الطاهر أحمد مكي.. دافع عن التراث وناهض الحداثة!
في حياة العرب علماء أفذاذ، يضيئون حيوات الناس، ويحيون تراث الأجداد، ويحافظون على جمال الكتابة، ويختطون للأجيال طرائق جديدة من البحث والمغامرة الإبداعية والنقدية الخلاقة! وعلى رأس هؤلاء، يقف العلامة الدكتور الطاهر أحمد مكي (93 عاماً)، الذي رحل عنا العام الماضي.. شيخ كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، ورائد الأدب المقارن، وعميد الدراسات الأندلسية من المحيط إلى الخليج، وعضو مجمع اللغة العربية (الخالدين) بالقاهرة، والعصامي الكبير، الذي لم يكتف بشهادته الجامعية، ولكنه بدأ مشوار البحث والمطالعة وإتقان اللغات الأجنبية، وفهم التراث العربي وفق الدراسات الحديثة، فكانت مؤلفاته، وأبحاثه، وآراؤه، ونقده، وتصويباته، ومواقفه، وتحقيقاته، ومترجماته، وإسهاماته في الشأن العربي العام دالةً عليه، فقد جمع بين أساليب النخبة وطرائق العامة، فكان الرجل الذي قال: لا، عندما وجب عليه أن يقولها حفاظاً على العروبة والإسلام! وقال: نعم، عندما تحتَّم عليه أن يقولها، من أجل الدفاع عن التراث ضد هجمات المغرضين!
الإنسان الإنسان!
ولم يكتفِ الطاهر مكي بكل هذا الرصيد الكبير من العلم والتبحر، ولكنه كان إنساناً مع طلابه ومريديه! فكان رحمه الله يتبسَّط معهم، فلا يتجهَّم، ولا يقسو، كغيره من الأساتذة الذين يتخذون العبوس والغضب والتعالي شعاراً لهم في دروسهم! أما هو، فكان واحداً من تلامذته، حيث تشيع روح المحبة والمودة بينه وبين الجميع، لا، بل إنه يشتري لهم الكتب، والمصادر التي تُعْوِزُهم في دراساتهم العالية، ويشاركهم في البحث، ويدلهم على كيفية تذليل الصعاب، والاهتداء إلى الحلول، ويهديهم إلى المنهج العلمي بطريقة سهلة ميسورة!
هذا هو الطاهر مكي، بأخلاقه العالية، وتواضعه العجيب، وتبحُّره الشهير، وموسوعيته الفريدة، وإخلاصه المعروف، ودراساته القيِّمة، ومؤلفاته البارزة، ومواقفه الرائعة، ودفاعه المجيد عن العربية والتراث!
وإنْ أنسَ، فلا أنسى ما حييت، موقفه الذي حكاه أحد تلامذته بكلية دار العلوم قبل أكثر من ثلث قرن، عندما كان الطاهر مكي مشرفاً عليه في رسالته للدكتوراه، وذات صباح دخل عليه تلميذه مكتبه، فرآه الطاهر مكي متجهماً حزيناً، فقال له: ما الذي أحزنك يا بُنَيَّ؟! فلم يُرِد الطالبُ أن يُخْبِرَ أستاذه، ومع إصرار الأستاذ، حكى الطالب، كيف أن مشروع زواجه سيتأخر لمدة عامين، لأنه لا يستطيع توفير مقدم السكن، وكان مبلغاً باهظاً في تلك الأيام! فضحك الطاهر مكي، وقال له: بسيطة يا مولانا، ادع الله مُوْقِناً بالإجابة! ولا تنس أن تمر عليَّ غداً في الكلية، فسأحضر لك بعض النصوص المهمة لك في رسالتك.
في اليوم التالي، جاء الطالب، والهَمُّ يقتله، فإذا بالطاهر مكي، يُعطيه مظروفاً، فدُهِشَ الطالب، ومع إصرار الطاهر مكي، فتحه الطالب، فإذا هو المبلغ نفسه الذي يريده ثمناً للشَّقَّة، فرفض الطالب، إلا إن الطاهر مكي أصرَّ قائلاً له بحنو العالِم والأب: «أنتَ ولدي، وهذا حقك عليَّ، فأرجعه لي وقتما تقدر وتريد، فأنا غير محتاجٍ له الآن»!
إذن، فالطاهر مكي.. أعجوبةٌ بحقٍّ في دنيا العلم، والتأليف، والثقافة، والمواقف النبيلة! ولِمَ لا؟! وهو العصامي، الذي علَّم نفسه بنفسه، فلم يكتفِ بشهادة الدكتوراه من إسبانيا في عام 1961م، وإنما بدأ بنفسه مشوار التنقير، والتنقيب، والاستنباط، والبحث الدءوب في التراث العربي، وفي الآداب الغربية، والتي يجيد ستاً من لغاتها بمهارة فائقة، وهي: (الإسبانية، والبرتغالية، والفرنسية، والإيطالية، والإنجليزية، واللاتينية) إلى جانب العربية طبعاً، كما كتب في تاريخ الثقافة العام، من خلال الأدب المقارن، فهزم حملة الدكتوراه الكسالى، بموسوعيته، وتبحره، وقامته الفكرية المديدة، فأعاد لنا عصر الأجداد العباقرة الموسوعيين!
أول رئيس تحرير:
ولعله، كما حكى تلميذه الناقد الدكتور أحمد درويش، فقال عنه: «قد يكون الطاهر مكي أول رئيس لتحرير مجلة أدبية ثقافية معاصرة، ذات لون سياسي أو فكري تقدمي أو يساري» (مجلة أدب ونقد المصرية). تلك المجلة التي رأسها الطاهر مكي في مطالع الثمانينيات من القرن العشرين، فأحالها إلى لون من الأصالة والموضوعية، والدفاع عن التراث الأصيل!
عميد الأدب المقارن!
لأجل ذلك، فلو لم يؤلِّف الطاهر مكي سوى كتابه الفذ «الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه» لكفاه شاهداً على عبقريته، واستطالته العلمية، ومبايعةً له عميداً للأدب المقارن في مصر والوطن العربي!
كتب في الأدب، فأخرس النقاد الباحثين عن الصوت العالي والشهرة الزائفة! وكتب في المعارف، وفي الأدب المقارن، وتاريخ الآداب، والتحقيق، وفي الحضارة، والتلاقح الحضاري، فكان دائرة معارف حوت الشرق، والغرب، والقديم، والجديد! وبارَى عظماء الإنسانية، فصال وجال معهم بقريحته الوقادة، وألمعيته النفّاذة! وكتب في التاريخ، فأرَّخ ما غاب عن أهل التاريخ!
هاضم للتراث!
كشف عن صفحاتٍ مجهولة من عبق الماضي عبر كتابه العمدة، الذي راج بين العلماء، فتمَّ طبعه أكثر من ثلاثين طبعة، وهو «كتاب دراسة في مصادر الأدب» الذي ألَّفه وهو معيدٌ بكلية دار العلوم، حتى إن المحقق الراحل محمود الطناحي (1935-1999م) كتب عنه مقالين في مجلة «الهلال» في الثمانينيات، وصف جهد الطاهر مكي في هذا الكتاب بالخارق العظيم!
وتظهر مكانة الطاهر مكي الموسوعية، والفكرية بحق، من خلال تحقيقه الأهم، والأعلى قدراً بين جمهور المحققين لمخطوطة «طوق الحمامة» للفقيه الظاهري ابن حزم الأندلسي، حتى أضحى أفضل تحقيق لهذا الكتاب، وصار اسم الطاهر مكي على طوق الحمامة شهادة ميلاد جديدة له، بعد ضياع القديمة!
ولَكَم تمنّى المحقق الراحل عصام الشنطي (1929- 2012م) عندما شرع معهد المخطوطات العربية بالقاهرة في عمل كتاب تذكاري عنه، أن يكتب عنه الطاهر مكي، ولو كلمة صغيرة! فحالت ظروف الطاهر مكي، وانشغاله بالعديد من الموضوعات البحثية الشائكة، التي ينوء بالتفكير فيها العُصبة من الرجال الأشداء، دون تلبية رغبة الشنطي يرحمه الله تعالى!
الطاهر مكي ناقداً ومبدعاً:
في رسالة جامعية ناقشتها كلية الآداب بجامعة جنوب الوادي بمصر قبل عدة سنوات، نالت الباحثة منى عبد العظيم محمد درجة الماجستير بامتياز عن رسالتها «الطاهر مكي ناقداً ومبدعاً» بإشراف الدكتور محمد أبو الفضل بدران.
منهج الطاهر مكي في الأدب المقارن:
وفي عام 2008م نالت الباحثة يمنى رجب إبراهيم درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف، عن رسالتها «منهج الطاهر مكي في الأدب المقارن» في كلية البنات بجامعة عين شمس بمصر، بإشراف الدكتور يوسف نوفل، ومناقشة الدكتور أحمد درويش، والدكتور حامد أبو أحمد.
الطاهر مكي وملحمة السِّيْد!
أما تحقيقه، وترجمته، ودراسته لـ«ملحمة السِّيْد» عن اللغة القشتالية الصعبة، فهي آية الآيات على تمكنه من ناصية اللهجات الإسبانية القديمة، واللغة اللاتينية، واللغة العربية! فقد أخرج للعرب أول ملحمة شعبية إسبانية من ركام وسراديب المجهول، تحكي قصة الأندلس، وما مر به من محن، وكروب! حتى إن الدكتور حامد أبو أحمد وصف جهد أستاذه الطاهر مكي المُضني في نقل وتعريب هذه الملحمة فقال: «لقد أخرجها الطاهر مكي من العدم، إلى واقع الحياة، فتغلَّب على صعوباتها اللغوية، واللهجية القديمة، بصبر العالِم الموسوعي، وهِمَّة المحقق المترجِم، وقلم الأديب الفنان»!
ويعد كتابه «دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة» من أهم الدراسات المتعمِّقة في تاريخ الأندلس الثقافي، والحضاري، حتى إن طبعته قد نفِدتْ الآن، جرّاء كثرة رواجه بين المتخصصين والعامة!
قال عنه تلميذه الدكتور الراحل عبد اللطيف عبد الحليم (أبو همّام) (1945- 2014م): «الطاهر مكي هو شيخ الأدب، والنقد في دار العلوم، بلا منازع! فمن تتلمذ على يديه حاز الفخار والرفعة، ومَن لم ينل منه أنوار المعرفة، وقبسات اليقين والعلم، فلا يلومنَّ إلا نفسه»!
وصفه الدكتور أحمد فؤاد باشا (1942م - ...) في مقاله بمجلة الوعي الإسلامي الكويتية قبل عدة أشهر، فقال: «الطاهر مكي عميد الدراسات الأندلسية في مصر والوطن العربي»!
ترجماته الفريدة!
أما مترجماته، عالية القدر العلمي والفني، فتنبئ بأن الطاهر مكي وقف على أعظم ما أنتجه عقل المستشرقين المنصفين حول الأندلس: حضارةً، وثقافةً، واجتماعياتٍ، وسياسةً! فنقل للعرب بعبقريته ولمّاحيته: الفن العربي في إسبانيا وصقلية للمستشرق الألماني فون شوك، والحضارة العربية في إسبانيا للمستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال، والتربية الإسلامية في الأندلس للمستشرق الإسباني خوليان ريبيرا، والشعر الأندلسي في عصر الطوائف للمستشرق الإسباني هنري بيريس، والأدب الأندلسي من منظور إسباني لكبار المستشرقين!
صلاح الدين في الآداب الأوربية!
وما زلنا ننتظر خروج كتابه المهم، الذي عكف عليه قبل وفاته، وهو كتاب «صورة صلاح الدين الأيوبي في الآداب الشعبية الأوربية»، وهو أوفي كتاب تناولته أقلام الغربيين المنصفين، وغير المنصفين لشخصية البطل صلاح الدين! ونلحظ فيه مدى التعب، والنَّصَب في الترجمة، لاسيما من اللغات الأوربية، ولهجاتها الصعبة! وهو ما يؤكد تمكن الطاهر مكي من أدواته في الأدب المقارن ولغاته، بصورة مذهلة!
ولإخلاص الطاهر مكي لابن حزم، أديباً، وشاعراً ومصلحاً، وفقيهاً، فقد عقد دراسةً مقارنةً رائعةً بينه وبين دانتي الليجيري، من خلال فلسفة الحب الإنساني، بعنوان «الحب بين دانتي وابن حزم»، مع ترجمة كتاب دانتي «الحياة الجديدة»، وعسى أن نراه قريباً بإذن الله تعالى!
واعترافاً بمكانة دار العلوم في قلب الطاهر مكي، وعقله، وروحه، وكيانه، فقد ترجم كتابَ مستشرقةٍ أمريكية عن أثر دار العلوم الثقافي البارز في مصر في منتصف القرن العشرين.
الطاهر مكي.. تاريخ يتحرك!
ولكون الطاهر مكي شخصية غير نمطية، ولا متكررة، عاصرت الملكية، والاحتلال البريطاني لمصر والعرب، واحتلال فلسطين، وثورة عام 1952م، وفترات: الناصرية، والساداتية، والمباركية، وما بعدها، وحروب أعوام: 1948م، و1956م، وحرب اليمن، و1967م، و1973م، والحرب الإيرانية العراقية، واحتلال العراق للكويت، وحرب تحرير الكويت، وسقوط بغداد على يد الجيش الأمريكي، واحتلال واشنطن للعراق، والفوضى اليوم التي تجتاح بلاد العرب، على الأسنة الغربية، والدبابات الأمريكية! فقد سجَّل قلمه الموثِّق للأحداث، والأشخاص، بمهارة الأديب المؤرخ، وعقل الناقد الحصيف، والفنان المرهف.. كل هذه العصور، والعهود، والنكبات، والانتصارات، فضلاً عن همومه الشخصية، وأتراحه، وأفراحه، من خلال سيرة حياته المديدة، التي حوت علماً، وتاريخاً، وأدباً، ولغةً، وتراثاً، وحضارةً، وثقافةً، ورجالاً، والتي شرع فيها قبل مدة من الزمان، لكي يقرأها الجميع، ويفيدوا منها، ومن خبرة صاحبها، وشهادته على عصره، ورؤيته للأحداث عن قرب، ومن علمه الغزير!
لكل ما سبق، وأكثر منه، فلم نعرِّج عليه، لئلا يغتمَّ أهل الحسد، ويغتاظ الشانئون، فقد خاطبته جامعات العرب، للنهل من علمه الواسع، وخصاله الزاكية، فاستجاب إلى البعض، واعتذر إلى البعض الآخر بلباقة، وحسن أدب! حكى المؤرخ الدكتور مجاهد الجندي عن حرص هذه الجامعات على وجود الطاهر مكي على رأس أساتذتها، فقال: «زرتُ أستاذي الطاهر مكي في أحد الأيام، فوجدته يتلقى مكالمةً هاتفيةً من مسئولٍ سعودي كبير، بجامعة الملك سعود بالرياض، حرص هذا المسئول فيها، على أهمية التعاقد مع الطاهر مكي، كي يضع لهم مناهج الدراسات العليا بالكلية، مع إشرافه عليها، مع إعطائه أعلى راتب، وتوفير كل سبل الراحة له، من مسكن، وسيارة، وإجازات كما يحب، فاعتذر له، بكل لطف، ومودة، شاكراً للرجل ذلك العرض الجميل»!
ومن حسنات الطاهر مكي العلمية الكثيرة، والتي تستعصي عن الحصر، أنه أول من أشار إلى رحلة الأمير علي بك العبّاسي إلى العالم العربي في مطلع القرن العشرين في مجلة «المجلة» القاهرية في الستينيات من القرن الماضي. ولم يكن هذا الرجل إلا دومنجو باديا، أحد الإسبان القادمين إلى أراضينا، لدراسة أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بإيعازٍ من الحكومة الإسبانية، تمهيداً لكتابة تقريرٍ لها عن أحوالنا، ليتسنّى لها بعد ذلك الإغارة على بلاد العرب، واحتلالها، ونهب ثرواتها!
ولا يمكن أن ننسى موقف الطاهر أحمد مكي النبيل والعادل، والمدافع عن المظلومين ضد عتو البعض، والذي حكاه الدكتور الراحل جابر قميحة (1934- 2012م) للأديب السوداني الراحل محيي الدين صالح قبل عقد من الزمان، عن أيدي الطاهر مكي البيضاء، بحق البحث العلمي الجاد، والباحثين الأكفاء، فقال له: «تقدَّمت إلى لجنة الترقيات، لنيل درجة الأستاذية بجامعة عين شمس في الأدب العربي ونقده في الثمانينيات، فتعرَّضتُ لظلمٍ بيِّنٍ، لاسيما أن اللجنة كان يسيطر عليها أنصار الحداثة، فلم يُنصِفني من جبروتهم، إلا تقرير الطاهر مكي، رئيس اللجنة، الذي رأى في بحوثي إضافةً، وقيمةً فنيةً، وأدبيةً، فخرستْ ألسنتهم أمام إنصاف الطاهر مكي، وعدله، وإحقاقه للحق! فهو أستاذٌ كبير، وناقدٌ فذ، ومُنصِفٌ إلى أبعد مدى، ومتواضِعٌ زاهدٌ، فكأنه الجُنَيد، وذو النون المصري في العصر الحديث»!
سُئل الدكتور الأردني الراحل ناصر الدين الأسد (1922- 2015م) عن الطاهر أحمد مكي، فقال أثناء مشاركته في مؤتمر مجمع الخالدين اللغوي بالقاهرة: «تأتي بحوثه في الأندلسيات في القمة العلمية، وترجماته تكشف عن إلمامه بناصية اللغات، بفهمٍ عجيب، وآراؤه النقدية، والفكرية تُعطي الباحثين المصداقية، والنزاهة العلمية، والرأي البعيد عن الهوى والغرض»!
أما الدكتور العراقي الراحل يوسف عز الدين (1922- 2013م)، فقال عنه: «أتابع بحوثه، ومؤلفاته بدأبٍ، فهو باحثٌ يمتلك العُدَّة الثقيلة، ولديه إبحارٌ، وتمكن في التراث، والمعاصرة، ودراساته عن الأندلس تقف شاهدةً على ريادته، فإضافة الطاهر أحمد مكي البارزة في الأدب المقارن، تمنحه لقب عميد الأدب المقارن اليوم»!
عاش الطاهر مكي، وهو لا يتكسَّب من نشر، وطبع مؤلفاته، تلك التي حملها الرُّكبان، فانتشرت، وراجت في طبعاتٍ وطبعات من المحيط إلى الخليج! فأثناء عمادة الدكتور علي أبو المكارم (1936م- 2015م) لكلية دار العلوم في تسعينيات القرن الماضي قرَّر إحياء سنة قديمة، كانت متبعة في الدار من قبل، وهي اختيار مجموعة من المؤلفات الأمهات، والمصادر الأساسية، للأساتذة الكبار، وإعطاؤها للطلاب مجاناً، لتكون معهم زاداً فكرياً، وعوناً معرفياً في حياتهم العملية، أثناء التدريس بعد ذلك! فلما سمع بهذا الأمر، الدكتور الطاهر مكي وافق على الفور على طبع كتابه الكبير (الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه) الذي وقع عليه الاختيار.. طبعةً خاصة للطلاب، بلا أي مقابلٍ ماديٍّ!
اتصلتْ به قبل سبع سنوات دار المتنبي للطبع والنشر بالسعودية، للتعاقد معه على إعادة طبع كتابَيه «الشعر العربي: روائعه ومدخل لقراءته»، و«القصة القصيرة.. مختارات ودراسة» طبعةً خاصة بالمملكة، فوافق على الرحب والسعة، لكنه لم يدرِ أنَّ كتابيه سيروجان بين الجيل الجديد هناك، بهذه الصورة المذهلة، فقد تلقفها الناس على الفور، حتى نفدتْ في أيام قلائل!
والعجيب، الغريب حقاً وصدقاً، أن كتابه المهم «مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن» الذي ساح فيه، فدرس سمات التأثير والتأثر بين آداب الشعوب الإسلامية، ولغاتها كـ: الهوسا، والسواحلية، والفارسية، والتركية، والأردية. هذا الكتاب، الذي ألَّفه الطاهر مكي في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.. أصبح العمدة لدى رابطة الأدب الإسلامي العالمية بالرياض، مع أنه ليس عضواً فيها! وقد وجَّه الأنظار في الأدب المقارن إلى وجهةٍ أخرى غير الوجهة الغربية التي فُتِنَ بها الحداثيون، ما تزال بِكراً بين الدارسين في العالم العربي! تماماً، كما فعل العلاّمة الدكتور حسين مجيب المصري رحمه الله تعالى (1916- 2004م) عميد الأدب الإسلامي المقارن، في دراساته الرصينة بين هذه الآداب، واللغات!
بل، إن الدكتور صابر عبد الدايم عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.. دائم الإشادة بالطاهر مكي، والاستشهاد بكتابه، في الدفاع عن الأدب الإسلامي ضد مناوئيه! فقد حوى هذا الكتاب من العلم، والحقائق، والبراهين كل نفيسٍ وغالٍ.
صورة غير نمطية!
ولعل الطاهر مكي، هو الذي غرس صورةً جديدةً غير نمطية، ولا معروفة من ذي قبل في عقول تلامذته ومحبيه وعارفي فضله، عن نموذج أستاذ الجامعة، الذي يمشي في الأسواق، ويتكلم مع الناس، ولا ينعزل في برجه العاجي، قال عنه الدكتور أحمد درويش: «صورة أخرى غرسها الطاهر مكي في نفوس الطلاب المتطلعين إلى الانخراط في سلك هيئات الباحثين والعلماء، وتتمثل هذه الصورة في غرس بعض جوانب المرونة والواقعية، بل أكاد أقولك البساطة والإنسانية المقبولة! ذلك أن الصورة التقليدية للعالِم المهيب، كانت تتمثل في أنه يشير إلى أكثر المسائل صعوبةً، فيخترقها، وإلى أكثر المراجع استعصاءً فيشير إليها، وإلى أكثر التعبيرات تعقيداً، فيُهيمِن عليها.. وجاء نموذج الطاهر مكي، يُعَدِّل كثيراً من هذه الصورة النمطية التي كانت لها مزاياها وما تزال، ولكنه أضاف إلى جانبها الصورة المرِنة الواقعية، التي تُرَكِّز كثيراً على جِدَّة وطرافة وتشعُّب الموضوع المثار».