الحج في عهد مملكة مالي.. دراسة تاريخية
مقارنة مع جميع القنوات الأخرى (التجارة ـ الرحلة لطلب العلم) التي كانت تصل المجتمع الإفريقي بباقي أقطار العالم الإسلامي، يبدو أنَّ حرص الماليين على أداء فريضة الحج، وفر لهم أحسن فرصة للتعرف والاحتكاك بإخوانهم المسلمين المنتمين إلى مختلف الأقطار الإسلامية.
وقد يبدو مدهشاً حقاً أن نلاحظ إصرار وإلحاح سلاطين مملكة مالي على أداء هذا الركن الإسلامي العظيم برغم حداثة إسلامهم وبعدهم عن الحجاز. ومما أضفى على رحلاتهم الحجية حلة فريدة ومتميزة قيام سلاطين مالي بقضاء فرضهم، الشيء الذي لم نعهده لدى الأسر الحاكمة في الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط[1].
فمتى بدأ الماليون إذن يؤدون فريضة الحج، وهل كانت لهم ركائب خاصة مثل ركب الحج المغربي، وما هي أحوال هذه الرحلة والطريق التي كانت تأخذها إلى الحجاز؟ وما هي أهم نتائج هذه الفريضة في تطور الثقافة العربية الإسلامية في مملكة مالي؟
قبل الدخول في هذه التفاصيل، نرى من الأهمية هنا تقديم دراسة موجزة عن نشأة وتطور مملكة مالي.
١. نبذة تاريخية عن مملكة مالي:
أسس هذه المملكة شعب زنجي أصيل هو شعب الماندي أو الماندينغ (Manding)، وكلمة مالي تحريف لكلمة ماندنغو، ومعناها الذين يتحدثون لغة الماندي. وقد اعتنق هذا الشعب الإسلام في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (11م)، حيث اعتنق أول ملك منهم الإسلام حينئذ ويُعرف بالمسلماني[2].
وبصفة عامة، يلاحظ أن تجربة الإسلام لدى الماندينغ لا تختلف كثيراً عن باقي مناطق بلاد السودان. ويرجع نجاح وانتشار الإسلام بشكل واسع بين قبائل الماندينغ خلال القرنين 12-13م إلى الدور الفعال والمؤثر للونجرا أو (ونقارة)، الذي يعد من أهم فروع الماندينغ، وبحكم اختصاصه بالتجارة فقد كان على صلة وثيقة بتجار بلاد المغرب. وبعد اعتناقهم الإسلام أخذوا ينشرونه بدورهم بين بني جلدتهم. ومن ثم نفهم الانتشار الواسع للإسلام بين أهل مالي[3].
تمكنت هذه الدولة الصغيرة التي بدأت بمملكة كانجايا أن تتملك قوة عسكرية في منطقة نياني (Niani)، وهي مدينة تقع غرب نهر النيجر، وليست بعيدة عن حدود غينيا الحديثة، وارتبط ظهور مملكة مالي بشخصية سندياتا أو ماري ماري جاطة (ت 1255م)[4]، الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لهذه المملكة، وقد حكم عرش مالي بحسب رواية ابن خلدون مدة خمسة وعشرين عاماً[5]. واستطاع سندياتا أن يجعل من مملكته الصغيرة إمبراطورية عظيمة بعد أن هزم ملك الصوصو وضم أرضه إلى بلاده فضلاً عن إقليم غانة، ثم أسس عاصمة جديدة في نياني (وأحياناً تُسمَّى مالي)[6]. احتلت مالي مكانة تجارية مهمة في بلاد السودان، وظلت تحتل هذه المكانة حتى جاء ابنه وُلي الذي حمل لقب منسى، ومعناها السلطان أو السيد بلغة الماندي، وقد سار على نفس النهج الذي كان عليه والده، وحكم من عام 1260م حتى عام 1277م، وقام أيضاً برحلة الحج إلى الأماكن المقدسة مثل السلاطين الآخرين[7].
وقد بلغت مملكة مالي أوجها في القرن 14م فأصبحت تمتد شمالاً داخل الصحراء حيث توجد مدينة ولاتة المعروفة أيضاً تحت اسم بيرو، وجنوباً حتى أطراف السافانا عند مصادر الذهب، وغرباً حتى المحيط الأطلسي، وأما الحدود الشرقية فقد اقتربت من مناجم النحاس بتكدا. وباعتبار هذه المعطيات الجغرافية نجد أنفسنا أمام إمبراطورية شاسعة الأطراف، حتى إنَّ بعض المؤرخين العرب قدر طولها بمسيرة أربعة أشهر من الغرب إلى الشرق، وعرضاً بمسيرة ثلاثة أشهر من الجنوب إلى الشمال[8].
كما استولت مالي على إمارة سنغاي وعاصمتها كاغ أو كاو (Gao) عام 1325م، في عهد منسى موسى، ويقول السعدي بصدد ذلك: «دخل أهل سنغاي في طاعته بعد جوازه إلى الحج بطريقها ورجع فابتنى مسجداً ومحراباً خارج مدينة كاغ»[9]، زيادة على ضم سنغاي فإنه «طرق تنبكت فملكها وهو أول ملك ملكها وجعل خليفته فيها وابتنى فيها دار السلطنة»[10].
ولم ترث مملكة مالي ملك غانة وحده، بل ملكت معه الثروة والغنى المتمثلة في التجارة السودانية خاصة الذهب والملح، وسعت مالي على غرار غانة إلى تنظيم هذه التجارة بين الشمال والجنوب وتنظيم الأمن ومساعدة التجار وفرض الضرائب على التجارة مما جعلها تجني فوائد مهمة ملأت خزائن ملوكها وجعلتهم يشتهرون خارج السودان في العالم الإسلامي وأوربا.
لكن في القرن التاسع الهجري (15م) سرى الضعف في مملكة مالي، لعدة أسباب منها الصراع على الحكم، وتسلط واستبداد الموظفين الكبار من وزراء ومستشارين بالسلطة، إضافة إلى انغماس الحكام في الملذات. وغزا التوارق[11] من الشمال مملكة مالى نتيجة ضعفها ودخلوا تنبكت وجني وهما عصبا التجارة بالنسبة لمالي، وتزامن ذلك مع نزول البرتغاليين بسواحل إفريقيا الغربية بحثاً عن ثروات مملكة مالي، وأدى هذا الضعف كذلك إلى خروج عدة ممالك صغيرة من نفوذ مملكة مالي كمملكة تكدا في الشرق.
إضافة لما تقدم، كانت هناك مملكة تتحين الفرص أكثر من غيرها للانقضاض على مالي ألا وهي مملكة سنغاي التي دانت بالولاء لمالي منذ عام 3251م.
٢. أحوال وظروف الحج المالي ومشكلة الطريق التي يأخذها:
يعتقد بعض الباحثين أن قضية حج السلاطين الماليين ارتبطت بالحُكام لا غير. والحقيقة أنَّ أصحاب مصادرنا خاصة المشارقة منهم لم يبدوا اهتماماً بحجاجنا الماليين. ولولا ابن خلدون وبعض الإشارات المقتضبة عند المقريزي ما كنا لنتأكد من استمرار وإلحاح الماليين على قضاء فريضتهم.
ويمكننا أن نرجح تجاهل المشارقة لهذه الرحلات الحجية قبل نهاية القرن السابع الهجري (13م) إلى سببين أساسيين: أولهما انشغال أهل مصر والشام بالحروب الصليبية التي ملأت دنيا حياتهم، ولم تترك لهم مجالاً للاشتغال بحج سلطان من سلاطين مملكة مالي وهو قريب العهد بالإسلام، ولا ترجى منه معونة أو مساعدة لرد الحملات الصليبية، فكيف بطائفة من قومه.
ثانيهما أن هؤلاء السلاطين الماليين ربما دخلوا مصر في طريقهم إلى الحجاز بطريقة لا تنبئ بأنهم ملوك. وذلك حتى لا يثيروا الانتباه، تجنباً لغارات البربر وأعراب الصحراء، التي لا شك أنهم سمعوا عنها وأخذوا احتياطاتهم منها قبل إقدامهم على الحج. وفي السياق نفسه، فإننا لا نستبعد إقدامهم على الحج بطريقة سرية، بهدف الحفاظ على عرشهم عند عودتهم. وهذا الأسلوب السري، يقلص من مجال تحرك الأدعياء المنافسين أو الثائرين الذين يمكن أن يستولوا على العرش في أثناء غياب السلطان في مكة.
قد يقال إنَّ أولئك السلاطين وغيرهم من الحجاج الماليين لم يدخلوا القاهرة بتاتاً، وأنهم أخذوا الطريق الموازية للضفة الجنوبية للصحراء، ومروراً على مملكة كانم ـ برنو في السودان الأوسط إلى أن وصلوا عيذاب، ومنها أبحروا إلى ميناء ينبع أو جدة[12].
برغم موضوعية هذا الاحتمال الذي ينبغي أن لا يغيب عن ذهننا، فإننا نستبعده، إذ يظهر بحسب سياق رواية ابن خلدون عن مقتل ساكورة بالقرب من طرابلس أن الماليين كانوا يأخذون طريقاً نجهل الكثير من محطاتها، لكنها كانت تنتهي بهم إلى طرابلس، ومنها يدخلون الإسكندرية ثم القاهرة شأن ركب الحاج المغربي. وربما يلتقيان في طرابلس، فيدخل الركب السوداني إلى القاهرة صحبة الركب المغربي.
أين كانت نقطة لقاء الركب المالي والمغربي، ولماذا تجاهلت كتب الرحلات الحجية المغربية هذا اللقاء؟ إنهما استفهامان ما يزال البحث العلمي عاجزاً عن الإجابة عنهما. والأمر رهين باكتشاف مصادر أخرى لا نتوفر عليها حالياً.
ولكن عندما توقف ابن بطوطة بولاتة وما رافق ذلك من سوء تفاهمه مع حاكم المدينة، اغتاظ وعبّر عن رغبته في العودة إلى المغرب دون أن يستكمل رحلته إلى عاصمة مالي. وحينئذ قال: «وأردت أن أسافر مع حجاج أيوالاتن»[13].
وواضح أن غضب ابن بطوطة ضيع علينا فرصة ثمينة للتعرف على أحوال الركب الحجي المالي، كما أنه أعاق أية محاولة لمعرفة ما إذا كان الركب المالي قد اكتسب تنظيماً معيناً، وتقاليد سارية المفعول مثلما هو الحال بالنسبة للركب المغربي الذي انتظم مع الشيخ أبي محمد صالح الماجري، واتخذ صبغة رسمية مع المرينيين منذ بداية القرن الثامن الهجري.
وإذا أردنا أن نستكنه خلفيات الإشارة اليتيمة لابن بطوطة، فيمكننا القول إن ولاتة أصبحت منذ نهاية القرن السابع الهجري مركز تجمع الماليين قبل تشريقهم لقضاء فرضهم. وموقع المدينة بالنظر إلى المحاور التجارية التي سطرتها القوافل الصحراوية خلال الفترة نفسها، سوف يؤدي بنا إلى سجلماسة. فهل كان الماليون يخرجون ضمن الركب الحجي السجلماسي؟[14]
نقف بتطلعاتنا الاستفهامية عند هذا الحد، ونسجل الملاحظات التالية:
الانطباع العام الذي تحيلنا عليه الشهادات المصدرية المقتضبة، هو أن الماليين خلال القرن الثامن الهجري (14م)، أصبحوا يقدمون على أداء فريضة الحج بشكل منتظم إلى حد ما، وكانوا يشرقون في ركاب قد تضم مئة نفر أو قرابة هذا العدد.
يتأتى لنا من المعلومات المتوفرة عن حج السلطان منسى موسى أن الطريق التي تأخذها الرحلة الحجية المالية مغايرة لتلك التي تأخذها في أثناء العودة. فقد انطلق الموكب الحجي لمنسى موسى من نياني العاصمة، ثم ميمة، فولاتة، وتغازة، وتوات، وغدامس، وطرابلس، والإسكندرية، وأخيراً القاهرة حيث خرج الموكب المالي ضمن الركب المصري إلى مكة. أما طريق العودة فكانت من القاهرة إلى غدامس ثم كوكو، فتنبكت ومنها إلى العاصمة نياني.
يذكر صاحب تاريخ الفتاش أن السلطان منسى موسى قد اصطحب معه زوجته أثناء رحلته الحجية. ويؤكد ابن خلدون أنه لقي بالقاهرة أواخر القرن الثامن الهجري الشيخ عثمان فقيه أهل غانة وكبيرهم علماً وديناً، ثم أضاف أن الشيخ المذكور جاء «حاجاً بأهله وولده»[15].
والخلاصة التي تتحصل لدينا من هذه المعطيات أن الماليين الميسورين المقبلين على أداء فريضة الحج كانوا يشجعون أهلهم ويحرصون على أن يأخذوا معهم في رحلاتهم الحجية زوجاتهم وأبناءهم وذوي القربى منهم.
وهذه المزية، بالإضافة إلى عمل السلاطين الماليين على قضاء فرضهم، تمثلان مزيتين فريدتين اختص بهما تاريخ الركب الحجي المالي، وانطبع بهما.
٣. حج السلطان منسى موسى:
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، يقول المولى عزَّ وجل في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
ولكن أنْ يحج سلطان سوداني في القرن 13 أو 14م، فهذه مسألة يُمكن أنْ تطرح بعض التساؤلات وعلامات الاستفهام:
- هل يعني ذلك رغبة السلطان في تطبيق أركان الإسلام علماً بأنَّ تركه للعاصمة وقيامه برحلة نحو الديار المقدسة يستلزم وقتاً طويلاً يتراوح ما بين 18 و 24 شهراً، ما قد يشكل خطراً على مملكته؟
- هل يمكننا أن نعلل ذلك برغبة السلطان في الاطلاع على أحوال بلدان المشرق العربي ونظمها، ليقلد بعضها؟
- هل يوحي ذلك أيضاً برغبة السلطان في توطيد علاقات بلاده الثقافية مع تلك البلدان، ومن ثم جلب مجموعة من كبار العلماء للسهر على تكوين نخبة محلية مثقفة، وبالتالي الانتقال من مرحلة ممارسة السلوك الديني كما دعا إليه الإسلام إلى مرحلة أخرى، وهي تكوين نخبة مطلعة على التراث الإسلامي والنظم الحضارية الإسلامية، لتنقلها إلى السودان؟
وختاماً هل يمكننا القول إن كل هذه العوامل هي التي جعلت السلاطين الماليين الذين أدوا فريضة الحج ينفقون بسخاء أموالاً طائلة في رحلاتهم إلى القاهرة ومكة والمدينة وهي مراكز ذات ثقل ثقافي في العالم الإسلامي؟
يعتبر المنسى ولي (1255-1270م) من أول سلاطين مالي الذين قاموا بالحج 658هـ/ 1259م زمن ملك مصر الظاهر بيبرس، ثم تلاه ساكوره (1285-1300م)، الذي قُتِل بطرابلس أثناء عودته في أواخر القرن 13م[16]. ويُعد منسى موسى أشهر من عُرِفَ بحجه من سلاطين مالي،[17] وذلك لكثرة ما أنفقه في رحلته، فقد كان «يسعى بين يديه إذا ركب خمسمائة عبد، وبيد كل واحد منهم عصا من ذهب، في كل منها خمسمائة مثقال»[18].
وكانت تلك الرحلة استهلالاً لتوافد أعداد كبيرة من التجار والعلماء إلى مالي؛ حيث ساهموا في ازدهار النشاطين الاقتصادي والثقافي واللذين شجعهما منسى موسى، وقد أحضر معه في طريق العودة جملة من الكتب الدينية، التي تركت نشاطاً علمياً ملحوظاً.
يمكن القول إن حجَّ منسى موسى أصبح معلماً في تاريخ مالي وبلاد السودان، وورد ذكره في المصادر الإسلامية، بل وحتى الأوربية، مما يعني أن صدى رحلته الحجية تجاوز حدود دار الإسلام. يقول فرناند بروديل عن شهرة منسى موسى بعد حجه: «إنَّ ذهب السودان كان أكثر من أساسٍ لرخاء شمال إفريقيا والأندلس، فهذا الذهب لعب دوره في تاريخ حوض البحر الأبيض المتوسط كله، حيث بدأ تداول هذا الذهب من القرن 14م عقب الحج الشهير لملك مالي منسى موسى»[19].
وإذا عدنا إلى كلام السعدي صاحب تاريخ السودان، نلاحظ أنّه بالغ في تقدير حمولة السلطان، حيث حددها في خمسمائة مثقال من الذهب،[20] وإذا كان مثل هذا التقدير يملك جانباً من الصحة، فإنه يدعونا للتساؤل حول مسالك تصريفه أثناء الرحلة الحجية؟
نميل إلى الاعتقاد بأنَّ المنسى أراد أنْ يتقرب إلى حكام وعلماء مصر والمدينة المنورة ومكة، وبالتالي توطيد العلاقات الثقافية بين مملكته وبلدان المشرق العربي. كما كان لهذا التوجه بواعث داخلية؛ بمعنى أنَّ حج منسى موسى جاء استجابة لحركة دينية إسلامية ببلاد السودان أخذت في التنامي بين مختلف الفئات الاجتماعية، لذلك لم يرغب المنسى أنْ يعزل نفسه عن هذا التطور، وأحبّ أنْ يظهر بمظهر الحاكم الشرعي المدافع عن الدين الجديد، فنجده يفتخر في القاهرة كونه مالكي المذهب[21].
وفي السياق ذاته، ألا يمكننا القول إن الهدف من هذا الحج فضلاً عن أداء هذه الفريضة هو التعرف على النظم الحضارية الإسلامية السائدة في المشرق العربي، وخاصة الاطلاع على ملامح الحركة التعليمية ومحاولة الأخذ بها في البلاد السودانية، علماً بأنَّ الانفتاح على التقاليد الإسلامية يلزمه أنْ يمر عبر الاطلاع أولاً على المعرفة الدينية؛ أي إدراك معظم العلوم المرتبطة بالشرع الإسلامي. ونعتقد أنَّ التفسير نفسه يعلل إرسال منسى موسى لمجموعة من الطلبة إلى مدينة فاس للتفقه على يد علمائها.
وبالموازاة مع ما تقدم، نلاحظ أنَّ منسى موسى شرع بعد عودته من الحج في بناء مجموعة من المساجد، التي كانت في نفس الوقت أماكن العبادة ومراكز للتعليم. يقول السعدي: «ورجع موسى من الحج فابتنى مسجداً ومحراباً خارج مدينة كاغ، كما قام ببناء مساجد أخرى في أماكن متفرقة من البلاد»[22].
وتخبرنا بعض المصادر أنه كان للمساجد حُرمة مقدسة عند الماليين سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، لذلك كانوا يلجؤون إليها عندما يجير عليهم حاكم ظالم.
خاتمة:
يمكننا إذن أن نقول إن تعدد رحلات حج سلاطين مملكة مالي يعني نمو الحركة الدينية الإسلامية ببلاد السودان؛ فحج الملك بما يتطلبه من نفقات، ومما قد يشكله من خطر على العرش بعد غياب الحاكم عن العاصمة لمدة قد تناهز السنتين، يعكس قبول الطبقة الحاكمة للإسلام.
وليس في هذا التوجه ما يبرر قول البعض بأن حج سلاطين السودان إنما هو رغبة منهم في كسب الشرعية السياسية. وإذا كان بإمكاننا أن نأخذ حكمهم بنوع من الاعتبار فكيف نفسر تعلق أهالي مالي بأداء فريضة الحج، فهل كانوا يبحثون بدورهم عن مسوغ شرعي للانقلاب على السلطة الحاكمة؟
وعليه يمكننا القول إن الحج بهذا الشكل قد عكس تطوراً إيجابياً في طريق أسلمة السودان التي سوف تتعزز بمكتسبات جديدة.
[1] أحمد الشكري، الإسلام والمجتمع السوداني: مملكة مالي، المجمع الثقافي، أبوظبي، 1999م، ص240.
[2] أبو عبيد الله البكري، المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، وهو الجزء الخامس من المسالك والممالك، حققه وترجمه للفرنسية، دوسلان، باريس، ميزونوف، 1965م، ص178.
[3] أحمد الشكري، 2004م، التأثيرات الثقافية المتبادلة ما بين المغرب ودول إفريقيا جنوبي الصحراء (الإسلام واللغة العربية)، ضمن ندوة التواصل الثقافي بين ضفتي الصحراء الكبرى في إفريقيا، طرابلس - ليبيا، دار الوليد للنشر والتوزيع، ط 1، ص268.
[4] ماري جاطة: معناها الأمير قلب الأسد.
[5] عبد الرحمن ابن خلدون، 1981م، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر (العبر)، بيروت، دار الفكر، ج 6، ص267.
[6] المصدر نفسه، ص266.
[7] أحمد بن علي القلقشندي، 1985م، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القاهرة، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ج 5، ص292.
[8] عبد القادر زبادية، مملكة سنغاي في عهد الأسقيين، م.س، ص21.
[9] عبد الرحمن السعدي، 1981م، تاريخ السودان، باريس، ميزونوف؛ وهي النشرة الثانية عن الطبعة الأصل الصادرة عام 1898 - 1900م. وقف على طبعه من تغيير نصه مع ترجمته للفرنسية أوكتاف هوداس و السيد بينوة. تاريخ السودان، ص7.
[10] نفس المصدر والصفحة.
[11] التوارق: تقطن قبائل التوارق في رقعة واسعة من الصحراء الكبرى تمتد من موريتانيا مروراً بمالي والنيجر وبوركينا فاسو ونيجيريا وشمالاً تشاد وصولاً إلى جمهورية السودان وليبيا والجزائر. أما عن التسمية فقد ورد في ذلك عدة آراء منها: أن فزان بليبيا كان لها ثلاثة جبال شاهقة وضخمة وكان أحدها يحمل اسم ترق، ومنها جاءت التسمية، لأن التوارق آنذاك كانوا يسمون فزان ترق والتوارق يسمون كيل ترق بمعنى قوم ترق. أما عن أصولهم فتجمع جل الدراسات التي تم الاطلاع عليها على أنهم من صنهاجة التي يصل عدد قبائلها إلى أكثر من سبعين قبيلة. أما عن التنظيم السياسي والاجتماعي فإنها تنقسم إلى عدة سلطنات وقبائل وأفخاذ.
[12] أحمد الشكري، الإسلام والمجتمع السوداني، م.س، ص242.
[13] ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأبصار، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1985م، ج 2، ص776.
[14] طوال العصر الوسيط تناوبت عدة مدن على احتضان القافلة الحجية المغربية قبل تشريقها، نذكر منها أسفي وفاس ومراكش وسجلماسة.
[15] القاضي محمود كعت، 1981م، تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وآكابر الناس وذكر وقائع التكرور وعظائم الأمور وتفريق أنساب العبيد من الأحرار، باريس، ميزونوف؛ وهي النشرة الثانية عن الطبعة الأصل الصادرة عام 1913-1914م. وقف على طبعه من تغيير نصه مع ترجمته للفرنسية أوكتاف هوداس وموريس دولافوس، ص34. ابن خلدون، العبر، ج 6، ص413.
[16] ابن خلدون، كتاب العبر، م.س، ج 6، ص267. القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، م.س، ج 5، ص294.
[17] كانت حجته هذه عام 1324م، فكانت بادرة طيبة سار على منوالها سلاطين بلاد السودان وفي طليعتهم الأسكيا الحاج محمد.
[18] عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، م.س، ص7.
[19] فرناند بروديل، 1993م، المتوسط والعالم المتوسطي، ترجمة مروان أبي سمرة، بيروت، دار المنتخب العربي، ص70.
[20] عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، م.س، ص7.
[21] أبو العباس أحمد بن المقريزي، 2009م، الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك، تحقيق كرم حلمي، القاهرة، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ص112.
[22] تاريخ السودان، ص57.