• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الصومال والأزمة الحقيقية

الصومال والأزمة الحقيقية


انتعشت فرصة بروز وسيطرة حركة الشباب الصومالية مرة أخرى على مساحات واسعة من الأراضي الصومالية منذ انتخاب الرئيس الصومالي الحالي محمد عبد الله فرماجو في فبراير 2017م، ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة في حال نظرنا إلى تزامن الأمر مع خطة قوات الاتحاد الإفريقي للبدء بسحب جميع عناصرها من الصومال بحلول 2020م. وكذلك موافقة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على زيادة عدد ضباط الاستخبارات الأمريكيين المتمركزين في قاعدة الأمم المتحدة بالقرب من مطار مقديشو إلى 500 عنصر. إن حركة الشباب الصومالية ظهرت لأول مرة عام 2008م كذراع عسكرية لنظام المحاكم الإسلامية الذي سيطر على أجزاء واسعة من الأراضي الصومالية، وهو عبارة عن اتحاد جماعات صومالية ذات هوية إسلامية أرادت تطبيق الشريعة في البلاد، لكن شعور الإدارة الأمريكية وحلفائها في نيروبي وأديس أبابا بالخطر من وجود حاضنة للجماعات الإسلامية بالقرب من حدودها وأهم ممر ملاحي عالمي وهو مضيق باب المندب أجبر الغرب على دعم تدخل عسكري تمكن من إنهاء حكم المحاكم الإسلامية، وحول جناحها العسكري إلى جماعة إرهابية تتبع تنظيم القاعدة، تجمع بحسب تقديرات دولية أكثر من سبعة آلاف مسلح من جنسيات مختلفة.

 نجحت الخطة الغربية بالتعاون مع قوات أفريكوم في تثبيت حكم فدرالي في الصومال وتشكيل حكومة انتقالية ورثت عبئاً ثقيلاً من التهديدات الأمنية والأزمات الاقتصادية والسياسية داخلياً وخارجياً أبرزها الصراعات القبلية وطبيعة التدخلات الخارجية في البلاد. 

إن المؤثر الرئيسي في الحالة الأمينة في الصومال هو طبيعة التدخل الأمريكي الذي بدأت بوادره عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، ففي عام 1989م وافق الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب على دعم سياد بري بمبلغ 20 مليون دولار كمساعدة للعام الاقتصادي 1990م، وقدمت واشنطن هذا الدعم مباشرة عقب مذبحة ذهب ضحيتها 450 مواطناً صومالياً على أيدي القوات الصومالية التي قمعت مظاهرة خرجت من مساجد مقديشو احتجاجاً على اعتقال 4 شخصيات إسلامية. فقد كان سياد بري يحمل لواء الشيوعية بيد، ويقبض الدولارات الأمريكية باليد الأخرى كعادة الشيوعيين العرب، وعام 1991م حينما رحل نظام سياد بري تركت واشنطن الأوضاع الأمنية تنفلت دون أي تدخل حتى حادثة مقتل 18 جندياً أمريكياً إثر إسقاط مروحية (بلاك هوك) في مقديشو عام 1993م. كان التدخل الأمريكي مستنداً إلى قاعدة «الدول الضعيفة تمنحك الجرأة على التدخل لأن المخاطر تكون أقل» كما يؤكدها الخبير في القانون الدولي توماس كارترز. في عام 2011م وافق الرئيس الأمريكي باراك أوباما على تنفيذ غارات جوية في الصومال، وفي عهد ترمب تضاعفت الضربات الأمريكية إلى 34 ضربة في عام 2017م وهو ضعف العدد مقارنة بالعام 2016م.

تقول قوات الاتحاد الإفريقي إن الغارات الأمريكية توفر غطاء جوياً لتحركاتها على الأرض، وفقاً للعميد بول لوكيش قائد القوات الإفريقية في مقديشو. في الآونة الأخيرة بدأ الكثير من عناصر الجيش الوطني الصومالي يتهربون من الخدمة بسبب نقص الدعم وعدم صرف رواتبهم، وهذا الأمر يتزامن مع تعليق الإدارة الأمريكية في ديسمبر الماضي للدعم المقدم للجيش. بحسب ما نقلته مجلة نيويوركر فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تساعد الحكومة في إجراء محادثات سلام بين العشائر المتحاربة وتصنع الأسباب التي تزيد من شعبية حركة الشباب الصومالية من خلال قتل الأبرياء في غارات جوية تستهدف منشآت مدنية ومساكن لا تمت للحركة بصلة، ومثل هذه الأفعال تساهم في تأجيج مشاعر الغضب تجاه الحكومة الصومالية التي تتعاون مع الأمريكيين وتدفع باتجاه وجود بيئة حاضنة لحركة الشباب الصومالية، كذلك تقوم حركة الشباب بالاستفادة من هذه الأجواء بدعم قبائل ضد أخرى فهي تعيش في بيئة أكثر فوضوية تسمح لها بممارسة نفوذ واسع في مثل هذه البيئة. 

في ديسمبر 2017م استقالت إليزابيث شاكلفورد، وهي دبلوماسية سابقة وكانت مسؤولة عن بعثة الولايات المتحدة في الصومال، وفي خطاب استقالتها الموجه لوزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون وجهت له إهانة وللرئيس ترمب واتهمتهما بالتخلي عن التزام الولايات المتحدة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لذلك واشنطن لا يمثلها في الصومال سوى ضباط الاستخبارات. ففي عهد ترمب أعلنت أجزاء من الصومال منطقة أعمال قتالية نشطة، شبيهة بسوريا والعراق وأفغانستان، وتم تفويض الجيش باستخدام الغارات الجوية.

بعد الدور الأمريكي في الصومال يأتي دور وتأثير الاتحاد الإفريقي الذي تمثله قوات برية يزيد عددها عن 21 ألفاً من المفترض أن تغادر الأراضي الصومالية بحلول عام 2020م بعد أن أنهت أطول مهمة لها استمرت لعقد من الزمان. ومن المفترض أن يتسلم 10 آلاف جندي صومالي يتبعون للجيش الوطني مهمة تأمين البلاد عقب الانسحاب الإفريقي، ففي تصريح للسفير فرانسيسكو كايتانو ماديرا، الممثل الخاص للاتحاد الإفريقي في الصومال قال: «لا يمكننا البقاء هنا إلى الأبد، نحن لسنا الجيش الوطني الصومالي». ويبرر ماديرا انسحاب القوات الإفريقية من الصومال بضعف التمويل الدولي لعملياتها في الصومال وقيام الاتحاد الأوربي بخفض تمويله منذ عام 2016م بنسبة 20%، فقد بلغت تكاليف البعثة السنوية مليار دولار. ويتلخص دورها في دعم بناء قوة أمنية تحارب الجماعات «الإرهابية». ومن بين 54 دولة عضواً في الاتحاد الإفريقي، ساهمت 6 دول فقط في بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال على مراحل شملت انضمام أوغندا وبوروندي عام 2007م، ثم جيبوتي عام 2011م، وكينيا عام 2012م، وسيراليون عام 2013م، وإثيوبيا عام 2014م وهي أكبر المشاركين.

أما المبرر الثاني لانسحاب البعثة الإفريقية من الصومال فيتعلق بالخسائر البشرية في صوف عناصر البعثة، فقد أكد تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية لعام 2017م، أن حركة الشباب الصومالية لا تزال تحتفظ بالسيطرة على أجزاء كبيرة من الصومال، وتمتلك قدرة عالية على تنفيذ هجمات. وتسببت هجماتها بمقتل المئات من جنود البعثة الإفريقية، وأجبرت قوات حفظ السلام على الانسحاب من عدد من المدن والبلدات في جنوب البلاد، الذي تفرض فيه الحركة سيطرتها على مساحات واسعة من المناطق الريفية، وفي وسط الصومال أيضاً.

في نوفمبر 2017م أعلنت بعثة الاتحاد الإفريقي أنها ستسحب ألف مقاتل على أن تغادر الأراضي الصومالية نهاية ديسمبر 2018م، بينما تكمل بقية القوات البالغ تعدادها 22 ألف جندي انسحابها بحلول نهاية عام 2020م. وتقوم حركة الشباب بالسيطرة على الأراضي التي تقوم البعثة الإفريقية بالانسحاب منها، فمع انسحاب جنود القوات الإفريقية نهاية سبتمبر 2018م من إحدى البلدات، 30 كيلومتراً شمال العاصمة مقديشو، تدفق إليها وإلى القرى المجاورة المئات من مقاتلي حركة الشباب دون قتال.

إن أبرز القوى المشاركة في بعثة السلام الإفريقية هي كينيا وإثيوبيا وهي دول على تماس ومواجهة مع الحدود الصومالية ولها تاريخ طويل من التصارع مع الصوماليين نظراً لاحتلال الجانبين لأراضٍ صومالية منذ رحيل الاستعمار عن الصومال، فإثيوبيا التي تحتل منذ رحيل الاستعمار البريطاني إقليم أوجادين تعتبر الصومال عمقاً أمنياً لها وتدخل بكل ثقلها في أزمات الصومال. وكذلك كينيا التي تسيطر على إقليم جنوب غرب الصومال التي يعيش على أراضيها مئات الآلاف من اللاجئين الصوماليين بالإضافة إلى تعرضها لهجمات من حركة الشباب الصومالية.

تقدر مشاركة كينيا في القوات الإفريقية بأكثر من 4 آلاف جندي، وتقول إن هدفها من ذلك منع هجمات حركة الشباب التي تستهدف حدودها وتؤثر في حركة السياحة في البلاد التي تعتبرها من أهم مصادر الدخل القومي، ففي تصريحات لعلي روبا حاكم منطقة منديرا أكد أن حركة الشباب تقوم بتجنيد واستقطاب عناصر من المحافظات الكينية المتاخمة للحدود الصومالية وتستخدمهم لتنفيذ هجمات في عمق التراب الكيني.

وبالإضافة إلى الأمن فإن معضلة اللاجئين أكبر أزمات كينية مع الصومال، ففي كل أزمة أمنية يتدفق المزيد من الصوماليين باتجاه الحدود الكينية، كذلك فإن بعض الصوماليين يتهم كينيا بتأجيج الاقتتال الداخلي بين القبائل الصومالية، وكذلك تتعمد إبقاء التطرف كعامل تهديد للاستقرار في منطقة الحدود.

كذلك فإن كينيا تعد شريكاً أمنياً قديماً للولايات المتحدة والكيان الصهيوني في ملف مكافحة الإرهاب، وهو سبب آخر لتبرير تدخلها في الحرب الدائرة في الصومال.

 حرب أوجادين قد تكون آخر الحروب التقليدية بين الدولة الصومالية وإثيوبيا، لكن ذلك لا يعني انتهاء المواجهة بين الطرفين، ففي عام 2006م تدخل الجيش الإثيوبي لمنع استمرار سيطرة المحاكم الإسلامية على السلطة في الصومال، واستخدمت أديس أبابا نفوذها لإيجاد غطاء لتدخل دولي وإفريقي لإنهاء مشروع بناء دولة إسلامية على طريقة المحاكم في الصومال بجوار إثيوبيا المسيحية. في يونيو عام 1999م نفذت إثيوبياً هجوماً مماثلاً على مدينة بيدوا بهدف ملاحقة عناصر جبهة تحرير أورومو التي كانت متمركزة بجنوب الصومال. فالأقلية الأورومية المسلمة لطالماً مثلت هاجساً لدولة مسيحية مثل إثيوبيا، لاسيما وأن الصومال تمثل حاضنة لأي مشروع انفصالي للأوروميين. بالإضافة إلى العمليات التي تنفذها إثيوبيا بنفسها فقد استضافة قاعدة جوية أمريكية للطائرات المسيرة بهدف استخدامها لملاحقة عناصر حركة الشباب الصومالية. كذلك فإن السلطات الإثيوبية كانت ولا تزال تخوض صراعاً في إقليم أوجادين الصومالي مع الجبهة الوطنية لتحرير أوجادين التي تمت إزالتها من قوائم الإرهاب في عهد رئيس الوزراء آبي أحمد تمهيداً لاتفاقية سلام بين الطرفين. عقب تسلمه للسلطة قام رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد بزيارة مقديشو واجتمع مع الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو ووقع الطرفان على مذكرة تفاهم تهدف لتعزيز التعاون المشترك بين البلدين، وفسرت تلك الخطوة تماشياً مع الحلم الإثيوبي بالحصول على منافذ بحرية على السواحل الصومالية للحاق بالمشروع الصيني للتنمية في إفريقيا، فإثيوبيا بعدد سكانها الذي يتخطى المئة مليون نسمة لا تمتلك منافذ بحرية لتسهيل حركة التجارة منها وإليها، لاسيما بعد أن خسرت ميناء جيبوتي الذي أصبح قاعدة بحرية صينية. لذلك تحاول إثيوبيا الوصول إلى اتفاقات مع الصومال لاستثمار في قطاع الخدمات البحرية والموانئ واستخدام الموانئ الصومالية في بوصاصو ومركا لخدمة تجارتها. قد تكون الإصلاحات السياسية التي تعيشها إثيوبيا تحت حكم آبي أحمد أحد أبرز المحفزات للتقارب بين البلدين والبحث عن مجالات شراكة اقتصادية طويلة الأمد تمهد لحل معضلات أمنية وسياسية كبيرة بينهما.

تحاول الحكومة الفدرالية في الصومال ربط جميع الأقاليم بسلطتها المركزية من خلال عقد مصالحات مع شيوخ القبائل للتخلص من الصراعات القبلية المتجذرة داخل حدود البلاد، عبر دعم وجود أشخاص موالين لها في تلك الأقاليم، وصنع رسالة عبر الخدمات التي تقدمها مفادها أنه يجب جمع شمل الصوماليين باستخدام لغة المصالح والمنافع المكتسبة من وجود حكومة قوية، فخلال الأيام الماضية أعلن مدير وكالة الاستخبارات والأمن القومي حسين عثمان حسين استقالته من منصبه. وعلى الأرجح فإن استقالة حسين مرتبطة بترشحه للانتخابات الرئاسية في ولاية جنوب غرب الصومال كأحد رجالات القصر الرئاسي.

كذلك تركز على إنشاء مشاريع خدمية للقضاء على الأزمة الاقتصادية مثل تطوير الموانئ والمطارات والخدمات التعليمية والاستعانة باتفاقات دولية لتدريب عناصر الشرطة والجيش، لذلك يبقى الاعتماد الأبرز في القضاء على حركة الشباب الصومالية رهينة بحجم ونوع المساعدة التي يقدمها المجتمع الدولي للحكومة المركزية الصومالية بدعم نفوذها داخل الأقاليم وتحسين اقتصاد البلاد بدلاً من إبقاء الباب مفتوحاً أمام تدخلات عسكرية هي أكبر ذريعة لتأجيج صناعة الإرهاب في الصومال وأحد أسباب إضعاف قوة الحكومة المركزية.

 

أعلى