الشـذوذ في الفتوى.... الأسباب والأبعاد
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على من بعثه الله بالهدى واليقين؛ لينذر من كان حياً ويحقَّ القول على الكافرين. أما بعد:
فثمة غاية عظيمة كبرى من غايات الإسلام، جاءت بها نصوص الكتاب في آيات بيِّنات كثيرات، ونادت بها السُّنة في أحاديث وافرات، وتوارد علماء الإسلام سلفاً وخلفاً على تأكيدها، وبيان ضرورة تفعيلها في حياة الأمة؛ لأن في تركها انشقاق العصا، واستحكام الشقاق.
إنها غاية مسلَّمة لا شية فيها عند أُولِي الرجاحة والنُّهى، الذين يهدون بالحق، وبه يعدلون؛ فإنهم موقنون بأن صلاح الأمة منبعث من هذه الغاية التي جلاَّها القرآن أعظم تجلية وأوضحها، فقال - تعالى } وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا{ [ آل عمران:103 ]، وقال - سبحانه -: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْـمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [ النساء: 115 ] وقال}: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: ٣6 ]، وقال: } وَلا تَكُونُوا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ 31 مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }[الروم: 31 - 3٣].
إنها غاية لزوم الجماعة التي علَّق الله عليها تأييده ومعيَّته، كما في سنن الترمذي من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ»[1].
تأبى الرِّماح إذا اجتمَعْنَ تكسُّراً
وإذا افترَقْنَ تكسَّرَت أفرادا[2]
وفي حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عَن ْرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الإِنْسَانِ، كَذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ وَالشَّارِدَةَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَامَّةِ وَالْجَمَاعَةِ»[3].
وإن من عزائم ما ينتظمـه حبـل الجماعة، الاجتماعَ على آراء العلماء الراسخين، بعيداً عن شواذ الأقوال وغرائب الفتاوى؛ فإن ثمة ظاهرةً أطلَّت في سماء الفتوى يصدق أن تكون مخاضاً لولادة الشذوذ العلمي والإغراب في الفتوى؛ ألا وهي ظاهرة الشذوذ في الفتوى.
إنها ظاهرة قد برزت في هذه الأعصر، وأصبحت مظاهر امتدادها لا تخفى على المُطالِع في أكوام من الفتاوى الشاذة الغريبة، مع فهم بارد سميج لميج[4] لكلام أهل العلم الراسخين.
وقد نتج عن هذه الظاهرة: قلَّة الأدب مع أهل العلم، والتعجُّل في الفتـوى، ومصـادرة قول الجماعة، والفهم المعوج، والتذبذب في الأقوال، والتناقض في الأفعال، وإعجاب ذي الرأي برأيه، في لهث عجيب على الفتوى في المسائل الكبار التي لو كانت في عهد عمر الفاروق لجَمَع لها أهلَ بدر.
وعلى مثل هذا بكى ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك، رحمه الله، فقال له رجل: ما يبكيـك؟ فقال: (استُفتي مَن لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. قال: ولَبعضُ مَن يفتي ها هنا أحق بالسجن من السرَّاق)[5].
قال ابن القيم معلِّقاً: (قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام مَن لا علم عنده على الفتيا، وتوثُّبه عليها، ومدُّ باع التكلف إليها، وتسلُّقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكَر أو غريب؛ فليس له في معرفة الكتاب والسنَّة وآثار السلف، نصيب)[6].
قلت: فكيف لو شاهد ابن القيم متعالمي زماننا، ماذا سيقول؟
وقديماً قيل: (إذا كثر الملاحون غرقت السفينة)، وهي كلمة قديمة قالها أحد أئمة الإسلام يشكو فيها حفنة عفنة كدودة لزجة، متلبدة أسرابها في سماء غيرها، تقحَّموا في ما لم يُحسِنوا، ومن أقحم نفسه في ما لا يُحسِن أتى بالعجائب. خاضوا غمار البحار، من غير مهارة ولا دربة في الغوص، فانكشفوا وفضحتهم الأيام، وكل من يدَّعي ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان. وقد اشتكى ابن القيم - رحمه الله - امتحانه بهؤلاء فقال:
هذا وإني بَعْدُ ممتَحَنٌ بأر
بعةٍ وكلُّهم ذوو أضغانِ
فظٌ غليظٌ جاهلٌ متمعلمٌ
ضخمُ العمامةِ واسعُ الأردانِ
متفيهقٌ متضلِّع بالجهلِ ذو
صَلَع وذو جَلَح من العرفانِ
مزجى البضاعةِ في العلومِ وإنَّه
زاجٍ من الإيهام والهذيانِ
يشكو إلى الله الحقوقَ تظلُّماً
من جهله كشكايةِ الأبدانِ
من جاهلٍ متطبِّبٍ يفتي الورى
ويحيلُ ذاكَ على قضا الرحمنِ[7]
وإن من أعظم مغامز هذا الشذوذ أن أصبح روَّاده، وكأنهم ريشة في مهبِّ ريحٍ يومٍ عاصفٍ؛ تتقاذفهم الأهواء، وتتجاذبهم الآراء، وينفخ في رُوعِهم الإعلامُ؛ فطفق ملاَّك القنوات الفضائية، والصحف اليومية والأسبوعية يلمِّـعون هؤلاء، ويقدمونهم للناس على أنهم أصحاب علم، وأعلام هدى.
وإن لظاهرة الشذوذ في الفتوى أسباباً منها:
الأول: فقدان السُّنة المباركة في التلقي، وهي تلقِّي العلم في حِلَقِه وما يتبعها من مُشَامَّة الشيخ ومشافهته، ومجالسة أهل العلم، التي تصنع في النفس الصبر وطول النَّفَس ومِنْ ثَمَّ العمق والعقل والتأني، وكما قيل: مفاتيح العلم أربعة: عقل رجاح، وشيخ فتاح، وكتب صحاح، ومداومة وإلحاح.
قال الإمام الذهبي - رحمه الله - يشكو هذه الظاهرة في زمانه: (وأما اليوم، فقد اتسع الخَرق، وقلَّ تحصيل العلم من أفواه الرجال، بل ومن الكتب غير المغلوطة، وبعض النَّقَلة للمسائل قد لا يُحسِن أن يتهجى)[8].
إن فقدان هذه السُّنة أو ضَعْفها سبب أصيل لبروز ظاهرة الشذوذ في الفتوى، وبالأحرى إذا وردت موافقةً لشهواتهم ورغباتهم.
الثاني: الظن بأن كـل من نال طرفاً من العلم له حق الفتوى، وهـذه لَعَمري مراهقـة علميـة؛ فإن مِـن مِحَـن هـذا الزمان تصدُّرَ أقوامٍ للإفتاءِ، ليس لهم في مَقام الفتوَى حظٌّ ولا نصيب. غرَّهم سؤالُ من لا علمَ عنده لهم ومسارعةُ أجهلَ منهم إليهم.
والفتوى منزَّلة عليَّة لا ينالها إلا من تحققت فيه الشروط المقررة عند أهل العلم، ومنها:
• العلم بكتاب الله - تعالى - وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بهما من علوم.
• العلم بمواطن الإجماع والخلاف والمذاهب والآراء الفقهية.
• المعرفة بأصول الفقه ومبادئه وقواعده، ومقاصد الشريعة، والعلوم المساعدة مثل: النحو والصرف والبلاغة واللغة والمصطلح وسائر علوم الآلة.
• المعرفة بأحوال الناس وأعرافهم، وأوضاع العصر ومستجداته، وما بُنِي على العُرف المعتبَر الذي لا يصادم النص، وغير ذلك مما شَرَطه العلماء في المفتي ليكون أهلاً للفتوى، وأنت إذا تبصَّرت أحوال أهل العلم في هذا العصر، وجدت أن من يتصف بهذه الشرائط قلائل بين أهل العلم.
قال الإمام ابن حزم - رحمه الله -: (لا آفة على العلوم وأهلها أضرُّ من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون)[9].
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب)[10].
وقال بعض المصنفين: (الانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل به أحد فيه، ينبئان عن خلل في العقل)[11].
الثالث: حب الصدارة والتصدُّر في الفتوى؛ فكم ترى نِزالاً في حلائب العلم، يرومون مقاماته الشامخة من غير شموخ ولا نضج، ونَفْس الإنسان الطموح تتوق إلى هذه المنازل، ولكن الموفَّق يقهر ذلك بالمجاهدة، وهَضْم النفس، وكَبْح الجماح، ولو أن المرءَ أسلم الزناد للنَّفس لأسلمته للسقوط والهلكة.
إنَّ من الافتراءِ على الله - تعالى - والكذِب على شريعتِه وعبادِه ما يفعَله بعضُ المتعالمين من التسرُّع في الفُتْيا بغير علم، والقول على الله - تعالى - بلا حُجَّة، والإفتـاء بالتشهِّي والتلفيق، والأخذِ بالرُّخَص المخالفة للدليل الصحيح، وتتبُّع الأقوال الشاذَّة المستنِدة إلى أدلَّة منسوخةٍ أو ضعيفة.
إن التعالم الخدَّاع هو عَتَبَة الدخول إلى جريمة القول على الله بغير علم، المحرَّمة تحريماً أبديّاً في جميع الشرائع، وهذا مما عُلِم من الدين بالضرورة، وعلى وجه أخص حينما تختلط الأوراق ويشيع الجهل، وفي حديث عبـد الله وأبي موسى - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لَأَيَّاماً، يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ»[12].
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ»[13].
الرابع: غياب منهج السلف الصالح عند هؤلاء؛ فإن سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم - كانوا أبرَّ هـذه الأمة قلوباً، وأعمقها هدياً، وأقلَّها تكلُّفاً، كانوا - رضوان الله عليهم - أعظم الناس ورعاً، وأقلَّهم في الدين كلاماً، وربَّما سئل أحدهم سؤالاً فيحيلـه على أخيه، وأخوه يحيـل علـى غيـره، وهكذا لا يزال السائل ينتقل من واحد إلى آخر حتى يرجع السؤال إلى الأول. يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى - رحمه الله -: (أدركت بهذا المسجد (يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) عشرين ومائة من أصـحاب رسـول الله كلهـم يُسـأَل عن المسـألة فيقـول: لا أدري)[14]. وهذا أبو بكـر الصديق - رضـي الله عنه - على المنبـر الشريف يقول: (أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ أَعْلَمُ؟)[15]. وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الإمام الفاروق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، مَن ضرب الله الحقَّ على قلبه ولسانه، ومن لو رآه الشيطان سالكاً فجّاً لسلك فجّاً غيره، يقرأ قول الله - عز وجل -: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31 ]، ثم يقول وهو على المنبر: (هذه الفاكهة، فما الأبُّ؟، ثم يقول: إن هذا لهو التكلف يا ابن الخطـاب! وماذا على ابن أمِّ عمر لو جهل آيةً في كتاب الله؟)[16]. وهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: (وأبردها على الكبد قيل: ما هي؟ قال: لا أدري)[17]. وهذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - يقول: (العلم ثلاثة: آيةٌ مُحْكَمة، وسُنة ماضية، ولا أدري)[18]؛ فقد جعل (لا أدري) ثلثَ العلم، وجعلها غيره نصف العلم، وهكذا حتى أثمرت هذه الشجرة ثماراً مباركة فقعَّدت للدين قواعده، وثبَّتت أصوله، ومهَّدت فروعه.
جاء في سير أعلام النبلاء[19]: (أن أبا شهاب الحناط قال: سمعت أبا حصين (وهو عثمان بن عاصم) يقول: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر: لجَمَع لها أهل بدر).
لذا فليكن قول: (لا أدري) شـعاراً للمسـلم في حيـاته في ما لا يعرفه من أحكام الشرع، وهذه ملائكة الرحمن تقول ذلك في ما لا تدريه. قال - تعالى -: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْـمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ 31 قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْـحَكِيمُ} [البقرة: 31 - 32].
وما زال هذا العلم الشريف وهذا المنهج الرائد يحمله من كل خَلَفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، حتى نبتت في زماننا هذا نابتة لها ضجيج بين الناس، يكتبون كلاماً ويلقونَه. إنْ أحسنَّا الظن بهم قلنا: هم على جهلٍ عظيم، وإنْ حكمنا عليهم بما ظهر لنا منهم قلنا: قلوبهم تنطوي على دخن.
وتتأزم الفتنة بهم حين يكون أحدهم عليم اللسان، يُجادِلُ بالقرآن ويسرد على كلامه أدلَّةً، ويسوق براهين يحسبها الناس براهين للوهلة الأولى، ولكنها في حقيقة الأمر غُوْلُ[20] العلم.
وكم من فقيهٍ خابطٍ في ضلالةٍ
وحجَّته فيها الكتابُ المنزَّل
يلبَسون مسوح العلم، وكأنهم أهله المدافعون عن بيضته، الذائدون عن حماه الناطقون بكلمته وهم في حقيقة أمرهم يهدمون صروح الدين. قال عمر - رضي الله عنه -: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون)[21]. وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: (إن مما أخشى عليكم: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن)[22].
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم: (هلك المرتابون، إن وراءكم فتناً يكثر فيها المال، ويُفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر، فيوشك أحدهم أن يقول: قد قرأت القرآن، فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره، وإياكم وما ابتدَع؛ فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقَّوا الحق عمَّن جاء به؛ فإن على الحق نوراً. قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: هي كلمـة تَرُوْعُكـم وتنكـرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته ولا تصدنَّكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق، وإنَّ العلم والإيمان مكانَهما إلى يوم القيامة؛ فمن ابتغاهما وجدهما)[23].
الخامس: وازع الهوى الخفي الذي قد لا يتبصره المفتي ولا يعلمه؛ لأن للهوى خيطاً دقيقاً في النفوس يَحْكمها ويَسْري في أعماقها؛ حتى تظن حسناً ما ليس بالحسن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وللشريعة أسرار في سدِّ الفساد وحَسْم مادة الشر؛ لعِلْم الشارع بما خفي على النفوس من خفيِّ هواها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة؛ فمن تحذلق على الشارع وقال في بعض المحرَّمات: إنما حرمها لعلة كذا، وهي مفقودة هنا. فاستباح ذلك بهذا التأويل، فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربِّه)[24].
وقال - رحمه الله -: (ما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانَّة أنها تفعله طاعة لله)[25].
وقال أيضاً معلقاً على قوله - تعالى -: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْـحِسَابِ} [ص: 26]: (فبيَّن أن اتباع الهوى يُضلُّ عن سبيل الله؛ فمن اتبع ما تهواه نفسه أضلَّ عن سبيل الله؛ فإنه لا يكون الله هو المقصود، ولا المقصود الحق الذي يوصل إلى الله؛ فلا قَصَـد الحـق، ولا ما يوصـل إلـى الحـق؛ بل قصـد ما يهواه من حيث هو يهواه)[26].
السادس: الظن بأن الأخذ بمبدأ التيسير والرخصة هو الأصلح دائماً، وغاب عنهم أن الإسلام هو اليسر، وليس اليسر هو الإسلام؛ فحدث جراء هذا تتبُّع الرخص والجري وراءها هروباً من التكاليف، وتخلُّصاً من الواجبات، وهدماً لعزائم الأوامر والنواهي، وتوهيناً لمسير العبد في مدراج العبودية، ومنازل التألُّه والتذلل في مقام الألوهية، وهضماً لحقوق عباده.
وقد اعتبر العلماء هذا العمل فسقاً[27]، وحكى ابن حزم الإجماع عليه[28].
قال ابن عباس: (ويل للأتباع من زلة العالم)[29].
وقال سليمان التيمي: (لو أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله)[30].
وقال الإمام أحمد: (لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً)[31].
وقال الأوزاعي: (من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام)[32].
وروى الخطيب بسنده عن إبراهيم بن أدهم، قال: (إذا حملت شاذَّ العلماء حملت شراً كثيراً)[33].
وقال ابن حزم - رحمه الله تعالى - في كلامه على أنواع الاختلاف: (... وطبقة أخرى، وهم قوم بلغت بهم رقَّة الدين، وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كلِّ قائل؛ فهم يأخذون ما كان رخصة من كل قول عالم مقلدين له، غير طالبين ما أوجبه النص عن الله - تعالى - وعن رسول صلى الله عليه وسلم)[34].
ويقول الذهبي - رحمه الله -: (من تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رقَّ دينه)[35].
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: من هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة واعتمدها في نَقْله وفتواه، فقد تتبع الرخص ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها... وما أحسن ما قيل:
والعلمُ ليس بنافعٍ أربابَه
ما لم يُفِد نظراً وحُسْن تبصُّر[36]
وفي هذا الصدد يجب الإنكار على كل من اتبع هواه في الأخذ بفتاوى المتساهلين من المفتين، ومن اتبع هواه بتبنِّي الفتاوى الشاذة القائمة على حب المخالفة، وسعى لها سعيها، وجهر بها بين الناس.
والواجب على العامي أن يسأل أهل العلم الذين يثق بدينهم وعلمهم. وأما من عُرِف بالتساهل وتتبُّع الرخص وعدم الحرص على اتباع السُّنة، فلا يجوز لأحد أن يستفتيَه، ولا أن يعمل بما يفتيه به.
وليس كل قول قاله عالم أو متعالِم، صحيحاً، وليس كل ما قاله فقيه حقاً، إلا قولاً له حظٌ من الأثر أو النظر، وقديماً قال الإمام مالك - رحمه الله -: (كلٌّ يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم)[37].
وإذا كثرت الأقوال الشاذة من شخص مَّا، فإنه ينبغي أن يُحَذَّر منه؛ لئلا يغتر به العامة، من غير استرسال في الطعن بذاته، وينبغي الترفع عن القول المُسِف في شخصه أو الطعن في ذاته أو نسبه؛ فليس هذا سبيل أهل الرشد في هذه المواطن، بل سبيلهم بيان الخلل وكشف الزلل في القول دون الولوج في ذوات الأشخاص والإقذاع في العبارات، مع التأكيد الشديد على زجر من اختار هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها.
ونحن نعلم أن من واجب الجاهل أن يسأل عن دينه، وأن يقلد من يستفتيه، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه؛ وبخاصة إذا علمنا أن ذاك العامي الجاهل يتقصد الأخذ بمن عُرِف عنه قلَّة العلم، أو قلَّة الدين، أو من اشتهر بالشذوذ عن جماعة العلماء. قال ابن القيم - رحمه الله -: (العالم قد يزل ولا بد؛ إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله وينزَّل قوله منزلة قول المعصوم؛ فهذا الذي ذمَّه كل عالم على وجه الأرض وحرَّموه وذموا أهله، وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم؛ فإنهم يقلدون العالم في ما زلَّ فيه وفي ما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد، فيحلُّون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويشرِّعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك؛ إذ كانت العصمة منتفية عمَّن قلدوه فالخطأ واقع منه ولا بد.
وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا عن أبيه عن جدِّه مرفوعاً: «اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ وَانْتَظِرُوا فَيْئَتَهُ»[38]، وذكر من حديث مسعود بن سعد عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَشَدُّ مَا أَتَخَوَّف عَلى أُمَّتي ثَلاثٌ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ»[39].
ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليدُه فيها؛ إذ لولا التقليد لم يُخَف من زلة العالم على غيره؛ فإذا عرف أنها زلَّة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين؛ فإنه اتباع للخطأ على عمد ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه وكلاهما مفرط في ما أُمِر به)[40].
والشذوذ في الفتوى ليس جديداً بل هو قديم قدم الأيام، ولكنه في هذا الزمن يلقى رواجاً عريضاً من شرائح المسلمين بفعل الإعلام الذي يحتفي فيه بعض سدنته بالشذوذ لطيِّ صفحة الحق ومد ظل الباطل وضلاله.
وقد كان الخليفة المسدَّد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يدرك ما تُحدِثه الفتاوى المختلفة بين الناس، وكان موقفه منها صارماً، وأصرم منه موقفه تجاه من يأتي بالشاذ من الأقوال؛ فقد روى ابن أبي شـيبة عَنْ أَبِي سَـعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: «اخْتَلَفَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ أُبَيٌّ: ثَوْبٌ، وَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ: ثَوْبَانِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا عُمَرُ فَلاَمَهُمَا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيَسُوؤُنِي أَنْ يَخْتَلِفَ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ؛ فَعَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمَا يَصْدُر النَّاسُ؟ أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَأْلُ، وَالْقَـوْلُ مَا قَالَ أُبَيٌّ»[41].
وروى الإمام مالك عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: «أَنَّهُ مَرَّ بِهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ بِالرَّبَذَةِ، فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا نَاساً أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ، فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ»[42].
فكم يا تُرى من يستحق أن يُوجَع بسبب فتوى شاذة نسبها لشرع الله - تعالى - المطهَّر! وكم هم الذين يستحقون التأديب بسبب فتوى أحدثت شرخاً وصخباً وتهريجاً!
وليس المقصود هنا إنكار وجود خلاف بين العلماء في مسائل الفقه، لكنا ننكر على المفتي تتبُّع الأقوال الشاذة والمهجورة منها، وننكر جعل ذلك الخلاف سبيلاً لاختراع أقوال باطلة ينسبها لدين الله - تعالى - وهي ليست منه.
قال الشيخ بكر أبو زيد - عليه رحمه الله -: (ولم يفلح مَن جعل مِن هذا الخلاف سبيلاً إلى تتبُّع رخص المذاهب، ونادرِ الخلاف، وندرةِ المخالف، والتقاط الشواذ، وتبنِّى الآراء المهجورة، والغلط على الأئمة، ونصبها للناس ديناً وشرعاً)[43].
وفي مثل هذا المعترك الساخن الذي تكثر فيه الزيغات والزلات يجب على أهل العلم والرسوخ، تجلية الحقائق واستبانة سبيل الحق، ودفع إيهام المتعالمين المتحذلقين، وقد كان سلفنا - رضوان الله عليهم - يردون على من نطق بالباطل باطلَه، لا يخافون في الله لومة لائم، وقد يكون الأمر باطلاً محتمَلاً، وقد يكون أمراً فيه اجتهاد أو راجعاً إلى مصلحة، لكنهم - رضوان الله عليهم - لَـمَّا بايعوا رسول الله على السمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره بايعوه على أنْ يقولوا بالحق أينما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم[44].
ولما خرج عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - مع علي في وقعة الجمل وعلم أنَّ عائشة - رضي الله عنها - خرجت مع الجيش الآخر، وقف في الناس خطيباً وقال: (أيها الناس! والله إني لأعلم أنها زوجة نبينا في الدنيا والآخرة! ولكن الله ابتلاكم ليعلم أتطيعوه أم تطيعوها؟)[45]. لقد أثبت لها فضلها وشَرَفها ومِزيَتها - رضوان الله عليها - لكنه نطق بالحق وإن كان في خلاف عائشة - رضي الله عنها - لأن الحق أعلى وأغلى من الرجال.
قال رجل للإمام أحمد: إن ابن المبارك قال كذا، فقال الإمام أحمد: (إن ابن المبارك لم ينزل من السماء)[46].
وقال الإمام القرطبي، وقد ذكر الخلاف في حكم شرب النبيذ: (فإن قيل: فقد أحل شربه إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمامَ أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه...) ثم قال معلقاً: (هذه زلة من عالم وقد حُذِّرْنَا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السُّنة)[47].
وما عكَّر صفو الساحة في هذه الأيام إلا المجاملة، نغضُّ الطرف، ونسكت مرة بعد مرة، حتى يُطلَّ الباطل برأسه، ويَنشرَ على الناس رواقه، ويتَّبعَ المبطلَ فئامٌ مِنْ الناس ممن اغتروا بزخرف القول.
ولهذا كان من الوظائف الشريفة للأجلَّة مُقَارَضَة مجاهرة هؤلاء بالشذوذات، بالإجهار الشجاع بالحق؛ لأن سكوت الأكابر يزيد من تـنمُّر الأصاغر، ومن ثَمَّ الامتـداد الفج في صناعة منهج للشذوذ العلمي، سيكون له رموزه وأتباعه، ولربما تكون له الحماية والرعاية الكاملة، وهنا مَكْمَن الفتنة للناس الذين قد تخفى عليهم بدهيات العلم، وقد وجدنا مع الأيام أن هؤلاء لا يتورعون عن الفتيا بشيء مهما عظم، بل هم إلى القضايا الكبرى أسرع منهم إلى غيرها.
ولا يَجْمُلُ العلم بالعالِم إلا إذا لزم نصوص الشريعة وحمى حماها وناهض لأجلها مجتنباً الغرائب من الأقوال، والشذوذات من الفتـاوى، وما لا يُحـسِن الناسُ فهمَه، أو ما يسبب رقَّة في الدين، أو فحشاً في السلوك.
ولذا لا يُتصوَّر صدور مثل تلك الفتاوى المفسدة لدين الناس من مفتٍ يعلم ما وصلت إليه أحوال الناس من البُعد عن الشرع. قال العلاَّمة محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في شأن من تطاول على العلم في أحكام المناسك وغيرها في هذه الأزمان: (لقد انطلقت ألسنة كثير من المتعلمين، وجرت أقلام الأغبياء والعابثين، وطارت كلَّ مطار في الآفاق كلمات المتسرعين، واتخذت الكتابة في أحكام المناسك وغيرها تجربةً لأقـلام بعض، وجنـوح الآخرين إلـى إبراز مقتضى ما في ضمائرهم وأفهامهم، ومحبة آخرين لبيان الحق وهداية الخلق، لكنهم مع الأسف ليسوا من أهل هذا الشأن، ولا ممن يجري جواده في هذا الميدان، فنتج عن ذلك من القول على الله وعلى رسوله بغير علم وخرق سياج الشريعة ما لا يسع أُولِي الأمر من الولاة والعلماء أن يتركوا لهم الحبل على الغارب.
ولَعَمري لإن لم يُضرَب على أيدي هؤلاء بيد من حديد، وتُوقُّف أقلامهم عن جريانها بالتهديد والتغليظ الأكيد، لتكونن العقبى التي لا تُحمَد، ولتأخذنَّ في تماديها إلى أن تكون المناسك أُلعوبَة للاَّعبين، ومعبثة للعابثين، ولتكونن بشائرَ بين المنافقين، ومطمعاً لأرباب الشهوات، وسلَّماً لمن في قلوبهم زيغ من أرباب الشبهات، وفساداً فاشياً في تلك العبادات، ومصيبة لا يشبهها مصيبة، ومثار شرور شديدة عصيبة، ولَيَقومَن سوق غثِّ الرخص، وليبلغن سيل الاختلاف في الدين والتفرُّق فيه الزبى.
ولربما يقول قائل: أليس كتاب الله العزيز فينا موجوداً، وحسام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بيننا محدوداً.
قيل: نعم، ولكن ماذا تغني السيوف المغمدة، ولم ينل الكتاب العزيز مغزاه ومقصده.
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً
ولكنْ لا حياةَ لمن تنادي
ولو ناراً نفختَ بها أضاءتْ
ولكن أنت تنفخُ في رمادِ[48]
وقد كان الأئمة وأهل العلم يحتسبون أيَّما احتساب في مناصحة المتعالمين الذين يتقصدون الشذوذ في الفتوى، ومن لطائف ما جاء في ذلك ما ورد في رسائل الشيخ محمد بن إبراهيم:
(من محمد بن إبراهيم إلى المكرم... سلَّمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فالداعي إلى الكتابة لكم أنه تكرر منك تدخلكم في ما أنتم في غنى عنه، فضلاً عمَّا فيه من التنافي مع ما يقتضيه التقى والورع من وجوب استبراء العبد لدينه وعرضه، وذلك رأيكم في التصـديق للعـامة بإفتـائهم في مسائل الطـلاق بمـا هو خـلاف ما عليه الفتوى وما اشتهر القول به لدى جمهور العلماء، ومرجوحيته ظاهرة لدى المحققين من أهل العلم...
فنأمل منك - بارك الله فيك - الكفَّ عن إرباك العامة بفتاوى شاذة أو مرجوحة، ومتى تقدَّم إليك من يطلب الفتوى فعليك بالإشارة لهم إلى الجهة المختصة بالفتاوى، ونرجو أن يكون لديك من أسباب احترامك نفسك ما يغنينا عن إجراء ما يوقفك عند حدِّك، هذا ونسأل الله لنا ولك حُسْن الختام والتوفيق لما يحبه ويرضاه. والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص/ف 3868 في 15/10/1387هـ)[49].
ولربما قال قائل: أبعدت النجعة وأمعنت خيالاً حينما قرنت هذا العهد بذلك؛ لأن هذا هو عصر الانفتاح والانفساح والعولمة وحرية الرأي!
وبكل بداهة يقال: نحن لا نتطلب عهداً كعهد العلاَّمة محمد بن إبراهيم، وحنانيك بعض الشر أهون من بعض، بل هو بيان للدين، وحديث باسم التشريع القرآني والنبوي، وهذا ليس إلا لمن اختارهم الله ومنحهم علماً وفهماً ودركاً لمنازع النصوص ودلالاتها، وتوفرت لديهم شرائط الاجتهاد كما سبق، مع وجوب التزامهم بالدليل ومراعاة المصالح ومحاذرة الشذوذ والخروج على الإجماع والجماعة.
ومعلوم عند أهل العلم والإيمان أن الحق في الاتباع والدليل، وعدم مخالفة الجماعة، والأخذ بالأقوال الشاذة من غير برهان، {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْـمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115]؛ ولهذا لا يجوز أن يمكَّن من الخوض في الفتوى الجاهلون بمقاصد الشريعة ومدارك الأحكام، المتخرصون على معانيها بالظن، المتعالمون بلا رسوخ، الخائضون في مظان الاشتباه بلا تمييز، المقتحمون غمار الفتوى بلا علم ولا عدة ولا تأهيل.
وفي الأمة بحمد الله علماء متمكِّنون من درك أحكام الوقائع، بصيرون بمسالك النظر والاستنباط، راسخون في التخريج والترجيح. ولا تظهر الأفكار الزائغة والعقائد المنحرفة والأقوال الشاذة إلا بترك الصدور عن العلماء الراسخين، وأخذ العلم والفتوى عن أهل الجهل والهوى.
روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ؛ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوساً جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»[50].
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (لَيْسَ عَام إِلَّا والَّذِي بَعْده شَرّ مِنْهُ، لَا أَقُول: عَام أَمطَرُ مِنْ عَام، ولَا عَام أَخْصَب مِنْ عَام، وَلَا أَمِير خَيْرٌ مِنْ أَمِير، وَلَكِنْ ذَهَابُ علمائكم وخياركم، ثُمَّ يَحْدُث قَوْم يَقِيسُونَ الْأُمُور بِآرَائِهِمْ فَيُهْدَم الْإِسْلَام ويُثلم)[51].
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ»[52].
أليس هذا زمان الرويبضة؟ بلى والله! إن هذا زمانه، وإنها السنين الخداعة التي نطق فيها الرويبضة، كما أخبرنا بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل مئات السنين. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم من وقع في هذه الفتنة من المسلمين فردَّه إليك ردّاً جميلاً وافتح على قلبه وبصره بالحق، واكفه شر نفسه وشر الشيطان، وأعوان الباطل.
[1]جامع الترمذي: 4/466، رقم (2166)، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب»، وقال السخاوي في المقاصد الحسنة 1/717: «حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره»، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (3621).
[2] أرشيف المجلس العلمي، من موقع الألوكة: 5645/1.
[3] أخرجه أحمد: 36/358، رقم (22029)، و 36/421، رقم (22107)، وأبو نعيم في حلية الأولياء: 2/247، والطبراني في الكبير: 20/164، رقم (344) و (345)، والبيهقي في شعب الإيمان: 4/338، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/394: «رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات إلا أن العلاء بن زياد قيل: إنه لم يسمع من معاذ»، وقال الألباني في ضعيف الجامع رقم (1477): «ضعيف»، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند: «حسن لغيره، وهذا سندٌ رجاله ثقات إلا أنه منقطع؛ العلاء بن زياد لم يسمع من معاذ».
[4] سَميجٌ لَميجٌ: أي: قبيح. ينظر: الصحاح: 1/322، ولسان العرب: 2/300، والقاموس المحيط، ص (248).
[5] إعلام الموقعين: 4/207، 208.
[6] إعلام الموقعين: 4/207.
[7] نونية ابن القيم، ص (362).
[8] سير أعلام النبلاء: 11/377.
[9] الأخلاق والسير: 1/ 23.
[10] فتح الباري: 3/584.
[11] النظائر لبكر أبو زيد، ص (190).
[12] أخرجه البخاري: 6/2590، رقم (6653)، ومسلم: 4/2056، رقم (2672).
[13] أخرجه البخاري: 1/43، رقم (80)، ومسلم: 4/2056، رقم (2671).
[14] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى: 6/110، وابن حبان في الثقات: 9/215.
[15] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: 6/136، رقم (30103)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/240: «رواه البزار ورجاله رجاله الصحيح».
[16] أخرجه سعيد بن منصور: 1/181، رقم (43)، وابن أبي شيبة: 6/136، رقم (30105)، والحاكم: 2/318، رقم (3145)، والبيهقي في شعب الإيمان: 2/424، رقم (2281) .
[17] أخرجه الدارمي: 1/74، رقم 175، وابن عساكر: 42/510.
[18] ينظر: سير أعلام النبلاء: 29 /56.
[19] 5/416.
[20] الغُول: الهلكة والداهية. ينظر: لسان العرب 11/507، والقاموس المحيط، ص (1344).
[21] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: 2/223.
[22] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: 2/223.
[23] أخرجه عبد الرزاق: 11/363، وأبو داود، رقم (4611) مختصراً، والحاكم: 4/460، وابن عبد البر: 2/981.
[24] شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل، ص (116).
[25] مجموع الفتاوى: 28/207.
[26] جامع المسائل: 6/143.
[27] الموافقات: 4/140، شرح التنقيح، ص (386).
[28] مراتب الإجماع، ص (175).
[29] مدخل السنن، ص (687).
[30] أخرجه ابن عبد البر: 2/927، وعلق عليه بقوله: «هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً».
[31] جامع بيان العلم وفضله: 2/927، إرشاد الفحول: 1/454.
[32] رواه عنه البيهقي في سننه الكبرى: 10/211.
[33] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 2/160.
[34] الإحكام في أصول الأحكام: 5/645.
[35] سير أعلام النبلاء: 8/81.
[36] الرسالة التاسعة من عيون الرسائل للإمام عبد اللطيف آل الشيخ.
[37] ينظر: سير أعلام النبلاء: 8/93.
[38] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 10/211، رقم (20706).
[39] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 12/524، رقم (9829)
[40] إعلام الموقعين: 2/192.
[41] مصنف ابن أبي شيبة: 1/277، رقم (3188)، وقال الألباني في الثمر المستطاب، ص (295): «سند صحيح».
[42] الموطأ: 1/352، رقم (783).
[43] المدخل المفصل: 1/107.
[44] أخرجه البخاري: 6/2633، رقم (6774)، ومسلم: 3/1469، رقم (1709) من حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه.
[45] أخرجه البخاري: 6/2600، رقم (6687).
[46] ينظر: الفروع: 6/381.
[47] تفسير القرطبي: 10/131.
[48] فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ: 3/47 - 48.
[49] فتاوى ورسائل الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ: 11/36. وانظر في هذا الموضوع إرسال الشواظ على من تتبع الشواذ: (112 - 117)
[50] أخرجه البخاري: 1/50، رقم (100)، ومسلم: 4/2058، رقم (2673).
[51] أخرجه الدارمي: 1/76، رقم (188).
[52] الإسناد فيه ضعف، وقد أخرجه ابن ماجة: 2/1339 رقم (4036)، وأحمد: 13/291 رقم (7912)، والحاكم: 4/512 رقم (8439)، وقال: «صحيح الإسناد»، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (1887).