارات السابقة قد امتنعت عن الموافقة عليها، حتى لا تفتح حركة الصراع مع الصين لآفاق خطرة.
والأخطر أن الإعلان الأمريكي عن نشر صواريخ متوسطة في آسيا، في مواجهة الصين، جاء بعد نشر كتابات إستراتيجية أمريكية طوال السنوات الأخيرة، تحـدثت صـراحة عــن ضـرورة التبكيـر بشـن حـرب عسكرية شاملة على الصين؛ إذ لا يمكن مواجهة الصين عبر الإجراءات الاقتصادية فقط. تلك الكتابات المنشورة تحدثت بوضوح عن ضرورة مهاجمة الصين قبل أن تصل لمستوى التسلح الصاروخي النووي كروسيا، التي لا يمكن مواجهتها عسكريّاً بحكم ترسانتها النووية التي حققت معادلة استحالة الهجوم النووي الأمريكي عليها.
نشر الصواريخ متوسطة المدى:
كانت تصريحات وزير الدفاع الأمريكي حول نشر الصواريخ متوسطة المدى في آسيا، لافتة في وضوحها وتحديدها الصين جهة يجري استهدافها. وجاءت التجربة الأمريكية لإطلاق صواريخ جديدة متوسطة المدى - التي كانت ممنوعة في ظـل سريان المعاهدة الملغاة الآن بعد انسحاب روسيا الطرف الثاني في المعاهدة - لتظهر أن الولايات المتحدة جادة في إجراءاتها وأنه على الصين أن تأخذ ما يجري باعتباره تغييراً جوهريّاً في التوازنات الإستراتيجية في محيطها خاصة وفي آسيا بشكل عام.
لقد قيل في بداية التمهيد الأمريكي لقرار الانسحاب من اتفاقية تحديد الصواريخ متوسطة المدى، إن القرار الأمريكي يجري التفكير في اتخاذه للرد على الانتهاكات الروسية لبنود المعاهدة، حتى أن وزير الخارجية الأمريكي قال بوضوح إن روسيا هي المسؤولة الوحيدة عن انتهاء المعاهدة[1]. غير أن الأمور تبدلت بعد توقيع الرئيس الأمريكي قرار إنهاء العمل بتلك المعاهدة؛ إذ لم يمرَّ سوى يوم واحد على الإعلان النهائي عن الخروج الأمريكي، إلا وأعلن وزير الدفاع الأمريكي عن زيارة آسيا، ومِن على متن الطائرة المتوجهة إلى سيدني بأستراليا، أدلى بتصريحات واضحة الدلالات وبلا مواربة، بأن الصين هي المستهدفة.
قال وزير الدفاع الأمريكي الجديد (مارك إسبير): إن واشنطن تريد نشر صواريخ جديدة بسرعة في آسيا لمواجهة صعود الصين في المنطقة[2].
وهكذا، فاذا كان طبيعيّاً القول بأن الصواريخ متوسطة المدى سيتم نشرها في القواعد الأمريكية في آسيا أولاً وبعضها قرب الصين، فالأهم أن مثل تلك الصـواريخ سـيجري نشرها - وهذا هو الأهم بالنسبة للولايات المتحدة - في دول محيطة بالصين على خلفية عملية متواصلة منذ سنوات لإنماء الصراعات بين الصين ومحيطها الإقليمي، وهنا يصبح نشر الصواريخ متوسطة المدى أداةً إستراتيجية شاملة في الصراع مع الصين؛ إذ نَشْر مثل تلك الصواريخ سيقلل من مخاوف وقلق الدول في محيط الصين من الدخول في مواجهة مع الصين بسبب قوَّتها الهائلة، مقارنة بدول صغيرة في محيطها.
وفي ذلك يجب القـول بأن الولايات المتحدة وعبر زيارة وزير دفاعها الأخيرة لآسيا قد بدأت (معركة) نشر الصواريخ في محيط الصين (وربما هي تصعِّد الآن للوصول لبناء ما يسمى بالناتو الآسيوي)، وتلك معركة ليست بالسهلة وستأخذ وقتاً؛ إذ حلفاؤها ما يزالون في حالة القلق وربما الرفض أيضاً، في ضوء ما أعلنه رئيس الفلبين (رودريغو دوتيرتي) الذي صرَّح قائلاً: «إن الولايات المتحدة ترغب بنشر بعض الصواريخ الباليستية متوسطة المدى في بلادنا. هذا لن يحدثَ لأنني لن أسمحَ بذلك بوصفه انتهاكاً للدستور». وما يزيد من وضوح شدة العقبات التي تواجهها خطة الولايات المتحدة نشر الصواريخ على أراضي دول محيط الصين، أن الفلبين ترتبط والولايات المتحدة بمعاهدة دفاع مشترك منذ عام 1951م تقضي بدعم بعضهما بعضاً، في حال تعرض أيٌّ منهما للهجوم من طرف ثالث[3].
غير أن التمهيد للإعلان عن الانسحاب الأمريكي من معاهدة نشر الصواريخ المتوسطة الذي استمر عدة شهور، شمل تصريحات أمريكية تحدثت عن ضرورة ضم الصين لأية معاهدة قادمة، والتسريبات التي تواترت خلال تلك الفترة عن نشر صواريخ متوسطة في محيط الصين، قد أحدثت تغييرات هامة.
والأهم في صدى ونتائج الإعلان الأمريكي كان ما قامت به الهند في كشمير. لقد صار واضحاً للهند في ضوء تلك التصريحات الأمريكية، أن نشر الصواريخ متوسطة المدى في محيط الصين، سيغيِّر المعادلات لغير مصلحة الصين (وحليفتها باكستان) وسيضعهما في موضع حرج، فقامت بإعلان ضم إقليم جامو وكشمير دون اعتبار للرد الصيني والباكستاني.
بل يمكن القول بأن القرار الأمريكي بنشر صواريخ متوسطة المدى في مواجهة الصين، جاء بالارتباط مع تصاعد التعاون الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والهند على مختلف الصعد في ما وُصِف بمنح الولايات المتحدة لنيودلهي الدور الإستراتيجي نفسه الذي سبق أن منحته للصين في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق خلال حقبة الحرب الباردة.
لقد حدث تغيير كبير في العلاقات الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند، شمل التعاون العسكري النووي والإمداد بالأسلحة المتطورة والتعاون الاستخباري والأمني والاقتصادي، بما بات يغيِّـر التوازنات والتوجهات الإستراتيجية في آسيا لمصلحة الهند في مواجهة الصين وباكستان، بعد خطوة نشر الصواريخ الأمريكية متوسطة المدى في مواجهة الصين.
قفزة في الضغط الأمريكي مع الصين:
لقد تعددت وتسارعت وسائل الصراع والضغط الأمريكي على الصين مؤخراً، لجرِّها إلى مواجهة تنهك قواها، كما كان الحال مع روسيا خلال الحرب الباردة.
كانت الولايات المتحدة اعتمدت خطة إستراتيجية بعيدة المدى لقطع الطريق على المخطط الإستراتيجي الصيني الشامل للهيمنة على الاقتصاد الدولي عبر التجارة والتنمية وسياسة الإقراض، التي تُوِّجت قبل خمس سنوات بإعلان خطة الحزام والطريق. ويمكن القول بأن بعضاً من الجوانب الإستراتيجية الأمريكية من احتلال أفغانستان والعراق وفي الضغط على باكستان وإيران وإسقاط الحكم في فنزويلا، تتعلق فعليّاً بتلك الإستراتيجية الأمريكية التي استهدفت السيطرة على طرق التجارة ومنابع النفط وتفكيك وإرباك الدول المحورية في خطوط حركة إستراتيجية الطريق والحزام.
ويبدو أن الولايات المتحدة أدركت الآن (متأخرةً) أنها لم تنجز أهدافها، وأن الصين حققت تطويراً لخططها ولقدراتها، بعد انضمام 105 دول و 29 منظمة دولية لخطة الحزام والطريق، وبعد أن وقَّعت الصين نحو 150 وثيقة اتفاق مع دول العالم لإنفاذ تلك الخطة، كما تشعر الولايات المتحدة بهزيمتها المتصاعدة في إفريقيا أمام المد الصيني، بل حتى في أوروبا التي يتصاعد تعاملها الاقتصادي مع الصين؛ إذ وصل عدد رحلات قطارات الشحن الصينية نحو 10 آلاف رحلة تربط بين 48 مدينة صينية و20 مدينة أوروبية.
ولذلك عمـدت الولايات المتحـدة إلى تغييـر نمط حركتها الإستراتيجية، وتوجهت نحو إسراع خطط المواجهة، فأشعلت حرباً اقتصادية متصاعدة، بأبعاد متعددة؛ فهناك فرض جمارك على السلع الصينية الداخلة للأسواق الأمريكية، وهناك الحرب الشاملة التي أعلنتها إدارة ترامب على شركة هواوي، وهناك إعلان أمريكي للصين بأنها دولة متلاعبة بأسعار العملات. وهنا جاءت خطوة الإعلان عن نشر الصواريخ متوسطة المدى في محيط الصين للتحول نحو الضغط العسكري المباشر، وهو تطور خطير إذ جاء مصحوباً بإنماء إعلامي لفكرة الصراع الأيديولوجي مع الصين (الشيوعية وَفْقَ اللهجة المتنامية في الإعلام الأمريكي) وبضرورة مواجهة القوة العسكرية الصينية النامية وَفْقَ معركة صفرية؛ بل ظهرت مطالبات للإدارة الأمريكية الحالية بضرورة تحييد روسيا أو حتى التحالف معها لمواجهة الصين حصريّاً.
لكن الملاحظ حتى الآن أن الصين لم تظهر دلالات على تغيير إستراتيجيتها، ولم تنجرَّ لمواجهة هذا التصعيد والتسارع في خطوات الإدارة الأمريكية. البادي حتى الآن أن الصين ما تزال مواظبة على تحقيق خطواتها الإستراتيجية المعتمدة، بالسير في خطوط الحركة التنموية دون الانجرار لمواجهة شاملة مع الولايات المتحدة. ويمكن القول بأن الصين ما تزال عند موقف استيعاب الهجوم الإستراتيجي الأمريكي مع توجيه لكمات تستهدف تخفيف الهجوم وإضعافه. ما تزال الصين تتجنب المواجهة الشاملة وفي موقع المراهنة على عوامل قوَّتها وعوامل الضعف الأمريكي بالمقابل.
لكن إلى متى ستستمر الصين في هذا النمط الإستراتيجي للمواجهة؟
هذا ما يبحث بشأنه الجميع!
[1] https://cutt.us/SKolT
[2] https://cutt.us/SKolT
[3] https://cutt.us/eEQUh