الحرب مع الكيان الصهيوني على مواقع التواصل الاجتماعي
بعد القرار الذي أصدره الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة وما تلاه من محاولات لترجمة هذا القرار على أرض الواقع، ظهرت ردود فعل غاضبة بين العرب والمسلمين، لكنها تركزت في معظمها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما أثار أجواء يأس وإحباط لدى بعض المدافعين عن مدينة القدس، وفي القلب منها المسجد الأقصى المبارك، حيث اعتبروا هذا الرد مجرد محاولة للتنفيس عن الغضب ولن يغير من مجريات الصراع ضد الكيان الصهيوني المحتل.
هذا التقليل من ردة الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي استند إلى أن المعركة ضد الكيان الصهيوني يجب أن تكون حاسمة على الأرض لاستعادة القدس وكل الأراضي المحتلة، غير أن الأمر في مسار الصراع مع الكيان الصهيوني يتطلب في حقيقته إيلاء اهتمام بالدور الفاعل لهذا الغضب الذي أظهرته الشعوب على مواقع التواصل الاجتماعي، باعتباره حلقة مهمة من الوعي الذي يستهدفه الكيان المحتل وسط كل النزاعات والصراعات التي أنهكت وشتت شعوب الكثير من الدول العربية والإسلامية.
إلى ذلك، فالتعامل مع انتفاضة الشباب العربي والمسلم على مواقع التواصل الاجتماعي على أنها مجرد محاولات يائسة يُفقد هذه التحركات زخمها المأمول في إدراجها وسط صراع عقائدي لم تحن لحظة نهايته، إلى جانب أن المعركة مع الكيان الصهيوني ليست معركة يوم أو حرباً حاسمة فقط، وإنما هي معركة تتشكل وتنمو بوعي يدركه في المقابل هذا الكيان المغتصب في عقلية الشباب والأجيال الصاعدة.
فضح المجازر الصهيونية.. وتنامي التأييد العالمي لقضية القدس:
خلال السنوات الأخيرة، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي حالة من المشاركة الفاعلة ضد الكيان الصهيوني ليس داخل العرب والمسلمين فقط، وإنما في مختلف دول العالم، وهو ما أنتج تفاعلاً إيجابياً امتد للعديد من الجنسيات وبمختلف اللغات على مواقع التواصل الاجتماعي.
إلى ذلك، لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دوراً مهماً مناهضاً للدور الإعلامي المهيمن للكيان الصهيوني، بعد أن أصبحت مصدراً رئيساً لمعرفة آخر التطورات والاطلاع على الفيديوهات الفاضحة للانتهاكات الصهيونية في الأراضي المحتلة، كما كان تصدر وسم «القدس عاصمة فلسطين الأبدية» لقائمة الوسوم الأكثر تداولاً على موقع تويتر فور إعلان ترمب القدس عاصمة للكيان الصهيوني مثالاً حياً على حجم هذا التفاعل وانتشار الوعي بطريقة لافتة شكلت تهديداً حقيقياً لحالة الهيمنة الصهيونية على وسائل الإعلام المؤثرة في العالم.
لم يتعامل الكيان الصهيوني مع ردة الفعل المناهضة له بتجاهل أو استخفاف، ولم يشعر كذلك بالنصر الكامل في هذه المعركة المدعومة من أكبر دولة عسكرية في العالم، بل جعل حالة الوعي المتصاعدة في شبابنا هدفاً إستراتيجياً للبقاء، وتعامل مع هذا التهديد على أنه جولة مهمة في الصراع، وليس مجرد شعور عابر بالغضب.
التحركات الأمنية والسياسية للكيان الصهيوني تكشف حجم القلق من الوعي المضاد له ليس خلال الوقت الراهن فقط، ولكن منذ أن تبنى إجراءات مكثفة خلال السنوات الماضية للتصدي لهذا التهديد الإلكتروني، من خلال استهداف الناشطين والمناضلين من أجل هذه القضية في الأراضي الفلسطينية، والمدافعين عنها في الفضاء الإلكتروني بالعالم العربي، إلى جانب ممارسة ضغوط على المواقع البحثية الإلكترونية الكبرى لوقف هذا الصعود في الوعي المضاد.
ضغوط على المواقع الكبرى لحذف مقاطع الفيديو والرسائل بذريعة الإرهاب:
شن الكيان الصهيوني حربه على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال إنشاء وحدة لمراقبة شبكات التواصل باللغة العربية تابعة لشعبة المخابرات العسكرية، حيث تتولى هذه الوحدة التنسيق مع مواقع وشركات عالمية لحذف مقاطع فيديو تصفها بالتحريضية.
وبحسب سلطات الكيان الصهيوني، فقد تجاوب موقعا جوجل ويوتيوب بشكل كبير مع طلبات الحذف التي طلبتها، كما كشفت وسائل إعلامية عن أن هذا التنسيق تم خلال زيارة لنائبة وزير خارجية الكيان الصهيوني إلى الولايات المتحدة منذ أكثر من عامين، حيث التقت مسؤولين في شركات بينها جوجل، واتفقت مع إدارتها على زيادة التعاون في إطار هذه الحملة التي وضعت مقاومة الاحتلال في سلة واحدة مع التنظيمات الإرهابية.
ففي 13 ديسمبر 2016م، كشفت وزيرة العدل في الكيان الصهيوني إيليت شاكيد عن أن موقعي فيسبوك ويوتيوب ومحرك البحث جوجل يمتثلون لطلبات مسح محتوى يعتبره الكيان الصهيوني «تحريضاً للفلسطينيين على العنف».
وأوضحت عقب اجتماع مع مسؤولين من فيسبوك أن معدل «الامتثال الطوعي» لهذه الشركات ارتفع من 50% إلى 95% خلال عام، وذلك بعد أن هددت الوزيرة باستصدار تشريع يتيح ملاحقة الشركات قانونياً إذا سمحت بعرض صور أو رسائل تشجع على ما وصفته بـ«الإرهاب»، لافتة إلى توجيه 120 لائحة اتهام ضد فلسطينيين في عام 2015م بشأن نشر محتوى تحريضي على موقع فيسبوك.
وتزامناً مع التحركات الصهيونية، نقلت وسائل إعلامية فلسطينية عن مركز المعلومات الوطني الفلسطيني أن 10 على الأقل من حسابات مديري الصفحتين التابعتين له باللغتين العربية والإنجليزية في موقع فيسبوك جرى إيقافها، إلى جانب تعرض صفحة حركة فتح، التي يتابعها ملايين المستخدمين، للإغلاق لفترة، بسبب صورة قديمة نشرتها للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حاملاً بندقية.
وأظهر تقرير للمركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية عام 2016م أن الإجراءات الصهيونية شملت صفحات وحسابات شخصية، منها: شبكة فلسطين للحوار، غزة الآن، شبكة قدس الإخبارية، وكالة شهاب للأنباء، راديو بيت لحم 2000، راديو أورينت، رام الله الإخباري، إلى جانب صفحات للصحفي حذيفة جاموس من قرية أبوديس، والناشط قاسم بدير، والناشط محمد غنام، والصحفي كامل جبيل، فضلاً عن حسابات أخرى لمديري الصفحات والصحفيين والناشطين، وذلك تزامناً مع تنفيذ عمليات اعتقال واسعة ضد القائمين على الصفحات النشطة.
حسابات صهيونية وهمية لنشر الفتن بين الشعوب العربية:
على الصعيد العربي، بدأ الكيان الصهيوني حربه على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مغاير منذ أكثر من عشر سنوات من خلال إنشاء وحدة «حتسف» التابعة لجهاز «الشاباك»، بحسب الموقع الرسمي لإذاعة الجيش الصهيوني، حيث كانت مهمة هذه الوحدة جمع المعلومات المهمة من خلال رصد ومراقبة موقعي التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر في الدول العربية، وتحليل التدوينات والتعليقات، لاتخاذ سياسات ووضع تصورات للتعامل مع التطورات في البلدان العربية، خاصة بعد ثورات الربيع العربي.
وفي فبراير 2012م كشفت صحيفة «هأرتس» الصهيونية أن سلاح المخابرات العسكرية الصهيونية «أمان» أنشأ وحدة تحت اسم MI لمراقبة وسائل الإعلام العربية ورصد توجهات الشعوب والتصريحات السياسية، إلى جانب متابعة الصفحات الشخصية للمسئولين العرب على مواقع التواصل الاجتماعي.
لم يضع الكيان الصهيوني مراقبة وتحليل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لدى الشعوب العربية هدفاً فقط، بل انتقل للمشاركة بشكل مباشر في توجيه دفتها في الاتجاه الذي يحقق مصالحه، عبر إنشاء آلاف الحسابات لأشخاص وهميين باللغة العربية لنشر الفتن بين الشعوب العربية وتشويه القضايا المصيرية.
تتم عملية صناعة الفتن على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال نشر تدوينات أو تعليقات باسم شخصية وهمية على أنها من دولة عربية بعينها، حيث يقوم هذا الشخص بكتابة رأيه عن الموضوعات الفاعلة المناصرة لقضايا الأمة بطريقة تحتوي انتقادات لشعب دولة عربية أخرى، وهو ما يثير حفيظة مواطني هذه الدولة التي تتعرض للانتقاد، ويشنون جملة من الانتقادات للدولة الأخرى.
وسرعان ما يتطور الخلاف إلى حالة من السباب والشتائم ينضم إليها مئات وربما آلاف من الشعوب العربية، ويتم تكرار هذا التدخل الوهمي من شخص آخر لسكب المزيد من الزيت على النار مع شعوب أخرى بالطريقة نفسها، إلى أن يتم إفراغ القضية المتداولة من مضمونها وتتحول النقاشات إلى ساحة صراع بين مواطني البلدان العربية بعيداً عن الكيان الصهيوني.
وتنشط أيضاً هذه الحسابات الوهمية على مواقع التواصل الاجتماعي تزامناً مع الهجمات الدامية التي يشنها الكيان الصهيوني، من خلال نشر صور مزيفة لضحايا فلسطينيين، حيث يتم مشاركتها على الفور من الناشطين المناهضين للاحتلال، وبعد انتشارها على نطاق واسع، يتم الكشف عن أنها لا تمت بصلة لهذه الهجمات وأنها من بلد آخر، أو مفبركة، وهو ما يحد من عملية مشاركة الصور الحقيقية الواردة من موقع الأحداث خشية الوقوع في هذه المصيدة.
من بين هذه الخدع، ظهرت صورة لضحايا مدنيين سوريين في إحدى العمليات التي شنها نظام بشار الأسد، وتم نشرها على صفحات وحسابات عربية على أنها لفلسطينيين تعرضوا لهجوم الكيان الصهيوني في عملية «عمود السحاب»، وهو ما أثار حالة تشكيك من جانب الاحتلال في بقية الصور التي رصدت مجازره ضد الفلسطينيين خلال هذه العملية، وتم استغلالها للترويج لزيف الصور الحقيقية للضحايا الفلسطينيين.
الدبلوماسية الرقمية.. محاولة للتطبيع عبر صفحات باللغة العربية:
لا يتوقف دور الاحتلال الصهيوني على مواقع التواصل الاجتماعي عند حد التدخلات الوهمية ونشر الصور الزائفة، بل يعتمد في هذه الحرب على علم الهندسة المجتمعية الذي يهدف إلى استخدام وسائل الاتصال الحديثة في تغيير المجتمعات ليس فقط من خلال التعرف على أسرارها، ولكن من خلال الدخول في تواصل صريح للتطبيع مع الشعوب العربية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
في هذا المجال، أنشأ الكيان الصهيوني قسم الدبلوماسية الرقمية بوزارة خارجيته للتأثير في الرأي العام، وإقامة علاقة مباشرة مع المواطنين العرب عبر صفحات باللغة العربية تتضمن كتابة منشورات ونشر صور وترجمات من المواد العبرية إلى العربية، لتحسين صورة الكيان المحتل.
تشمل المواد التي يشاركها قسم الدبلوماسية الرقمية معلومات مغلوطة عن حسن معاملة المسلمين داخل الكيان المحتل، وأخرى حول الديمقراطية داخله، لإعطاء صورة للمتلقي العربي بأن هذا الكيان قائم على أسس العدالة والمساواة والحرية التي تنشدها المجتمعات العربية.
وبمجرد دخول المواطن العربي هذه الصفحات للتعبير عن رأيه ولو بالسباب، يكون الكيان الصهيوني قد حقق هدفه بالتطبيع وبدأ أفراده في النقاش بردود دبلوماسية، وأحياناً بفكاهة لكسر حدة الكراهية، كما يتولى آخرون مهمة التعليق على مقالات الكتاب والصحفيين في مسعى لتطوير هذه العلاقة وبدء عملية تطبيع بدعوتهم لزيارة الكيان المحتل، إلى جانب دعوات مماثلة يتم توجيهها لشباب عرب ومسلمين من المقيمين في أوربا.
ومن خلال هذا الاهتمام المكثف من الكيان المحتل بمراقبة مواقع التواصل الاجتماعي واستهداف المناهضين تارة، وتوجيه دفة الرأي العام والسعي للتطبيع مع الشعوب العربية والإسلامية تارة أخرى، لا يمكن الاستهانة بهذه المعركة أو اعتبار ردود الفعل الغاضبة على الفضاء الإلكتروني مجرد ذر للرماد في العيون، بل هي جولة في حرب حقيقية فشل فيها الكيان الصهيوني بكل أدواته وإمكانياته في تغييب هذا الضمير العقائدي المتصاعد الذي انبثق إيذاناً بنصر عسى أن يكون قريباً.