• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
( أتى أمر الله فلا تستعجلوه )

( أتى أمر الله فلا تستعجلوه )

 سورة النحل سورة مكية، باستثناء قليل من الآي، وجاءت في الترتيب العثماني بعد سورة الحجر، وسواء كان ترتيب السور توقيفياً أو اجتهاداً من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فإنَّ براعة التناسب بينها جلية واضحة للمتدبرين، حتى لكأنك حين تقرأ القرآن الكريم تقرأ وحدة موضوعية واحدة في غاية النسق والانسجام، ومن ذلك مجيء سورة النحل بعد سورة الحجر وإبراهيم.

ولقد امتلأت سورة الحجر بالحديث عن الأمم السابقة التي كفرت بالله وحاربت دعوة الله تعالى، ومن ثَمَّ سلط الله عليها عذابه في الدنيا، ووعدها بالعذاب الأليم في الآخرة، كان ذلك عزاء لنبينا صلى الله عليه وسلم وتهديداً لمشركي مكة أنْ يصيبهم ما أصاب أمماً قبلهم كانوا أشد قوة وعمراناً، قال الله تعالى: {الـر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ 1 رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ 2 ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 3 وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ 4 مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحجر: ١ - ٥]، ومن أمثلة ذلك ما ذكره الله تعالى عن قوم صالح: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْـحِجْرِ الْـمُرْسَلِينَ 80 وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ 81 وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْـجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ 82 فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ 83 فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الحجر: 80 - 84].

لقد كان صدود قريش وعنادها محل ألمٍ في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، لكن الله أمرهم بالصفح الجميل: {وَإنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْـجَمِيلَ} [الحجر: 85]. كما أمرهم - ليتخففوا من وطأة هذا الألم - بالتسبيح والصلاة وعدم الاستعجال، وبشرهم بأنَّ فرج الله تعالى قريب: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ 97 فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ 98 وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97 - 99] فأعقبتها - بعد البسملة - هذه الآية العظيمة المزلزلة: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: ١].

فما هو أمر الله؟ ولماذا أتى هذا الأمر؟ وما هو التوجيه الرباني حيالهما؟

مكر الليل والنهار

جاءت سورة النحل بهذا الترتيب المبهر وبهذا النظم المعجز لتخاطب أعداء الدعوة المحمدية من كفار قريش، بأنَّ كفرهم لن يغني عنهم من الله شيئاً، وأنَّ حبسهم أنفسهم في سبيل صدِّ الناس عن دين الله تعالى ستكون عاقبته الإهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، وسيُزاد لهم في العذاب لأنهم ليسوا مجرد كافرين فحسب، بل لأنهم سعوا جاهدين في الصد عن دين الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: ٨٨].

لقد أكدت سورة النحل - كما هي عادة القرآن الكريم - على أنَّ هذا الدين تحاك له المكائد وتعقد له الحبائل ولا يَسلم أهله من مؤامرات أعداء الدين ولا مكائدهم.

القرآن الكريم يتحدث عن هذا كثيراً، قال الله تعالى في قصة ثمود مع صالح عليه السلام: {وَكَانَ فِي الْـمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ 48 قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإنَّا لَصَادِقُونَ 49وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 48 - 50]، فهم في إفساد مستمر لا ينقطع، ولا يريدون الإصلاح أبداً، وهم جماعة وليسوا فرداً، يتآمرون ويخططون.

أما سورة الأنبياء فقد جسَّدت حركة أعداء الدعوة التآمرية، قال الله تعالى: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: ٣]، فأخبرت عن مجالس خفية للظالمين الذين يصدون الناس عن الدعوة الإسلامية، ثم فصَّلت حديثهم في تلك المجالس: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ 3 قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 4 بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء: ٣ - ٥]. قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: «وجه إسرارهم بذلك الكلام قصدهم أنْ لا يطلع المسلمون على ما تآمروا به، لئلا يتصدى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم، لأنهم علموا أنَّ حجتهم في ذلك واهية، يرومون بها أنْ يضللوا الدهماء، أو أنهم أسروا بذلك لفريقٍ رأوا منهم مخائل التصديق لما جاء به النبيء صلى الله عليه وسلم لما تكاثر بمكة الذين أسلموا، فخشوا أنْ يتتابع دخول الناس في الإسلام، فاختلوا بقومٍ ما زالوا على الشرك، وناجوهم بذلك ليدخلوا الشك في قلوبهم».

فئة من الناس ربما خطف أبصارَهم بريق الحضارة الغربية، ولم يروا منها إلا نُتَفاً من النفاق الذي يسمونه تسامحاً وإنسانية، فقالوا: عقدة المؤامرة تسيطر على الصالحين، وإنَّ الشرق والغرب اليوم ليس متأدلجاً! وهذا الزعم مناقض لصريح القرآن الكريم، فحين يوجد الإسلام الحقيقي الناصع توجد المكائد والمؤامرات في الشق المقابل له.

وما كان لهذا التصور الفاسد لدى هذه الفئة إلا بفضل أدوات الاستعمار الحديث التي استطاعت أنْ تُزيِّن مكرَ أهلها ومكائدهم وتُلبسها لباس الرحمة والإنسانية والعدالة.

لقد كان من مكر المشركين أنَّهم يصفون القرآن الكريم بأنه افتراء على الله تعالى، وأنَّ محمداً إنما يأتي بقصصٍ تناقلتها الأجيال منذ القدم بصوابها وخطأها، وكانوا يجهدون وقتهم في إقناع الناس بهذه المقالة، قال الله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ 24 لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 24 - 25]، قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: «ذِكْرُ فِعل القول يقتضي صدورَه عن قائلٍ يسألهم عن أمرٍ حدث بينهم، وليس على سبيل الفرض، وأنهم يجيبون بما ذُكِر مكراً بالدين، وتظاهراً بمظهر الناصحين للمسترشدين المستنصحين، بقرينة قوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}». وقال: «قد ذكر المفسرون أنَّ قريشاً لما أهمَّهم أمر النبيء صلى الله عليه وسلم ورأوا تأثير القرآن في نفوس الناس، وأخذ أتباع الإسلام يكثرون، وصار الواردون إلى مكة في موسم الحج وغيره يسألون الناس عن هذا القرآن، وماذا يدعو إليه، دبَّر لهم الوليد بن المغيرة معاذير واختلاقاً يختلقونه ليُقنعوا السائلين به، فندبَ منهم ستةَ عشر رجلاً بعثهم أيام الموسم؛ يقعدون في عقبات مكة وطرقها التي يرِد منها الناس، يقولون لمن سألهم: لا تغترُّوا بهذا الذي يدَّعي أنه نبي، فإنه مجنون أو ساحر أو شاعر أو كاهن، وأنَّ الكلام الذي يقوله أساطير من أساطير الأولين اكتتبها. وكان النضر بن الحارث يقول: أنا أقرأُ عليكم ما هو أجمل من حديث محمد: أحاديث رستم وإسفنديار».

في حقيقة الأمر، لم يكن المشركون كارهين لدعوة الإسلام فحسب، بل كانوا يرسمون الخطط الممنهجة للصد عنها، ويشيدون للصد عنها بنياناً له قواعد وسقف، لا يألون جهداً وتفكيراً وإنفاقاً وبذلاً في سبيل ذلك، حتى سمى الله هذا المكر منهم بنياناً، قال تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]، قال السعدي رحمه الله: «إنهم فكروا وقدروا فيما جاءت به الرسل لما كذبوهم، وجعلوا لهم أصولاً وقواعد من الباطل يرجعون إليها، ويردون بها ما جاءت به الرسل، واحتالوا أيضاً على إيقاع المكروه والضرر بالرسل ومن تبعهم».

وفي تقرير آخر تحدث القرآن على لسان الأتباع المستضعفين الذين كانوا ضحية الصد الممنهج، عن دين الله تعالى، الموصول ليله بنهاره، إذ يقولون: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} [سبأ: ٣٣]، قال ابن عطية: وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما، ولتدل هذه الإضافة على الدؤوب والدوام.

أما نوح عليه السلام فقد وصف مكرهم بأنه «كُبَّار»، قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إلَّا خَسَارًا 21 وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 21، 22]، قال البغوي رحمه الله تعالى: أيْ كبيراً عظيماً، يقال: كبير وكبار بالتخفيف وكبّار بالتشديد، كلها بمعنى واحد، كما يقال: أمر عجيب وعجاب وعجّاب بالتشديد، وهو أشد في المبالغة. وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: «المكر: إخفاء العمل، أو الرأي الذي يراد به ضر الغير، أي مكروا بنوح والذين آمنوا معه بإضمار الكيد لهم حتى يقعوا في الضر. قيل: كانوا يدبرون الحيلة على قتل نوح وتحريش الناس على أذاه وأذى أتباعه».

لقد تكررت آيات المكر في القرآن الكريم كثيراً لتخبرنا أنَّ المكر الممنهج سنة ربانية كونية حتمية، مرتبطة الوجود بالدعوة إلى الله تعالى، فلا مناص لأهل الدعوة من استيعاب هذه الحتمية، وأنْ تكون على بالٍ منهم إذْ يجتازون مفازات العمل لدين الله ودعوته.

بشائر الفرج وتهاني النصر:

عوَّدنا القرآن الكريم بتكرار البشارة بالفرج أو النصر في مدلهمات الكروب والمحن، فحين تجهمت وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرجعهم من الحديبية، وقد صُدُّوا عن زيارة البيت الحرام، جاءت البشرى بالفتح المبين: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا 1 لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا 2 وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: ١ - ٣].

وحين تآمر الرهط على نبي الله صالح مكَر الله تعالى بهم مكْراً حاق بهم، قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 50 فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ 51فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 52وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 50 - 53]. نعم لقد كانوا يمكرون ويخططون ويبذلون نفائس الأوقات والأموال لهذا الغرض، لكن الله تعالى بصير بما يعملون، محيط بهم من ورائهم، ما كان له أنْ يخذل عباده المؤمنين، أو أنْ يترك دينه لألاعيب السافلين، ولذلك ينزه الله تعالى عنه في هذه المواضع من كتابه، ويأمر المؤمنين أن يسبحوا بحمده، كما هو ظاهر في آخر سورة الحجر وأول سورة النحل، وغير ذلك من المواضع.

بل من بشائر الفرج التي يثنِّي اللهُ تعالى ذكرها في كتابه: أنه يقْلب كيدهم الذي اجتهدوا في تأسيسه إلى كيدٍ ضارٍ بهم وبما يقصدون إليه، فقال تعالى في معرض قصة أصحاب الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ 1 أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ 2 وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ 3 تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ 4فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: ١ - ٥]. قال الزجاج رحمه الله تعالى: «كان من قصة أصحاب الفيل أنَّ قوماً من العرب - وكانوا ببلاد النجاشي - وكانوا بحضرة بيت هو مصَلَّى للنصارى وأصحاب النجاشي. فأججوا ناراً استعملوها لبعض ما احتاجوا إليه، ثم رحلوا ولم يطفئوها، فحملتها الريح حتى أحرقت البيت الذي كان مصلاهم ومَثابة للنجاشي وأصحابه، فقصد مكة مقَدِّراً أَن يَحرقَ البيت الحرام ويستبيح أهل مكة. فلما قربوا من الحرم لَمْ تَسِرْ بهم دوابهم نحو البيت، فإذا عطفوها راجعين سارتْ. فوعظهم اللَّه بأبلغ موعظة، فأقاموا على قصد البيت وعلى أن يحرقوه، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، فجعل كيدهم في تضليل، أي في ذهاب وهلاك، وكان مع كل طائر ثلاثةُ أحجار، حجرٌ في منقاره وحجران في رجليه، يقع الحجر منها على رأس الرجل فيخرج من دبره على كل حجر اسم الرجل الذي وقع عليه». فلم يفلحوا في هدم وإحراق البيت الحرام، ولم يستطيعوا الحفاظ على مصلاهم المخترع بديلاً عن الكعبة، وكانت مملكة أبرهة نصرانية تتبع الحبشة، وتريد أنْ تتمدد وتتوسع. وكانت العرب قد سمعت بقدوم جيش أبرهة نحو مكة وبإرادته حرب الله تعالى في بيته الحرام، فكانت القبائل تصغي آذانها توجساً وانتظاراً للهيمنة الحبشية القادمة، فبينا هم على هذا الحال؛ إذ جاءهم البشير أنَّ الله تعالى وحده أهلك أبرهة وجيشه، وحمى بيته الحرام، وعادت هيبة البيت الحرام أقوى وأشد من ذي قبل، وبذلك انعكس مقصود أبرهة ومعاونيه من إهانة البيت الحرام وأهله إلى تعظيمه في قلوب الناس وازدياد هيبة أهله، وكان لهذا الحدث العالمي وقعه العميق في نفوس العرب، وتهيئة لمبعث النبي العربي المكي! فكان كيدهم الذي كادوه كيداً عليهم وليس لهم، وهذا معنى قوله تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} أي أضلَّ كيدهم.

أما في سورة النحل، فقد سمى الله تعالى موعوده الذي فيه بشائر الفرج {أَمْرُ اللَّهِ}، وأخبرنا سبحانه أنَّ هذا الموعود مجزوم به مقطوع بتحققه، فذكره في صيغة الماضي لا المستقبل، قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}.

قال الزجاج رحمه الله تعالى: «ذلك أنهم استعجلوا العذاب واستبطأوا أَمْرَ الساعة، فأعلم الله أن ذلك في قُرْبهِ بمنزلة ما قد أتى». وأمر الله هو عقابه للكافرين في الدنيا، هذا هو مفهوم الآية من خلال وروود لفظة «الأمر» في مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: 24]، وغيرها من الآيات، قال السمعاني رحمه الله تعالى: «الأكثرون على أنَّ المراد منه: عقوبته وعذابه للمكذبين الجاحدين». وقال ابن عطية رحمه الله تعالى: «قوله {أَمْرُ اللَّهِ} قال فيه جمهور المفسرين: إنه يريد القيامة وفيها وعيد للكفار، وقيل: المراد نصر محمد عليه السلام، وقيل: المراد تعذيب كفار مكة بقتل محمد صلى الله عليه وسلم لهم وظهوره عليهم، ذكر نحو هذا النقاش عن ابن عباس». وفي السورة نفسها جاء فعل الإتيان {أَتَى} في هذا المعنى، كما قال تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26]، قال الزجاج رحمه الله تعالى: «روي أنَّ ذلك في قصة نمرود بن كنعان، بنى صرحاً يمكر به، فخرَّ سقفه عليه وعلى أصحابه. وقال بعضهم: هذا مثَل؛ جُعلت أعمالهم التي عملوها بمنزلة الباني بناءً سقط عليه، فمضرَّةُ عملهم عليهم كمضرة الباني إذا سقط عليه بناؤه». وقال القرطبي رحمه الله تعالى: «وقيل: إن قوله: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} تمثيل، والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه. وقيل: المعنى أحبط الله أعمالهم، فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه. وقيل: المعنى أبطلَ مكرهم وتدبيرهم فهلكوا، كما هلك من نزل عليه السقف من فوقه». وذلك من حكمة الله تعالى في خلقه وأمره، ومن رحمته بعباده المؤمنين الموحدين، أنه يجعل عاقبة المكر والصد والحرب على الدعوة عاقبة جميلة حسنة مبهجة للمؤمنين، وقد قرر القرآن كثيراً أنَّ العاقبة تكون في كفة المؤمنين والمستضعفين.

قال محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى، في سياق قصة نوح عليه السلام حين سخر قومه منه: «المعنى أنَّ الله تعالى قد أخبرَ رسولَه خبراً مؤكداً بصيغة القسم أنَّ الكفار قد استهزأوا برسلٍ كرام مِنْ قبله، فما يراه من استهزاء طغاة قريش ليس بدعاً منهم، بل جروا به على آثار أعداء الرسل قبلهم، وقد حاق بأولئك الساخرين العذابُ الذي أنذرهم إياه أولئك الرسلُ على استهزائهم جزاءً وفاقاً، حتى كأنه هو الذي حاق بهم لأنه سببه وجاء على وفقه. فالآية تعليم للنبي صلى الله عليه وسلم سننَ الله في الأمم مع رسلهم، وتسلية له عن إيذاء قومه، وبشارة له بحسن العاقبة وما سيكون له من إدالة الدولة، وقد كان جزاء المستهزئين بمن قبله من الرسل عذاب الخزي بالاستئصال، ولكن الله كفاه المستهزئين به فأهلكهم، ولم يجعلهم سبباً لهلاك قومهم، وامتن عليه بذلك في سورة الحجر إذ قال: {إنَّا كَفَيْنَاكَ الْـمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]، والمشهور أنهم خمسة من رؤساء قريش هلكوا في يوم واحد. ولما كان أمر المستهزئين بالرسل يؤول إلى الهلاك بحسب سنة الله المطردة فيهم مما يرتاب فيه مشركو مكة الذين يجهلون التاريخ، ولا يأخذون خبر الآية فيه بالتسليم؛ أمَرَ الله تعالى رسوله بأنْ يدلَّهم على الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11].

فهل بعد هذا التقرير القرآني يتسلل إلى قلبك اليأس من الظهور المؤقت للباطل وأهله! أو يتسلل إلى مخيلتك أنَّ الزمان انقلب وأنَّ الدين اندرس وأنَّ المؤمنين مخذولون!

هل ولج سوء الظن بالله العظيم إلى نفسك؟ ألم يغرق اللهُ تعالى قومَ نوح العتاة؟ ألم ينج نوحاً ومن معه آنذاك؟ ألم ينج الله صالحاً والذين اتقوا معه؟

لم يكن فرعون يظنُّ أنَّ الرضيع موسى الذي يتنشأُ تحت ملاحظته ويتربى في كنفه أنه سيقود دعوة تسحق دولته وتغرقه وجنوده في موقعة «اليمَّ».

ولم يتوقع الملأ من قوم فرعون يوماً أنَّ أولئك الرقيق والضعفاء من بني إسرائيل المستعبدين لهم.. أنهم سيرثون مصر من بعدهم، وينكحون نساءهم، ويتمتعون بخيرات بلادهم!

في السنة الخامسة من البعثة كان في مكة شباب صغار يهانون ويعذَّبون بأيدي الأسياد وأصحاب الكلمة من قريش، أما بعد عشر سنوات من ذلكم الحين فقد قام هؤلاء الشباب بقتل كل أولئك الأسياد وإلقاء جثثهم في القليب وكسر دولتهم، في حدَث تاريخي كوني، إنه غزوة بدر.

ولم يدر بخلد التتار المغول، الذين دمروا خوارزم واستباحوا أرضها ونساءها أنَّ الطفل قطز الذي اختطفوه وباعوه في سوق الرقيق.. أنه سيكسر دولتهم ويهزم جيشهم شرَّ هزيمة، في معركة من معارك التاريخ المفصلية والخالدة عين جالوت، كان بين الحدثين قرابة ثلاثين عاماً!

ولا شكَّ أنَّ انتشار كتب ومقالات شيخ الإسلام ابن تيمية اليوم في أصقاع الأرض أكثر وأوسع من انتشارها في زمانه قبل 700 عام.

ألا ترى إقبال الناس على الإسلام؟ ألا ترى أفواج الشباب المتراصة في محراب الصلاة؟ ألا ترى تزايد أعداد المحجبات من بنات المسلمين؟

كم بالله من شاب في سن المراهقة يحفظ كتاب الله تعالى؟ وكم من فتاة تغدو كل يوم أو تروح نحو مجالس القرآن والسنة؟

هل استطاعت قوى الاستعمار أنْ تطمس معالم الدين؟ وهل استطاعت أنْ تطفئ جذوة الإيمان في قلوب الناس؟ في الوقت الذي يحارب فيه الغربُ الإسلام ينتشر هو في الغرب! ففي بريطانيا مثلاً تضخم عدد المسلمين في العقود الثلاثة الأخيرة ليتحول من 80 ألفاً إلى 2,5 مليون مسلم، وستكون فرنسا مسلمة قريباً من عام 2065م، أما ألمانيا فقد صرَّح المكتب الفيدرالي للإحصاء بأنَّ ألمانيا ستصبح دولة إسلامية بحلول 2050م. لا يجوز بحالٍ أن يرقَّ يقينك بقول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ 32 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْـحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْـمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32، 33].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «فمنْ ظنَّ بأنه لا ينصر رسولَه، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً؛ فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإنَّ حمدَه وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أنْ يُذِلَّ حزبَه وجنده، وأنْ تكون النصرةُ المستقرة والظفرُ الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمنْ ظنَّ به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله، وكذلك منْ أنكر أنْ يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته، وكذلك منْ أنكر أنْ يكون قدَّر ما قدَّره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأنَّ ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها، وأنَّ تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له فما قدرها سدى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: ٧٢].

ارفع عنك هذه الحجب المتكدسة أمام عينيك، والتي تمنعك من رؤية المستقبل الجميل الذي صنعه الله تعالى وحده، وانظر إلى ثمَّ، ثم انطلق!

واجبات المحنة:

لا يعني بحالٍ من الأحوال الفرح ببشارة الله تعالى للمؤمنين أنْ تتخدَّد يدك منتظراً إياها، فهناك عدد من الواجبات ينبغي الاهتمام بها في زمن المحنة، سأعرضها من خلال بعض الآيات، بما يناسب المقام، ويمكننا تصنيف هذه التوجيهات الربانية إلى ثلاثة، إذ بها تكتمل منظومة الواجبات المحتمات في المحن والنوازل والبلايا التي تعرض للدعوة الإسلامية.

أولاً: اليقين بموعود النصر والفرج والاطمئنان للعاقبة الجميلة التي تشتفي بها قلوب المؤمنين، ويهلك بها أعداء دعوتهم: فالله أخبر خبراً يقيناً أنه كفى عبده مؤونة التصدي للمستهزئين، وهذا اليقين ينبغي أنْ يكون مورثاً للعمل، لذلك جاءت الآيات على هذا النسق، وارتبط فيها اليقين بالأمر بالصدع: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـمُشْرِكِينَ صلى الله عليه وسلم٤٩^صلى الله عليه وسلم) إنَّا كَفَيْنَاكَ الْـمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: ٤٩، ٥٩]، قال ابن عطية رحمه الله تعالى: «أعلمه الله تعالى بأنه قد كفاه المستهزئين من كفار مكة ببوائق إصابتهم من الله تعالى، لم يسع فيها محمد ولا تَكلَّف فيها مشقة، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير: المستهزئون خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة، وهو ابن غيطلة، وهو ابن قيس». قال القرطبي رحمه الله تعالى: «كانوا خمسة من رؤساء أهل مكة، وهم الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة، أهلكهم الله جميعاً، قيل يوم بدر، في يوم واحد، لاستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم».

إنَّ اليقين بنصر الله تعالى خير باعث للسكينة التي يحتاجها سالكو طريق الدعوة إلى الله، إذْ يرون أبواب النصر مشرعة من خلف ركام المحن والرزايا.

واليقين بنصر الله تعالى مفضٍ إلى التؤدة وعدم استعجال النتائج، فلا بد من سنة مداولة الأيام بين الحق والباطل، ولا بد من تمحيص أهل الحق وابتلائهم، فما هي إلا أيام وتعود الدولة لهم وتنصب الراية لفريقهم.

واليقين بنصر الله تعالى هو الباب الأقرب للنفوذ إلى باحة الصبر، فطريق الدعوة إلى الله وعر صعب، وسالكوه يعالجون وعثاءه وعقباته ويتأوهون من لأوائه.

واليقين بنصر الله تعالى يحتِّم عليك صفات الأنبياء السامية كالحلم والأناة والتريث؛ فلا استجابة سريعة لاستفزازات أعداء الدعوة، ولا ردود أفعال غير مستقيمة، وهو بمثابة اللجام الذي يمنعك من القفز فوق المراحل ومحاولة اختصار الطريق في الدعوة إلى الله تعالى، إنه باختصار يضعك في مربع الفعل ويحميك من الدخول في مربع ردود الفعل، قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: ٠٦].

يا قوم! والله إننا بحاجة إلى هذا اليقين، كحاجتنا إلى الماء البارد عند العطش، أو أشد، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: ١].

ثانياً: الاستمرار في الدعوة إلى الله تعالى، والثبات على طريقها: دون ملل، أو استبطاء تمكين، أو يأس من إصلاح، أو خوف طاغية، أو خشية فوات دنيا، قال الله تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} [الحجر: ٨٨].

الثبات على طريق الدعوة إلى الله تعالى والمداومة على فعل أسباب الإصلاح هو منهج الأنبياء عليهم السلام، فلم تكن الحادثات تقعدهم أو تخيفهم، قال نوح عليه السلام: {رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا صلى الله عليه وسلم!٥!صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إلَّا فِرَارًا صلى الله عليه وسلم!٦!صلى الله عليه وسلم) وَإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا صلى الله عليه وسلم!٧!صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا صلى الله عليه وسلم!٨!صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا} [نوح: ٥ - ٩].

وفي سورة الحجر، وفي زهو أهل الباطل وخضم صدهم عن دين الله تعالى، أمر الله نبيه بالصدع بأمر الله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـمُشْرِكِينَ صلى الله عليه وسلم٤٩^صلى الله عليه وسلم) إنَّا كَفَيْنَاكَ الْـمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: ٤٩، ٥٩].

أما في سورة النحل فقد أمر الله في ختامها بالدعوة إليه سبحانه، بحسب الأحوال المقتضية لاختلاف طرق الدعوة، قال تعالى: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْـمُهْتَدِينَ} [النحل: ٥٢١].

مشروعك الدعوي الذي تقوم على تشييده وبنائه، وتحرص على تحقيق أهدافه ونتائجه هو بمثابة امتثالٍ حقيقي لتوجيه الآيات السابقة، هو السلاح الناعم، والحرب الباردة التي تقلب ليل المتآمرين إلى عتمة وزمهرير، لا شيء آخر في مواجهة ما تعانيه هذه الأمة سوى أنْ يكون لك مشروع، أو أنْ تشارك إخوانك في مشروعهم الدعوي، حتى يأذن الله تعالى بالفرج وينزل النصر وقد أريتَ الله تعالى من نفسك خيراً؛ {مَا كَانَ لأَهْلِ الْـمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِـحٌ إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ صلى الله عليه وسلم٠٢١صلى الله عليه وسلم) وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: ٠٢١، ١٢١].

ثالثاً: الازدياد من رصيد التعبد: إنه الحصن الذي يحمي القلوب من تسلل الخوف والرهبة، ومن تسلل الملل والاستبطاء، ومن تسلل الحزن والضيق، إنه ينشر في القلوب ضوء البصيرة ونور الحكمة وقناديل الاهتداء، ويضخ في القلوب دماء الحياة ودفقات الأمل.

لطالما يربي القرآن أهله وأصحابه على هذا المعنى، إنه يؤكد على أهمية وجود مضخة الحياة في قلوب الدعاة والمصلحين، حتى لا تموت، وحتى لا يخفت أثر الدعوة، وحتى تكون قادرة على الاستمرار والثبات.

- {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ صلى الله عليه وسلم٧٩^صلى الله عليه وسلم) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ صلى الله عليه وسلم٨٩^صلى الله عليه وسلم) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: ٧٩ - ٩٩].

- {فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا صلى الله عليه وسلم!٥!صلى الله عليه وسلم) إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا صلى الله عليه وسلم!٦!صلى الله عليه وسلم) فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ صلى الله عليه وسلم!٧!صلى الله عليه وسلم) وَإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٥ - ٨].

- {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى صلى الله عليه وسلم!٩!صلى الله عليه وسلم) عَبْدًا إذَا صَلَّى صلى الله عليه وسلم٠١^صلى الله عليه وسلم) أَرَأَيْتَ إن كَانَ عَلَى الْهُدَى صلى الله عليه وسلم١١^صلى الله عليه وسلم) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى صلى الله عليه وسلم٢١^صلى الله عليه وسلم) أَرَأَيْتَ إن كَذَّبَ وَتَوَلَّى صلى الله عليه وسلم٣١^صلى الله عليه وسلم) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى صلى الله عليه وسلم٤١^صلى الله عليه وسلم) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ صلى الله عليه وسلم٥١^صلى الله عليه وسلم) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ صلى الله عليه وسلم٦١^صلى الله عليه وسلم) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ صلى الله عليه وسلم٧١^صلى الله عليه وسلم) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ صلى الله عليه وسلم٨١^صلى الله عليه وسلم) كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: ٩ - ٩١].

- {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: ٥٤].

كل هذه الآيات وغيرها الكثير جاءت في سياق المعاناة الدعوية. يرشد الله تعالى إلى بلسم جروح الدعاة والمصلحين، ليحافظوا على أورادهم من الصلاة وتلاوة القرآن والتسبيح وذكر الله تعالى، ففيها الطمأنينة والسكينة، وفيها الظفر والفلاح، وفيها الحكمة وتثوير المعاني الإيمانية، وفيها الرفعة في الدرجات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: ٥٤].

وهنا تنبيه مهم، لم تُغفله الآيات الكريمة حين وجَّهت المؤمنين إلى الصواب من الأعمال في هذه الظروف، وهو النهي عن الحزن، ذلك الشعور الذي يعطِّل صاحبه عن العمل والإنجاز، أو يسبغ نشاطه بالثقل، فيجعل من خطوات صاحبه ثقيلة بطيئة، الشعور الذي يمنع رؤية المستقبل ويقتل الفأل والأمل ويفتح الباب لوساوس الشيطان. لقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مراراً: لا تحزن: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِـــينَ} [الحجر: ٨٨]، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: ٧٢١].

وقالها الملائكة للوط عليه السلام: {وَلَـمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: ٣٣].

وقالها جبريل لمريم بنت عمران حين وضعت عيسى عليهما السلام: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: ٤٢].

وأوحاها الله تعالى إلى أم موسى عليه السلام: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْـمُرْسَلِينَ} [القصص: ٧].

وقالها الله تعالى للمؤمنين عقب كسرتهم في أحد: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: ٣٩١]. قال قتادة: «يعزي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما تسمعون، ويحثهم على قتال عدوهم، وينهاهم عن العجز والوهن في طلب عدوهم في سبيل الله». وقال السعدي: «إنَّ الحزنَ في القلوب والوهنَ على الأبدان زيادةُ مصيبة عليكم، وعونٌ لعدوكم عليكم، بل شجعوا قلوبكم وصبروها، وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على قتال عدوكم، وذكر تعالى أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان، ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمن المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك».

ولطرد هذا الشعور المؤلم أرشد الله تعالى إلى ذكره والاتصال به: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ صلى الله عليه وسلم٧٩^صلى الله عليه وسلم) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: ٧٩، ٨٩].

هنا تكتمل التوجيهات الربانية التي تنظر إلى السلوك والوجدان، وتنظر إلى أفعال أعداء الدعوة وأفعال الدعاة، إنها التربية القرآنية التي تستحق منا أنْ نعكف على أنْ ننهل من معينها الريان، فأين التلاؤون؟ وأين المتدبرون؟

اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونسألك برد اليقين.

  

أعلى