• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
البعد القيمي للتلبية

البعد القيمي للتلبية


يأتي موسم الحج ويتكرر معه النداء: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْـحَجِّ} [الحج: 27]، ويتجدد فيه الشعار «لبيك اللهم لبيك»، مذكراً الإنسانية بوحدة المنهج والغاية مهما اختلفت الألسن وتنوعت الأجناس وتعددت الألوان، وهو ما لخصه النبي صلى الله عليه وسلم  يوم الحج الأكبر في خطبة الوداع بعدما أتم الله تعالى معالم الدين وأكمل النعمة على عباده وارتضى لهم تشريع ما يصلح لأحوال الناس وقضاياهم الدينية والدنيوية.

إنه النداء إلى نعمة الإسلام وهدايته، ودعوة لينطلق الإنسان بما يملك من قدرات، ويتوجه بقلبه وعقله وبكل جوارحه إلى صراط مستقيم. إنه نداء هداية الإنسان إلى ما هو أفضل وأقوم وأحسن من كل شيء، يرقى فيرقى إلى حيث أراده الله أن يكون عبداً خاضعاً مكرماً في الوجود، مستخلفاً فيه بالعدل الإلهي.

نداء يستجيب له كل من فقه غايته على الفور، ويعد العدة اللازمة ويتحرر من كل الأقفال ويكسر الحواجز النفسية، ويسترخص الغالي والنفيس من مفارقة الأهل والأحباب والوطن ليشهد منافع الدنيا والآخرة، ويتلذذ بقول «لبيك اللهم لبيك».

وإذا ما ترنم العقل بقول لبيك اللهم لبيك امتلأ الفؤاد نوراً، فأصبح يمشي على هدى من الله ونور منه، فاستسلمت الجوارح وانكسرت ذليلة لشعار لبيك اللهم لبيك»، في كل حال  وعلى علم ويقين.

نقول «لبيك اللهم لبيك» بكل ما شرع الله ونؤمن بكل ما أخبر به في كتابه العزيز والعمل به، وأن نطيع رسوله صلى الله عليه وسلم  ونتبع منهجه، في المكره والمنشط، وفي حال السراء والضراء، وفي حال اليسر والعسر، إننا نرفع شعار «لبيك اللهم لبيك» إرغاماً للنفس وإذلالاً لها لتدفع عنها الوساوس والضلالات، وتطيق العمل بالأمر والنهي، وكل ذلك من مقدورها وباستطاعتها أن يكون سعيها سمعاً وطاعة.

إن شعار «لبيك اللهم لبيك» في نظرنا يأتي بعد أن يطهر الإنسان نفسه وبدنه من كل الأدران والمعايب، إنها التوبة والرجوع إلى الله تعالى والإنابة بين يديه، ليؤكد من خلالها الاعتراف بالذل إلى الله والمسكنة له والافتقار إليه، فيتجرد من كل زينة ومن كل مخيط، فيرى في ذلك أن ما يمكنه أن يأخذ من الدنيا ومن زخرفها ومتاعها بعد العنت والمشقة في تحصيلها قماشان لا أقل ولا أكثر، ويتذكر أن الخلق كلهم بين يدي الله تعالى سواسية، فيتذكر ويتأمل في قصر الدنيا، وأنه يجب أن يملكها ولا تملكه وأن يسخرها ولا تسخره وأن يستخدمها ولا تستخدمه، فيقول «لبيك اللهم لبيك» مقبلاً على الله تعالى، مدبراً عن شهوات الدنيا ومحاسنها، فيجعلها طريقاً إلى الله تعالى، ويعلم أنه لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه، فيسخر عمره كله لله تعالى ويجعله فرصة لتصحيح المسير وتسديد الخطى وتقويم الأعمال، ويعقد العزم بكل همة وإرادة إلى السمو بنفسه إلى معالي الأخلاق وأحسنها في المناسك كلها لتصبح له سجية في تعامله مع الناس والوجود، ويجتهد في تحصيل الصفات الحميدة ومكارم أخلاق المتقين التي نص عليها القرآن الكريم ودلت عليها السنة النبوية.

إن انتقال العبد المؤمن بين مناسك الحج وهو يكرر التلبية إلى الله تعالى من أجل أن تنسجم فطرته مع فطرة الكون بالذكر والاستغفار، ويرى أنه لا فوز ولا نجاة ولا فلاح إلا بالاشتغال بتربية النفس وتهذيبها لتظفر بالتسوية والتقويم الحقيقيين، وليس الالتفات إلى المظاهر الخارجية، يقول الله تعالى: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وأنشد أبو الفتح البستي:

يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته

أتطلب الربح فيما فيه خسران؟

أقبل على النفس واستكمل فضائلها

 فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

إن التلبية تؤكد أن الدين واحد، والأمر كله لله تعالى، وأن قبلة الإنسانية واحدة، وأن عقيدة التوحيد عقيدة أهل الأرض والسماء، وأن وحدة المسلمين ممكنة، وأن التمكين في الأرض والسيادة فيها يكون بالدين وليس بشيء آخر.

إن شعار التلبية، بعد التحلل من مفاخر الدنيا، تحلل أيضاً من المظالم، ومن مظالم الناس ومن كبائر الذنوب، لأن النظر بعين العقل إلى مناسك الحج إقرار بالطاعة في الأمر والنهي، لأن العاقل يرى في صعيد منى وعرفات ومزدلفة وأيام العيد من الهدي والحلق ورمي الجمرة الكبرى وطواف الإفاضة فيتذكر أعماله ونقائصها فيجعل من قوله «لبيك اللهم لبيك» شعاراً يعيش من أجله ويقدم لنفسه من الخير ويقرض الله تعالى قرضاً حسناً، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْـمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]، ويجعل آخر عهده بطواف الوداع شعار «لبيك اللهم لبيك»، بل هو بعدما تلذذ بالأنس بالله تعالى وبنفحاته لا يشعر بالراحة ولا يجد الطمأنينة إلا في طاعة الله وعبادته.

إن من يهتف بشعار «لبيك اللهم لبيك» يجب أن يتغير حاله إلى أحسن حال، سواء ممن يسر الله له الرحلة إلى القيام بالمناسك أو عاش أيام الحج، من حيث أنها أعظم أيام الدهر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فيحسن الظن بالله تعالى، ويلجأ ببابه، ويظهر العبودية لله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه ويقضي على كبريائه، ويخلص النية ويقصد بحجه وجه الله تعالى لإكمال الدين، ولا يريد بذلك سمعة ولا رياء.

إن تلبيتنا نسترخص بها الدنيا، ونفارق من أجلها الأهل والولد لنستجيب لأمر الله وندائه، ونعانق كلمة التوحيد ونجتهد في تكرارها ولا نتوقف عنها حتى نجدد رفع الصوت بها في كل حال. نريد من التلبية أن نجدد العهد الذي أخذه الله تعالى علينا في عالم الذر، بأنه سبحانه الخالق المعبود، وأنه المستحق تعالى بأن تخضع له رقاب الخلق أجمعين، نقول «لبيك اللهم لبيك» إذعانًا كلياً وخضوعاً تاماً، واعترافاً بمعيته لنا، ونقول لبيك ربنا تصغيراً لكل ما سوى الله تعالى وتحقيراً للدنيا وملذاتها رغبة وطمعاً في مرضاتك الله تعالى ورضوانك. نقول لبيك اللهم لبيك محبة لك ولرسولك ورحمة من عندك بنا بما شرعت لنا من شرائع لأنك الله الخالق تريد لنا الخير، نقول لبيك توكلاً عليك وخوفاً من عقابك ورجاء في عفوك وكرمك، ونقول لبيك لأننا نعلم أنك تسمع وتستجيب لدعائنا وترى مكاننا وحالنا ولا يخفى عليك شيء من أمرنا، نقول لبيك اللهم لبيك اعترافاً بتقصيرنا على أوقات ضيعناها في غير طاعتك وجنابك، ونقول لبيك اللهم لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك في الربوبية ولا شريك لك في الألوهية وليس مثلك شيء في الأسماء والصفات.

إن التلبية يكررها الناسك وغيره لتصبح منهجاً وحياة وقاعدة الوجود، ونقولها بألسنتنا لتستقر في قلوبنا وتعمل بها جوارحنا، حتى لا تتصيدنا الغفلة ومفاتن الدنيا، {وَمَا الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].

إن في تداول الأيام لعبرة لنا، وفي تصرمها وانقضائها وزوالها يقظة لضمائرنا لنرتبط بالخالق سبحانه ونعبده بما شرع من الأحكام حتى نلقاه وهو راض عنا، ونعلم أننا مبتلون بالمحظورات في الدنيا، والصبر على عدم الوقوع في شراكها وفي المحرمات طاعة نرقى بها إلى الله تعالى، كما هو الأمر في اجتناب مفسدات الحج وممنوعاته، ليكون الحج حجاً تاماً مبروراً وسعياً مشكوراً.

إن الإنسان في الحج في كثرة الأعمال وانتقاله من مكان إلى مكان ومن عبادة إلى أخرى، وصبر ورباط، ولسان حاله التلبية والذكر والابتهال والدعاء وترك المراء والجدال والرفث والفسوق، تعظيماً لشعائر الله وابتغاء لمرضاته، قادر أن يواصل السير إلى الله على هذا الحال. نسأله تعالى الثبات على الدين ولسان حالنا: «لبيك اللهم لبيك».

 

 

 

أعلى